Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 44-50)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { فَذَرْني ومَن يُكذِّب بهذا الحديث } أي : القرآن ، والمعنى : كِلّ أمره لي ، وخلِّ بيني وبينه ، فإني أكفيك أمره لأني عليم بما يستحق من العذاب ، ومطيق له . والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية ، أي : إذا كان حالهم في الآخرة كذلك فذرْني ومَن يُكَذِّب بالقرآن ، وتوكل عليّ في الانتقام منه ، { سنستدرجُهم } سنُدْنيهم من العذاب درجة درجة ، يقال : استدرجه إلى كذا ، أي : استنزله إليه درجة بدرجة حتى يورطه فيه ، واستدراجه تعالى للعصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة ، فيجعلون رزقَ الله ذريعة إلى معاصيه . والجملة استئناف مسوق لبيان التعذيب المستفاد من الأمر إجمالاً في قوله : { فذرني } والضمير لـ " من " ، والجمع باعتبار معناها ، كما أنَّ الإفراد في " يُكذِّب " باعتبار لفظها ، أي : سنسوقهم إلى العذاب { من حيث لا يعلمون } أي : من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج ، قيل : كلما جدّدوا معصيةً جدّدنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها . قال صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيت الله تعالى يُنعم على عبد ، وهو مقيم على معصية ، فاعلم أنه مُستدرج " ثم تلا هذه الآية . { وأُمْلِي لهم } وأمهلهم ليزدادوا إثماً ، وهم يظنون أنه لإرادة الخير بهم ، { إِنَّ كيدي متينٌ } قوي شديد ، لا يوقف عليه ، فسمّى إحسانه وتمكينه كيداً كما سمّاه استدراجاً لكونه في صورة الكيد ، حيث كان سبباً للهلاك . والحاصل : أن معنى الكيد والمكر والاستدراج ، هو الأخذ من جهة الأمن ، ولا يجوز أن يُسمى الله كائداً وماكراً ومُسْتَدْرِجاً لعدم التوقيف ، وأسماؤه تعالى توقيفيه . { أم تسألهم } على تبليغ الرسالة { أجراً } دنيوياً { فهم من مَّغْرَمٍ } أي : من أجل غرامة { مثقَلُون } مكلفون حملاً ثقيلاً ، فيعرضون عنك لأجل ما تكلفهم به ؟ والاستفهام بمعنى النهي . { أم عندهم الغيب } أي : اللوح المحفوظ ، أو علم المغيبات ، { فهم يكتبون } منه ما يحكمون به ، فيستغنون عن علمه ؟ { فاصبرْ لحُكم ربك } أي : ما حكم به ، وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم لأنهم وإن أُمهلوا لم يُهمَلوا ، { ولا تكن كصاحِب الحوت } يونس عليه السلام في العَجَلة والغضب على القوم حتى ابتلي ببلائه ، { إِذ نادَى } في بطن الحوت { وهو مكظوم } مملوء غيظاً . والجملة حال من ضمير " نادى " وعليه يدور النهي ، لا على النداءِ فإنه أمر مستحسن ، ولذلك لم يذكر المنادَى ، و " إذ " منصوب بمضاف محذوف ، أي : لا يكن حالك كحاله وقت ندائه ، أي : لا يوجد منك ما وُجد منه من الضجر والمغاضبة فتُبتلى ببلائه ، { لولا أن تدارَكه نعمةٌ } رحمة { من ربه } أي : لولا أنَّ الله أنعم عليه بإجابة دعائه ، وقبول عذره ، أو : لتوفيقه للتوبة وقبولها منه ، { لنُبذ بالعراءِ } بالأرض الخالية من الأشجار { وهو مذموم } معاتَب بعجلته ، لكنه رُحم ، فنُبذ غير مذموم ، بل مَرْضِي مقبول . { فاجتباه ربُّه } اصطفاه لرسالته ببركة دعائه وتسبيحه ، فأعاد إليه الوحي ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون ، وقيل : استنبأه ، وكان لم يُنبأ قبل هذه الواقعة ، { فجعله من الصالحين } من الكاملين في الصلاح ، أو : من الأنبياء والمرسَلين . والوجه هو الأول لأنه كان نبياً مرسَلاً قبل ، لقوله تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إلىَ ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [ الصافات : 139 ، 140 ] الخُ . رُوي أنها نزلت بأُحد ، حين هَمّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين من المؤمنين ، وهو ضعيف لأنَّ السورة كلها مكية . والله تعالى أعلم . الإشارة : ذَرني ومَن يُكذِّب بهذا الحديث حديث أهل الخصوصية ، وهو الكلام في علم أسرار التوحيد ، الذي هو مدار علم الباطن ، فمَن يُنكره أو يُنكر وجودَ أهله فهو مستدرَج مغرور ، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ، أي : ندرجهم إلى مقام البُعد درجة درجة ، من حيث لا يشعرون ، فهم يحسبون أنهم يصعدون ، وهم يسقطون ، يطنون أنهم يُرقِّقون الحجاب بينهم وبين الله ، وهم يغلظونه . قيل : حقيقة الاستدراج هو السكون إلى اللذات ، والتنعُّم بالنعمة ، ونسيان ما تحت النِعم من النقم . هـ . وهذا حال مَن يُنكر وجود التربية ، أو دخل فيها ولم يمتثل ما يُشير به عليه شيخُه . ويقال لمَن يدعو الناس إلى الله ، وهم يفرُّون : أم تسألهم أجراً فهم من مَغرم مُثقلون ، وإنما يثقل العطاء على مَن لم يذق ، وأمّا مَن ذاق فلا يثقل عليه الوجود بأسره ، بل يبذل مُهجته ورُوحه وماله ، ويستصغره في جانب ما نال من أسرار المعرفة . ويقال له أيضاً حين يُؤذَى : فاصبر لحُكم ربك ، ولا تستعجل حتى يجتبيك ربُّك ، فتكون من الصالحين لحضرته ، قال الواسطي : الاجتبائية أورثت الصلاح ، لا الصلاح أورث الاجتبائية . هـ . ثم رَدَّ على الكفرة رميَهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالجنون ، فقال : { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } .