Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 69, Ayat: 13-18)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فإِذا نُفخ في الصُّور نفخةٌ واحدةُ } ، وهي النفخة الأولى ، وتموت عندها الخلائق ، والثانية يحيون عندها ، { وحُمِلتِ الأرضُ والجبالُ } أي : قلعت ورفعت عن أماكنها ، بمجرد القدرة الإلهية ، أو بتوسُّط الزلزلة ، أو الريح العاصفة ، { فدُكَّتا دَكَّةً واحدةً } أي : دقّتا وكسرتا ، أي : ضُرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباءً منثوراً ، { فيومئذٍ } ، فحينئذ { وقعت الواقعةُ } أي : قامت القيامة بعدها ، { وانشقتِ السماءُ } أي : فُتحت أبواباً لنزول الملائكة ، { فهي } أي : السماء { يومئذٍ واهيةٌ } ضعيفة مسترخية ، كالصوف أو القطن ، بعدها كانت مُحْكَمة { والمَلَكُ } أي : جنس المَلك ، وهو بمعنى الجمع ، فهو أعمّ من الملائكة ، { على أرجائها } جوانبها ، جمع رَجاً ، مقصور ، أي : تنشق السماءِ ، التي هي مسكنهم ، فيلتجئون إلى أكنافها وأطرافها ، { ويحملُ عرشَ ربك فوقهم } أي : فوق الملَك الذين هم على الأرجاء ، { يومئذٍ ثمانيةٌ } من الملائكة ، واليوم تحمله أربعة ، وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة إمداداً لتلك الأربعة . رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة قوّاهم الله تعالى بأربعة أخرى " ، وقال ابن عباس : هي ثمانية صفوف من الملائكة ، لا يعلم أحدٌ عِدتهم . وقال ابن زيدٍ : هم ثمانية أملاك ، على هيئة الوعول . الوَعِلَ : تيسُ الجبل ، وقيل : على هيئة الناس ، أرجلهم تحت الأرض السابعة ، وكواهلهم فوق السماء السابعة ، والعرش فوق رؤوسهم ، وهم مطرقون . وفي بعض الأخبار : أنَّ الأربعة التي تحمل العرش اليوم أحدهم على صورة الإنسان ، يطلب الرزق للأرض ، والآخر على صورة الثور ، يطلب الرزق للبهائم ، والآخر على صورة النسر ، يطلب الرزق للطيور ، والآخر على صورة الأسد ، يطلب الرزق للوحوش ، وقيل : المراد بالآية : تمثيل لعظمة الله تعالى بما يُشاهَد من أحوال السلاطين ، يوم خروجهم على الناس للقضاء العام ، لكونها أقصى ما يتصور من العظمة والجلال ، وإلاّ فشؤونه تعالى أجلَّ من كل ما يُحيط به فلك العبارة والإشارة . { يومئذٍ تُعرضون } للسؤال والحساب ، شبّه ذلك بعرض السلطان الجيشَ ليعرف أحواله ، رُوي " أن في القيامة ثلاث عَرْضَاتٍ ، فأمّا عَرْضَتَان : فاعتذار واحتجاج ، وأما الثالثة : ففيها تُنشر الكتب ، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه ، والهالك بشماله " ، وهذا وإن كان بعد النفحة الثانية لكن لمّا كان اليوم اسماً لزمان متسع يقع فيه النفحتان ، والصعقة والنشور والحساب ، وإدخال أهل الجنةِ الجنةَ ، وأهل النارِ النارَ ، صحّ جعله ظرفاً للكل ، وظاهر نظم الآية أنَّ نشر الموتى من القبور لا يكون إلاَّ بعد دك الأرض ، وتسيير الجبال ، فلا يقع النشر إلاّ على الأرض المستوية ، لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً ، وأمّا انشقاق السماء فمؤخّر ، يكون والله أعلم والناس في الموقف على ما في بعض أخبار الآخرة . ثم قال تعالى : { لا تخفى منكم خافيةٌ } أي : سريرةٌ ولا حالٌ كانت تخفى في الدنيا . والجملة : حال من ضمير " تُعرضون " أي : تُعرضون غير خافٍ عليه تعالى السرائر ، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم بالياء لأن تأنيثها مجازي . الإشارة : فإذا نُفخ في صور القلب الغافل ، الخالي من الحياة الأبدية ، نفخة واحدة ، من همّة شيخ كامل ، إما بوارد شوق مُقلق ، أو خوف مُزعج ، وحُملت أرض بشريته ، وجبال عقله ، فدُكتا دكةً واحدة ، فغاب حس البشرية وانخنس ، وغاب نور العقل عند سطوع أنوار شمس العرفان ، فيومئذ وقعت الواقعة ، أي : ظهرت الحقيقة العيانية ، وبدلت الأرض غير الأرض ، والسموات ، فصار الجميع نوراً ملكوتياً ، أو سرًّا جبروتيًّا ، وانشقت سماء الأرواح فظهرت أسرار المعاني خلف رداء الأواني ، فهي أي : الأواني الحسية يومئذ واهية ضعيفة متلاشية ، لا وجود لها من ذاتها ، والمَلك ، اي : الواردات الإلهية ، والخواطر الملكية ، على أرجائها : على أطراف سماء الأرواح ، يُلهمها العلوم اللدنية ، والأعمال الصافية ، ويحمل عرش ربك ، أي : عرش معرفة الرب ، وهو القلب ، فهو سرير سلطان المعرفة ، ومحل التجليات الذاتية ، ثمانية : الصبر ، والشكر ، والورع ، والزهد ، والتوكل ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، وهو عرش المعرفة ، يومئذ تُعرض الخواطر على القلب ، لا يخفى عليه منها شيء ، فيقبل الحسَن ، ويرفع القبيح . والله تعالى أعلم . وذكر في الحاشية الفاسية ما فوق العرش الحسي ، وما تحت الأرض السفلى ، فقال ما نصُّه : وفي حديث " فوق السماء السابعة بحرٌ ، بين أعلاه وأسفله ، كما بين السماء والسماء ، وفوق ذلك ثمانية أَوْعَالٍ ، بين أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ ما بين سماءٍ إلى سماء ، وفوق ظهورهن العرش ، بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى السماء ، والله تبارك وتعالى فوق ذلك " ، وفي حديث آخر : " عدد الأرضين سبع ، بين كل واحدة والآخرى خمسمائة سنة ، والذي نفس محمد بيده لو أنكم دلّيتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله " ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم : { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلَّظاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ } [ الحديد : 3 ] . هـ . فتحصل من حديث سيد العارفين ، وقدوة الواصلين ، أنَّ الحق جلّ جلاله محيط بكل شيء ، فأسرار ذاته العلية أحاطت بالوجود بأسره . فما فوق العرش هو عين ما تحت الثرى ، فلو صعد أحد إلى ما فوق العرش لوجد الله ، ولو هبط إلى ما تحت الأرض السفلى لوجد الله إذ عظمته أحاطته بكل شيء ، ومحت وجود كل شيء . واعلم أن الحق جلّ جلاله منفرد بالوجود ، لا شيء معه ، غير أنَّ عظمة الذات الخارجة عن دائرة قبضة التكوين باقية على أصلها من اللطافة والكنزية ، والعظمةَ الداخلة في القبضة حين دخلها التكثيف ، وتحسّست ليقع بها التجلِّي ، استترت وتردّت برداء الكبرياء ، فظهر فيها الضدان العبودية والربوبية ، والحس والمعنى ، والقدرة والحكمة ، فاستترت الربوبية برداء الكبرياء ، فكان من اصطلاح الوحي التنزيلي أن يُخبر عن العظمة الأصلية وينعت أوصافها ، ويسكت عن العظمة الفرعية ، التي وقع بها التجلِّي ، ستراً لسر الربوبية أن يظهر ، إذ لو ظهر لفسد نظام عالم الحكمة ، ولذلك قال سهل رضي الله عنه : للألوهية سر لو انكشف لبطلت النبوات ، وللنبوات سر لو انكشف لبطل العِلم ، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام . هـ . فَسِرُّ الألوهية هو قيامها بالأشياء ، وظهورها بها ، بل لا وجود للأشياء معها ، فلو انكشف هذا السر لجميع الناس لاستغنوا عن العبادة والعبودية ، ولبطلت أحكام النبوة ، إذ النبوة إنما هي لبيان العبادة وآداب العبودية ، وعند ظهور هذا السر يقع الاستغناء عن تلقي الوحي . وأيضاً ، ليست القلوب كلها تقدر على حمل هذا السر ، فلو تجلّى للقلوب الضعيفة لوقع لها الدهش والحيرة ، وربما أدّاها إلى التلف . وسر النبوات هو سدل الحجاب بين الله وعباده ، حتى يفتقر الناس إلى تلقي العلم بواسطة النبوة ، فلو انكشف هذا الحجاب لوقع الاستغناء عن النبوة ، لتلقِّيه حينئذ كشفاً بدونها من غير تكلُّف ، وسر العلم هو إبهام العواقب ، فلو انكشف هذا السر وعرف كل واحد مآله للجنة أو النار لبطلت الأحكام إذ مَن عرف أنه للجنة قطعاً استغنى عن العبادة ومَن عرف أنه للنار قطعاً انهمك في المعاصي ، فأخفى الله هذا السر ليعمل كل واحد على الرجاء والخوف . والله تعالى أعلم . ثم قسّم الحق تعالى عباده إلى أهل الشقاوة والسعادة ، وبيَّن مآلهما في الآخرة ، وهو تفصيلٌ لأحكام العرض ، فقال : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } .