Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 54-56)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { حثيثًا } أي : سريعًا صفة لمصدر محذوف ، أي : طلبًا حثيثًان أو حال من الفاعل ، أي : حاثًا ، و { مسخراتٍ } حال فيمن نصب ، وخبر فيمن رفع ، و { تضرعًا وخفية } : مصدران ، حالان من الواو ، وكذلك { خوفًا وطمعًا } . يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنَّ ربكم } الذي يستحق أن تعبدوه ، وهو { اللهُ } وحده { الذي خلق السماوات والأرض } أي : أظهرهما { في ستة أيامٍ } أي : مقدار ستة أيام من أيام الدنيا إذ لم يكن ثَمَّ شمس ، ولو شاء خلقهن في لمحة ، والعدول إليه لتعليم خلقه التأني والتثبت . { ثم استوى على العرش } استواء يليق به ، والعرش : جسم عظيم محيط بالأكوان . سمي به لارتفاعه ، وللتشبيه بسرير الملك ، فالأكوان في جوفه ممحوقة فقد استولى عليها ومحقها ، كذلك أسرار معاني الربوبية الأزلية قد استولت عليه ومحقته ، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبَّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء ، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله . وقال القشيري : ثم استوى على العرش ، أي : تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت ، وملوكنا إذا أرادوا التجلِّي والظهور للحَشَم والرعية برزوا لهم على سرير مُلكِهم في إيوان مشاهدتهم . فأخبر الحقُّ سبحانه وتعالى بما يَقرُب من فَهم الخلقِ ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات ، بأنه استوى على العرش ، ومعناه : اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية ، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية ، وتقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار ، والمعبودُ عن الحدود . هـ . { يُغشي الليلَ النهارَ } أي : يُغطي نور النهار بظلمةِ الليل ، { يطلبه حثيثًا } أي : يعقبه سريعًا كالطالب له ، لا يفصل بينهما شيء ، { و } خلق { الشمسَ والقمرَ والنجومَ مُسخرات بأمره } أي : بقضائه وتصريفه ، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية ، دالة على ظهور شيء منها . والنهي عن النظر في النجوم أو تصديق المنجمين إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها ، أو تصديقهم في تفصيل ما يخبرون به لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل ، فإنَّ عِلم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء ، ثم اندرس ذلك العلم ، فلم يبق إلا ما هو مختلط ، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابًا لآثار يخلق الله تعالى بها في الأرض ، وفي النبات والحيوان شيئًا ، يعني في الجملة ليس قادحًا في الدين ، بل هو الحق ، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل : قادح في الدين ، فالكواكب ما خلقت عبثًا ، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء وقرأ قوله تعالى : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً … } [ آل عِمرَان : 191 ] الآية . انظر الإحياء للغزالي . ثم قال تعالى : { إلا له الخلقُ والأمرُ } أي : الإيجاد والتصرف بالأمر والنهي ، { تبارك الله رب العالمين } أي : تعاظم في ألوهيته ، وتعالى في ربوبيته ، وتفرد في وحدانيته . قال البيضاوي : وتحقيق الآية والله أعلم أن الكفرة كانوا متخذين أربابًا ، فبيَّن لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر ، فإنه تعالى خلق العالَم على ترتيب قويم ، وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك العلوية ، والأجرام السفلية ، ثم بعد تمام خلق عالَم الملك أخذ في تدبيره كالملِكِ الجالس على عرشه وسريره لتدبير مملكته ، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب ، وتكوير الليالي والأيام ، فله الخلق والأمر . وكذلك قال في آية السجدة بعد ذكر الخلق : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِرُ الأَمْرَ } [ يُونس : 3 ، السجدة : 4 ] ، فربُّ الخلائق : مَن هذا صفته ، لا غيره ، انتهى المعنى . ثم أمرهم بأن يدعوه ، متذللين مخلصين ، فقال : { ادعوا ربكم تضرعًا وخُفيةً } أي : ذوي تضرع وخفاء فإن الإخفاء دليل الإخلاص ، { إنه لا يحب المعتدين } المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره ، ونبه على أن الداعي ينبغي ألاَّ يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء ، وقيل : الاعتداء في الدعاء ، هو الصياح به ، والتشدق ، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " سَيَكُونُ قَومٌ يَعتَدُونَ في الدّعَاءِ ، وحَسبُ المَرء أن يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنَّي أسألُكَ الجَنَّةَ ومَا يُقرِّبُ إليهَا من قَولٍ وعَمَلٍ . ثم قرأ { إنَّه لا يُحبُّ المُعتَدِين } " . { ولا تُفسدوا في الأرض } بالكفر والمعاصي ، { بعد إصلاحها } ببعث الأنبياء ، وشرع الأحكام ، أو : ولا تفسدوا في الأرض بالمعاصي الموجبة لفساد العالم بالقحط والفتن ، بعد إصلاحها بالخصب والأمان ، { وادعوه خوفًا وطمعًا } أي : خوفًا من الرد لقصور الأعمال ، وطمعًا في القبول بالفضل والكرم { إن رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين } المخلصين . قال البيضاوي : هو ترجيح للطمع ، وتنبيه على ما يتوصل به إلى الإجابة ، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الترحم ، أو لأنه صفة محذوف أي : أمر قريب ، أو على تشبيه فعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو للفرق بين القريب من النسب ، والقريب من غيره . هـ . قلت : والأحسن أنه إنما ذكره لأن المراد بالرحمة هنا : سر الخصوصية ، وهو مذكر ، فراعى معنى اللفظ ، كأنه قال : إن سر الولاية وهي الخصوصية قريب من المحسنين . والله تعالى أعلم . الإشارة : قوله تعالى : { في ستة أيام } : قال الورتجبي : في كل يوم من هذه الأيام : ظهور صفة من صفاته الست : أولها : العلم ، والثاني : القدرة : والثالث : السمع ، والرابع : والبصر ، والخامس : الكلام ، والسادس : الإرادة ، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة ، ولما أتمها صارت الحدثان كجسد آدم بلا روح ، فتجلى من صفته السابعة . وهي حياته القديمة الأزلية الباقية ، المنزهة عن همهمة الأنفاس والمشابهة والقياس فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته ، ويكون إلى الأبد لحياتها بروح حياته ، المقدسة عن الاتصال والانفصال . قلت : وهي المعبَّر عنها بالمعاني القائمة بالأواني . ثم قال : وفي أدق الإشارة : السماوات : الأرواح ، والأرض : الأشباح ، والعرش : القلوب ، بدأ بكشف الصفات للأرواح ، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح ، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب لأن مناظر القلوب للغيوب ، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم ، استوى قهر القدم ، بنعت الظهور للعدم ، أي : فتلاشى العدم ، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال ، واستوى تجلّي الذات على الصفات ، فاستوى بنفسه لنفسه ، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان . قلت : أي : إذ لا حدثان ولا أكوان لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت ، وما بقي إلا نعت القدم . ثم قال : خصَّ السماوات والأرض بتجلي الصفات ، وخص العرش بتجلي الذات . قلت : لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها ، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء ، وهو حجاب الحس الظاهر ، بخلاف المعاني القائمة بالأواني ، وهي أنوار الصفات ، تجلت مرتدية بحجاب القهرية ، فقيل لها : تجلي الصفات . ثم قال : السماوات والأرض جسد العالم ، والعرش قلب العالم ، والكرسي دماغ العالم ، خص الجميع بالأفعال والصفات ، وخص العرش بظهور الذات لأنه قلب الكل ، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته ، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا ، بلا جسم ولا مكان ولا صورة ، يتلألأ ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : هذا عالم يسمى عرشًا . انتهى . قلت : وأقرب من هذا كله : أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم ، حتى صارت في وسطه كلا شيء ، ومعاني أسرار الربوبية ، وهي العظمة الأصلية قد استولت عليه ، وأحاطت به ، ومحت وجوده ، فعبَّر الحق جل جلاله عن استيلاء هذه العظمة التي هي أسرار الربوبية على العرش بالاستواء . وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله : " يا من استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيبًا في رحمانيته ، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه ، محقت الآثار بالآثار ، ومحوت الآثارـ وهي العرش وما احتوى عليه بمحيطات أفلاك الأنوار " وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار من العرش إلى الفرش ، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية لأن الرحمانية صفة الذات ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فافهم . قلت : ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستعبد أن يكون الحق جل جلاله يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته ، يستوي بتلك العظمة على العرش ، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده ، إذ تجلياته لا تنحصر ، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته . وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا من أسرار التوحيد ، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء ، وأطال فيهما ، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر ، وقد تقرر في محله . وقوله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } : هو تقييد لقوله : { يختص برحمته من يشاء } فالمختص بالرحمة هم المحسنون . انظر لفظ الحكم . والله تعالى أعلم . ثم ذكر الحقّ جلّ جلاله تصاريف قدرته المفهوم من قوله : { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } ، فقال : { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } .