Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 71, Ayat: 5-14)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { قال } نوح شاكياً إلى الله تعالى : { رَبِّ إِني دعوتُ قومي } إلى الإيمان والطاعة { ليلاً ونهاراً } دائماً بلا فتور ولا توان ، { فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً } مما دعوتهم إليه ، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده ، وإن لم يكن في الحقيقة سبباً للفرار ، وهو كقوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا } [ التوبة : 125 ] ، والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس ، لكن لمّا حصل عنده نُسب إليه ، وكان الرجل منهم يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام ويقول له : احذر هذا ، فلا يعرنّك ، فإنّ أبي قد أوصاني بهذا . هـ . { وإِني كلما دعوتُهم } إلى الإيمان بك { لتغفرَ لهم } أي : ليؤمنوا فتغفر لهم ، فاكتفى بذكر المسبَّب ، { جعلوا أصابعَهم في آذانهم } أي : سدُّوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي ، { واستَغْشوا ثيابَهُم } أي : وتغطُّوا بثيابهم لئلا يُبصروني ، كراهة النظر إلى وجه مَن ينصحهم في دين الله ، { وأصَرُّوا } أقاموا على كفرهم { واسْتَكْبَروا استكباراً } أي : تعاظموا عن إجابتي تعاظماً كبيراً . وذِكْرُ المصدر دليل على فرط استكبارهم . { ثم إِني دَعَوتهم جِهاراً } أي : مجاهراً ، فيكون حالاً ، أو : مصدر " دعوت " ، كقعد القرفصاء لأنّ الجهار أحد نوعَي الدعاء . يعني : أظهرت الدعوة في المحافل والمجالس . { ثم إِني أعلنتُ لهم وأَسررتُ لهم إِسراراً } أي : جَمَعْتُ لهم بين دعاء العلانية والسر ، فكنتُ أدعو كل مَن لقيت ، فرداً وجماعة . والحاصل : أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر ، ثم دعاهم جِهاراً ، ثم دعاهم في السر والعلن ، وهكذا يفعل المذكِّر في الأمر بالمعروف ، يبتدىء بالأهون فالأشد ، افتتح بالمناصحة بالسر ، فلما لم يُطيعوا ثنّى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان . و " ثم " تدل على تباعد الأحوال لأنَّ الجِهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما . { فقلتُ استغفِروا ربكم } بالتوبة من الكفر والمعاصي فالاستغفار : طلب المغفرة ، فإن كان المستغفِر كافراً فهو من الكفر ، وإن كان مؤمناً فهو من الذنوب ، { إِنه كان غفَّاراً } لم يزل غَفَّار الذنوب لمَن يُنيب إليه ، { يُرسل السماءَ } بالمطر { عليكم مِدراراً } كثير الدُّرور ، أي : البروز ، و " مِفعال " يستوي فيه المذكر والمؤنث ، { ويُمددكم بأموال وبنينَ } أي : يزدكم أمولاً وبنين على ما عندكم ، { ويجعل لكم جنات } بساتين { ويجعل لكم أنهاراً } جارية لمزارعكم وبساتينكم . وكانوا يُحبون الأموال والأولاد ، فحرّكوا بهذا على الإيمان ، وقيل : لمّا كذّبوه بعد طول تكرار الدعوة حبس الله عنهم القطر ، وأعقم نساءهم أربعين سنة ، أو سبعين ، فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخِصب ، ورفع عنهم ما كانوا فيه . وعن عمر رضي الله عنه : أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار ، فمُطر فقيل له : ما رأيناك استسقيت ؟ فقال : لقد استقيت بمجاديح السماء التي لا تخطىء ، ثم قرأ الآية . وفي القاموس : ومجاديح السماء : أنواؤها . هـ . وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة ، فقال له : استغفِر الله ، وشكى إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة غلة أرضه ، فأمرهم كلّهم بالاستغفار ، فقيل له في ذلك ، فقال : ما قلت من عندي شيئاً ، ثم تلا الآية . { ما لكم لا ترجون لله وَقَاراً } أي : لا تخافون لله عظمةً . قال الأخفش : الرجاء هنا : الخوف لأنّ مع الرجاء طرفاً من الخوف واليأس . والوقار : العظمة . وقال أبو السعود : الرجاء هنا بمعنى الاعتقاد . وجملة ترجون : حال من ضمير المخاطبين ، و " لله " متعلق بمضمر ، حال من وقارا ، ولو تأخر لكان صفة له ، أي : أيُّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة للتعظيم بالإيمان والطاعة . هـ . أو : لا تأملون له توقيراً ، أي : تعظيماً ، والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيه تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، { وقد خَلَقَكم أطواراً } في موضع الحال ، أي : ما لكم لا تؤمنون بالله ، والحال أنكم على حال منافية لِما أنتم عليه بالكلية ، وهي أنكم تعلمون أنه خلقكم أطواراً ، أي : أحوالاً مختلفة ، خَلَقَكم أولاً نُطفاً ، ثم خلقكم علقاً ثم مُضغاً ، ثم عظاماً ولحماً ، ثم إنساناً ، ثم خلقاً آخر ، وبعد ظهوره إلى هذا العالم يكون شباباً ، ثم كهلاً ، ثم شيخاً ، بالتقصير في توقير مَن هذه شؤونه من القدرة القاهرة والإحسان التام ، مع العلم بها ، مما لا يكاد يصدر عن العاقل . والله تعالى أعلم . الإشارة : ينبغي للداعي أن يكون على قدم أولي العزم ، لا يمل من التذكير والدعاء إلى الله ، ويكرر ذلك ليلاً ونهاراًن ولو قُوبل بالرد والإنكار ، فلأن يهدي الله به رجلاً واحداً خير له مما طلعت عليه الشمس . وقوله تعالى : { وأصَرُّوا واستكبروا } ، قال القشيري : ويقال : لَمَّا دام إصرارهُم تَولَّدَ منه استكبارُهم ، قال تعالى : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحديد : 16 ] . وقال الورتجبي : مَن أصرَّ على المعصية أورثه التمادي على الضلالة ، حتى يرى قبيح أفعاله مستحسناً ، فإذا رآه مستحسناً يستكبر ، ويعلو على أولياء الله ، ولا يقبل بعد ذلك نصحتهم . قال سهل : الإصرار على الذنب يورث الاستكبار ، والاستكبار يورث الجهل ، والجهل يورث التخطي في الباطل ، وذلك يورث قساوة القلب ، وهي تورث النفاق ، والنفاق يورث الكفر . هـ . وقوله تعالى : { استغفِروا ربكم } قال القشيري : ليعلم العاملون أنَّ الاستغفار قَرْعُ أبوابِ النعمة ، ومَن وقعت له إلى الله حاجة فلا يَصِل إلى مرادِه إلاّ بتقديم الاستغفار . ويقال : مَن أراد التفضُّل فعليه بالعُذْر والتنصُّل . هـ . وقوله : { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } أي : ما لكم لا تعتقدون لله تعظيماً وإجلالاً ، فلا تراقبونه ، ولا تخافون سطوته ، فإنَّ المشاهدة على قدر المراقبة ، فمَن لم يُحْكِم أمر المراقبة لم يظفر بغاية المشاهدة . وقد خلقكم أطواراً ، أي : درّج بشريتكم في أطوار مُختلفة ، وهي سبعة : النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة ، ثم الجنين ، ثم الطفولية ، ثم الكهولة ، ثم الشيخوخة ، ثم يرتحل إلى دار الدوام ، وكذلك الروح لها سبعة أطوار : التوبة ثم الورع ، ثم الزهد ، ثم التوكُّل ، ثم الرضاء والتسليم ، ثم المراقبة ، ثم المشاهدة . والله تعالى أعلم . ولمّا نبههم إلى النظر في أنفسهم ، أمره بالنظر إلى العوالم العلوية والسفلية ، وما فيها من العجائب ، فقالِ : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ } .