Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 69, Ayat: 19-37)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { فأمّا مَن أُوتي كتابه بيمينه فيقول } تبجُّحاً وابتهاجاً وسروراً ، لِما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته : { هاؤُمُ } : اسم فعل ، بمعنى خُذوا ، وفيه لغات ، أجودهن المطابقة تقول : هاء يا رجل ، وهاءِ يا امرأة ، بهمزة مكسورة من غير ياء ، وهاؤما يا رجلان وامرأتان ، وهاؤم يا رجال وهاؤنّ يا نساء . { اقرؤوا كتابيَهْ } ، والأصل : هاؤم كتابي اقرأوا كتابيهْ ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، والعامل في " كتابيه " اقرأوا ، عند البصريين لأنهم يُعملون الأقرب ، والهاء في " كتابيه " ، و " حسابيه " ، و " ماليه " ، و " سلطانيه " للسكت ، وحقها أن تثبت في الوقف ، وتسقط في الوصل ، وقد استُحبّ إيثار الوقف إيثاراً لثباتها لثبوتها في المصحف . { إِني ظننتُ أني ملاقٍ حسابيهْ } أي : علمت وتيقنت أني سألقى حسابي ، ولعل التعبير بالظن للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية . قاله أبو السعود ، وقد تقدّم سره في البقرة . { فهو في عيشةٍ راضيةٍ } أي : ذات رضا يرضى بها صاحبها . جعل الفعل لها مجازاً ، وهو لصاحبها لكونها صافية من الشوائب ، دائمة ، مقرونة بالتعظيم ، { في جنةٍ عاليةٍ } مرتفعة المكان لأنها في السماء السابعة ، أو : رفيعة الدرجات ، أو المباني والأشجار والقصور ، وهو خبر بعد خبر ، { قُطوفها دانيةُ } ثمارها قريبة من مريدها ، ينالها القاعد والمضطجع كالقائم . قال ابن عرفة : هذه الجملة احتراس لأنه تعالى وصفها بالعلو ، وشأن المكان العالي أن تكون ثماره كذلك ، فأزال ذلك بأنها مع علو ثمارها قريبة التناول ، سهلة المأخذ . هـ . والقطوف جمع قطف ، وهو ما يحثي بسرعة . ويقال لهم : { كُلُوا واشربوا هنيئاً } أي : أكلاً وشُرباً هنيئاً ، لا مكروه فيهما ولا أذىً ، أو : هنئتم هنيئاً { بما أسلفتم } أي : بمقابلة ما قدّمتم من الأعمال الصالحة ، { في الأيام الخاليةِ } أي : الماضية في الدنيا ، وعن مجاهد : أيام الصيام وقال ابن عباس : هي في الصائمين ، أي : كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى . رُوي أن الله تعالى يقول : " يا أوليائي ، طالما نظرتُ إليكم في الدنيا ، وقد قلَصَتْ شفاهكم عن الأشربة ، وغارت أعينكم وخمصت بطونكم ، فكونوا اليوم في نعيمكم ، وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية " ولا تقصر الآية على الصوم ، بل كل ما أسلف الإنسانُ من الأعمال الصالحة داخل في الآية ، بدليل قوله تعالى : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 19 والمراسلات : 43 ] . وهذه الآية وأمثالها هزّت قلوب المجتهدين ، حتى عمَّروا أوقاتهم ، وحافظوا على أنفاسهم لئلا تضيع ، وكان عمر رضي الله عنه يقول : حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبُوا ، فإنه أهون ، أو أيسر لحسابكم ، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا وتجهّزوا للعرض الأكبر ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية . هـ . { وأمَّا مَن أُوتي كتابه بشِماله } ، ورأى ما فيه من قبائح الأعمال ، { فيقول يا ليتني لم أُوتَ كتابيهْ } أي : لم أُعطَ كتابي ، { ولم أّدْرٍ ما حسابيهْ } أي : يا ليتني لم أعلم حسابي ، ولم أقف عليه ، لِمَا شاهد من سوء العاقبة ، { يا ليتها } : يا ليت الموتة التي متُّها { كانت القاضيةَ } أي : القاطعة لأمري ، ولم أُبعث بعدها ، ولم ألقَ ما لقيت ، فضمير " ليتها " للموتة ، ويجوز أن يكون لِما شاهده من الحالة ، أي : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قُضيت عليَّ لأنه وجدها أَمَرّ من الموت ، فتمناه عندها ، وقد جوّز أن يكون للحياة الدنيا ، أي : يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أُخْلَق حيًّا . { ما أغنى عن مالِيَهْ } أي : ما نفعني ما جمعتُ من الأموال شيئاً ، فـ " ما " نافية ، أو استفهامية للإنكار ، أي : أيُّ شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار ؟ { هلك عني سلطانيهْ } أي : مُلكي وعزي ، وتسلُّطي على الناس ، وبقيتُ فقيراً ذليلاً ، أو : حُجتي التي كنت أحتجّ بها في الدنيا . فيقول الله تعالى لخزنة جهنّم : { خُذوه فغُلُّوه } أي : فشُدُّوه بالأغلال ، بأن تجمع يده إلى عنقه ، { ثم الجحيم صَلُّوه } أي : أدخلوه ، أي : لا تصلّوه إلاّ للجحيم ، وهي النار العظيمة ليكون الجزاء على وفق المعصية ، حيث كان يتعاظم على الناس ، { ثم في سلسلة ذَرْعُها } أي : طُولها { سبعون ذراعاً } بذراع الملَك ، وقيل : لا يعرف قدرها إلاّ الله ، { فاسْلُكُوه } أي : فأدْخِلوه فيها ، وقيل : تدخل من دبره وتخرج من منخريه ، وقيل : تدخل من قُبله وتخرج من دبره . { أِنه كان لا يُؤمن بالله العظيم } ، تعليل لاستحقاق العذاب ، ووصفه تعالى بالعظيم للإيذان بأنه المستحق للعظمة وحده ، فمَن نَسَبَها لنفسه استحقّ أعظم العقوبات ، { ولا يَحُضُّ على طعام المسكين } أي : لا يحث على بذل طعام غيره ، فضلاً عن أن يبذل ماله ، وقيل : ذكر الحض للتنبيه على أنَّ تارك الحضّ إذا كان بهذه المنزلة ، فما ظنك بتاركه ؟ وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع ، وأنَّ أقبح العقائد الكفر ، وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب ، وفيه أيضاً إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث ، لأنَّ إطعام المساكين إنما يرجى جزاؤه يوم القيامة ، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم ، وفيه دليل على عِظم جُرم حرمان المساكين لأنّه عطفه على الكفر ، وجعله دليلاً عليه وقرينَه . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، ويقول : خلَعْنا نصفَ السلسلة بالإيمان ، فلنخلع نصفها بهذا ، أي : الصدقة . قال النسفي : وهذه الآية ناطقة بأنَّ المؤمنين يُرحمون جميعاً ، والكافرون لا يُرحمون لأنه تعالى قسّم الخلق صنفين ، فجعل صنفاً منهم أهل اليمين ، ووصفهم بالإيمان بقوله : { إني ظننتُ إني ملاقٍ حسابيه } ، وصنفاً منهم أهل الشمال ، ووصفهم بالكفر بقوله : { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . … } الخ ، وجاز أنَّ الذي يُعاقَب من المؤمنين إنما يعاقَب قبل أن يؤتَى كتابه بيمينه . هـ . قال ابن عطية : والذين يُعطون كتابهم بأيْمانهم هم المخلَّدون في الجنة من أهل الإيمان ، واختلف العلماء في الفرقة التي ينفذ فيها الوعيد من أهل المعاصي ، متى تأخذ كتبها ؟ فقال بعضهم : الأظهر أنها تأخذها مع الناس ، وذلك يُؤنسُها مدة العذاب ، قال الحسن : فإذا أعطي كتابه بيمينه لم يقرأه حتى يأذن الله له ، فإذا أَذِنَ له قال : { هاؤم اقرأوا كتابيه } ، وقال آخرون : الأظهر أنها إذا خرجوا من النار ، والإيمان يؤنسُهم وقت العذاب ، قال : وهذا هو ظاهر الآية لأنَّ مَن يسير إلى النار كيف يقول : { هاؤم اقرأوا كتابيه } . ثم قال : والمخلَّدون في النار من أهل الكفر هم الذين يُؤتون كتابهم بشمالهم ، وقال في آية الانشقاق : مَن ينفذ فيه الوعيد من العصاة ، يُعطى كتابه عند خروجه من النار ، وقد جَوّز قومٌ أن يُعطاه أولاً قبل دخوله النار ، وهذه الآية ترد عليه . هـ . يعني قوله : { وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [ الانشقاق : 9 ] . قلت : والذي يظهر من الأحاديث التي في أخبار البعث : أنَّ الصحف تُنشر دفعة واحدة للطائع والعاصي ، والمؤمن والكافر ، فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه ، فيُسرّ ، فإن كان كاملاً فسُروره ظاهر ، وإن كان عاصياً فرح أن مآله للجنة ، ويجوز أن يُبهم الأمر عليه حينئذ ، فيفرح لظنه النجاة ، فإن مرَّ على الصراط زلّت قدمه لمكان معاصيه ، فينفذ فيه الوعيد ، ثم يخرج ، وأمّا بعد خروجه من النار وحسابه حينئذٍ فبعيد جدًّا ، لم يرد به نص . قال الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه : عادته تعالى في التنزيل أن يذكر الكامل في الطاعة ، والكامل في العصيان أي : الكفرـ ويسكت عن المخلط ، فدلَّ على أنه يرى من هذا ويرى من هذا . هـ . بالمعنى . فالذي يقول : { هاؤم اقرأوا كتابيه } هو الكامل ، أو الذي حوسب وعُفي عنه ، وأمّا العاصي الذي ينفذ فيه الوعيد ، فلعله يسكت . والله تعالى أعلم ، وسَتَرِد وتعلم . ثم قال تعالى : { فليس له اليومَ هاهنا حميمٌ } أي : قريب يحميه ويدفع عنه لأنَّ أولياءه الذين يتحامونه يفرُّون منه ، { ولا طعامٌ إِلاَّ من غِسْلِينٍ } وهو غسالة أهل النار وصديدُهم ، فِعْلِين ، من الغَسْلِ ، والنون زائدة ، والمراد : ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم . وقال ابن عزيز : غِسْلين : غسالة أجواف أهل النار ، وكل جرح أو دبر غسلته ، فخرج منه شيء ، فهو غِسلين . هـ . { لا يأكُله إِلاّ الخاطئون } الكافرون ، أصحاب الخطايا العظام . من خَطِىء الرجل : إذا تعمَّد الذنب . أو من الخطأ ، المقابل للصواب ، وهو هنا : مَن أخطأ طريقَ التوحيد ، وعن ابن عباس : هم المشركون . الإشارة : أهل اليمين مَن سبق لهم اليُمن في الأزل ، وأهل الشمال مَن سبق لهم الشؤم كذلك . وفي الحديث : " إن الله قبض قبضة فقال : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، ثم قبض أخرى ، وقال : هؤلاء إلى النار ولا أبالي " أي : لا أُبالي بما يعملون . وقال القشيري : في إشارة الآية ما نصه : يشير إلى قوله عليه السلام في أثناء حديث طويل : " قبض قبضة ، فإذا فيها آدم وبنوه ، فمسح بيده اليُمنى الجمالية اللطيفة على ظهره الأيمن الجمالي ، فأخرج منها ذراريه ، كالقبضة البيضاء ، باليد الجمالية أصحاب اليمين ، ثم مسح بيده اليسرى الجلالية القهرية ، على ظهره الأيسر الجلالي ، فأخرج منه ذريته كالحمصة السوداء ، باليد الجلالية ، أصحاب الشمال " أول ما في معناه . وقوله : كتابيه يُشير إلى الكتاب الاستعدادي ، المكتوب في الأزل ، على لوح جبين كل واحد ، بما يعمل إلى الأبد . هـ . فالكتاب الذي يُعطى يوم القيامة نسخة مما سُطِّر على لوح الجبين ، الموافق للأزل ، فحكمته قيام الحُجة في الظاهر ، فمَنْ سبق له سهم العناية تبجّح به ، ويقول : هاؤم اقرأوا كتابيه ، إني تحققت في الدنيا أني ملاقٍ حسابيهْ . وعبَّر بالظن ستراً لأهل الظنون والخواطر ، وتوسعة عليهم ، فهم في الدارين في عيشة راضية ، في الدنيا في روح الرضا ونسيم التسليم وجنة العرفان ، وفي الآخرة في مقعد صِدق في جوار الرحمن ، في جنة عالية ، رفيعة القدر حسًّا ومعنىً ، قُطوفها دانية . أمّا جنة المعارف فقطوفها ما يتجتنى من ثمار العلوم ، وفواكه الحِكم ، وتزايد الفهوم ، وأمّا في الآخرة فزيادة الترقي والكشف أبداً سرمداً ، ويُقال لهم : كُلوا من قوت أرواحكم وأشباحكم ، واشربوا من خمرة قلوبكم وأسراركم ، من كأس المحبة ، والاجتباء ، هنيئاً لا كدر فيه ولا تعب ، بما أسلفتم في أيام مجاهدتكم الماضية ، ومَن سبق لهم سهم الشقاء يقول : يا ليته لم يكن شيئاً ، ويتمنى بقاءه في حيز العدم ، ثم يَلقى من أنواع العذاب الجسماني والروحاني ، من البُعد والطرد ما ذكره الحق تعالى في بقية الآية ، نعوذ بالله من سوء القضاء ، ومن السلب بعد العطاء . ثم أقسم تعالى على حقيّة ما ذكره ، فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } .