Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 68, Ayat: 34-43)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ للمتقين عند ربهم } في الآخرة ، أو : في جوار القدس { جناتِ النعيم } أي : جنات ليس فيها إلاَّ التنعُّم الخالص عن شائبة ما ينقصه من المكدّرات ، وخوف الزوال ، بخلاف جنات الدنيا ونعيمها ، وقال بعضهم : لهم جنات النعيم ، مِن صفتها : أنَّ العبد فيها مُقيم ، والنبي فيها نديم ، والمضيف فيها الكريم ، والثواب فيها عظيم ، والعطاء فيها جسيم ، والحزن فيها عديم . هـ . { أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين } ، تقرير لِما قبله من فوز المتقين بجنات النعيم ، ورَدٌّ لما يقوله الكفرة عند سماعهم لحديث الآخرة ، وما أعدّ للمسلمين ، فإنهم كانوا يقولون : إن صحّ أنَّا نُبعث كما يزعم محمد ومَن معه ، لم يكن حالنا وحالهم إلاَّ مثل ما هي في الدنيا ، لم يزيدوا علينا ، ولم يفضلونا ، فرَدّ الله عليهم . والهمزة للإنكار ، والعطف على مُقدّر يقتضيه المقام ، أي : أنحِيفُ في الحُكم ، فنجعل المسلمين الذين كابدوا مشاقَ الطاعات ، وترك المخالفات ، كالكافرين الذين عُجِّلت طيباتهم في الحياة الدنيا ، ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد والتشديد : { ما لكم كيف تحكمون } هذا الحُكم الأعوج ، وهو التسوية بين المطيع والعاصي ، كأنَّ أمر الجزاء مُفوض إليكم ، تحكمون فيه كيف شئتم ! وهو تعجيب واستبعاد وإيذان بأنه لا يصدر عن عاقل . { أم لكم كتاب } نازل من السماء { فيه تدرُسُون } تقرؤون في ذلك الكتاب ، { إنَّ لكم فيه } أي : في ذلك الكتاب { لَمَا تخيَّرون } أي : إن ما تختارونه وتشتهونه حاصل لكم ! والأصل : تدرسون أنَّ لكم ما تتخيرون ، بفتح " أنّ " لأنه مدروس ، لوقوع الدرس عليه ، وإنما كسرت لمجيء اللام في خبره ، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس بلفظه ، كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلأَخِرِينَ سَلَـٰم عَلَى نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِين } [ الصافات : 78 ، 79 ] أي : تركنا عليه السلام على قولٍ . وتخيّر الشيء واختاره : أخذ خيره . { أم لكم أَيْمَانٌ علينا } أي : عهود مؤكدة بالأيمان { بالغةٌ } متناهية في التوكيد { إِلى يوم القيامة } متعلق بالمقدّر في { لكم } أي : ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، أو : بـ " بالغة " ، أي : تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه ، وافرة لم تبطل منها يمين ، إلى أن يحصل المقسَم عليه من التحكيم ، { إِنَّ لكم لَمَا تحكمون } به لأنفسكم ، وهو جواب القسم ، لأنَّ معنى { أم لكم أَيمان علينا } : أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد وقلنا والله إنَّ لكم لَمَا تحكمون { سَلْهُمْ } أي : المشركين ، وهو تلوين للخطاب ، وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب ، أي : سَلْهم مبكتاً لهم : { أَيُّهُم بذلك } الحكم { زعيمٌ } كفيل بأنه لا بد أن يكون ذلك . { أم لهم شركاءُ } أي : ناس يُشاركونهم في هذا القول ، ويذهبون مذهبهم فيه ؟ { فليأتوا بشركائهم إِن كانوا صادقين } في دعواهم ، إذ لا أقل من التقليد فيه ، يعني : أنَّ أحداً لا يسلّم لهم هذا ، ولا يساعدهم عليه ، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد لهم بعد عند الله ، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله هذا ، وإنما هو اختلاق وأماني من أنفسهم . وقيل : المراد بالشركاء : الأصنام ، أي : أم لهم أصنام يعبدونها تضمن لهم ذلك ؟ فليحضروها حتى يسمعوا منهم ذلك ، وهو تهكُّم به . واذكر { يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ } ، وجمهور المفسرين على أن الكشف عن ساق عبارة عن شدة الأمر ، وصعوبة الخطب ، أي : يوم يشتد الأمر ويصعب ، وقيل : ساق الشيء : أصله الذي به قوامه ، كساق الشجرة وساق الإنسان ، أي : يوم يُكشف عن أصل الأمر ، فتظهر حقائق الأمور وأصولها ، بحيث تصير عياناً . وتنكيره للتهويل العظيم . قال النسفي : ولا كشف ثمَّ ولا ساق ، ولكن كنّى به عن شدة الأمر لأنهم إذا ابتلوا بالشدّة كَشفوا عن الساق ، وقال : كشفت الحرب عن ساقها ، وهذا كما تقول للشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثَمَّ ولا غل ، وإنما هو كناية عن البخل ، وأمّا مَن شبّه فلِضيق عِطفه وقلّة نظره في علم البيان ، ولو كان الأمر كما زعم المشبَّه لكان من حقِّ الساق أن يُعرَّف لأنها ساق معهودة عنده . هـ . قلت : انظر الثعلبي ، فقد نقل أحاديث الحشر ، وكلها تدل على أنَّ كشف الساق حقيقة ، وذكر حديث أبي موسى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { يوم يُكشف عن ساق } قال : عن نور عظيم ، يخرُّون له سجداً " ، ثم ذكر حديث الحشر بتمامه ، ومَن كحّل عينيه بإثمد التوحيد الخاص لم يصعب عليه أمثال هذه المتشابهات إذ الحق جلّ جلاله غير محصور ، بل يتجلّى كيف شاء ، وقد ورد أنه يتجلّى لفصل عباده ، فيجلس على كرسيه ، وورد أيضاً في حديث كشف الساق : أنه يتقدّم أمامهم بعد كشف الساق وسجود المؤمنين له ، ثم ينطلق بهم إلى الجنة . ذكر الحديث المنذري وغيره ، ونقله المحشي الفاسي في سورة البقرة ، عند قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلآ أّن يَأْتِيَهُمُ ٱللهُ } [ البقرة : 210 ] الآية ، وليس هذا تجسيم ولا حصر إذا ما في الوجود إلاّ تجليات الحق ، ومظاهر ذاته . ثم قال تعالى : { ويُدْعَون إِلى السجود } توبيخاً وتعنيفاً على تركهم له في الدنيا ، وتحسُّراً لهم على تفريطهم في ذلك ، لا تكليفاً ، إذ ليست دار تكليف ، { فلا يستطيعون } ذلك لأنَّ ظهورهم تصير كصياصي البقر ، وفيه دلالة على أنهم يقصدون السجود فلا يتأتى منهم ذلك . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : تَفقُم أصلابهم ، أي : تُرد عظماً بلا مفاصل ، لا تثنى عند الرفع والخفض . وفي الحديث الصحيح : " يخرُّون لله سُجداً أجمعون ، ولا يبقى أحد كان يسجد لله رياء وسمعة ونفاقاً إلاَّ صار ظهره طبقاً واحداً ، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه " . { خاشعةً أبصارُهم } أي : ذليلة ، حال من الضمير في " يُدْعَون " ، أي : يُدعون في حال خشوع أبصارهم ، ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها ، { تَرْهَقهم } أي : تلحقهم وتغشاهم { ذلَّةٌ } شديدة ، { وقد كانوا } في الدنيا { يُدْعَون } على ألسنة الرسل { إِلى السجود } ، والأصل : إليه ، وإنما أظهر لزيادة التقرير ، أو : لأنَّ المراد به الصلاة بما فيها من السجود ، والدعوة دعوة تكليف ، { وهم سالِمون } متمكنون منه أقوى تمكُّن ، فلا يُجيبون إليه ويأبونه ، وإنما لم يذكره معه لظهوره . الإشارة : إنَّ للمتقين ما سوى الله عند ربهم في حضرة قدسه ، جناتِ النعيم ، وهي جنات المعارف في نعيم دوام الشهود والرؤية ، أفنجعل المسلمين المنقادين لأحكامنا القهرية والتكليفية ، كالمجرمين العاصين ، ثم وبَّخ مَن سوَّى بينهم وطالبه بالحجة . وقوله تعالى : { يوم يُكشف عن ساق } أي : يوم يتجلّى لعباده بنور من نور ذاته ، على صورة آدم ، تشريفاً لهذا الآدمي ، وفي الحديث : " إن الله خلق آدم على صورته " أي : على صورته التي يتجلّى بها لعباده في المحشر وفي الجنة ، ولا يفهم هذا إلاَّ الغواصون في بحر الأحدية ، وحسْب مَن لم يبلغ مقامهم التسليم ونفي التشبيه ، فالعارفون يعرفون الله في جميع تجلياته ، ولا ينكرونه في شيء منها ، وأمّا ما ورد في حديث التجلِّي الأول لأهل المحشر فيُنكرونه ، ويقولون : " حتى يأتينا ربنا " ، فإنما يقول ذلك علماء الظاهر ، أهل الدليل ، وأما العارفون فقد عرفوه وأقرُّوه ، وسكتوا ستراً للسر الذي عرّفهم به ، ولذلك كتب ابن العربي الحاتمي إلى الفخر الرازي فقال : تعال نعرِّفك بالله اليوم ، قبل أن يتجلّى لك يوم القيامة ، فتُنكره فيمن يُنكره . هـ . وقال الورتجبي : أخبر الله سبحانه أنه يكشف يوم الشهود لعشاقه وأحبابه ومُشتاقيه وعُرفائه عن بعض صفاته الخاصة ، ويتجلّى منها لهم ، وهو كشف في ستر الغَيرة عن أسرار القِدَم ، فيُشاهدونها ، فيُدعَون إلى السجود من حيث غشيتهم أنوار العظمة ، حتى لا يحرقوا في كَشفِ سر الصفة فإنها موضع العظمة والكبرياء ، وبُدُوّ لطائف أنوار أسرار الذات تظهر في لباس الالتباس ، حتى لا يفنيهم فناء لا بقاء بعده ، والمقصود منه زوائد المحبة ، والنظر إلى وجود العظمة . هـ . قلت : وحاصل كلامه : أنّ الحق تعالى إنما تجلّى لعباده في الصورة الآدمية ، حتى كشف عن ساقه غِيرةَ على سر الربوبية أن يظهر ، وهو المراد بقوله : يكشف لعشاقه عن بعض صفاته ، ويتجلى منها أي : من تلك الصورة لهم ، وهو كشف في ستر الغيرة . وأيضاً : لو كشف لهم عن أسرار جبروته بلا واسطة لاحترقوا ، لكن تجلّى بأنوار صفاته ليطيقوا رؤيته ، يظهر لهم في لباس الالتباس ، وهو إظهار الصورة الآدمية ، ليبقوا بين فناء وبقاء ، بين سكر وصحو ، ولو تجلّى بأسرار ذاته الأصلية لاحترقوا ، أو سكروا بلا صحو ، وفنوا بلا بقاء . والله تعالى أعلم . ثم ذكر استدراجه للكفرة ، فقال : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } .