Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 77, Ayat: 16-28)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ألم نُهلِكِ الأولينَ } كقوم نوح وعاد وثمود ، لتكذيبهم بذلك اليوم ، وقُرىءَ بفتح النون ، من : هلكه بمعنى أهلكه ، { ثم نُتبِعُهم الآخِرِين } أي : ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بهم ، لأنهم كذّبوا مثل تكذيبهم . و " ثم " وما بعده : استئناف ، تهديد لأهل مكة ، وقُرىءَ بالجزم عطف على " نُهلك " فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكاً من المذكورين ، كقوم لوط وشعيب وموسى عليه السلام { كذلك } أي : مثل ذلك الفعل الفظيع { نفعل بالمجرمين } أي : بكل مَن أجرم من كل أمة ، { ويل يومئذٍ } أي : يوم وقوع الهلاك بهم { للمكذِّبين } بما أوعدنا . { ألم نَخْلُقْكُمْ من ماءٍ مهينٍ } حقير ، وهو النطفة ، { فجعلناه في قرارٍ مكينٍ } أي : مقرّ يتمكّن فيه ، وهو الرحم ، { إِلى قَدَرٍ معلوم } إلى مقدار معلوم من الوقت ، قدّره اللهُ تعالى في أزله ، لا يتقدّم عليه ولا يتأخر عنه ، وهو تسعة أشهر في الغالب ، أو أكثر أو أقل على حسب المشيئة ، { فقدّرنا } ذلك تقديراً لا يتبدل أو : فَقَدرْنا على ذلك { فَنِعْمَ القادرون } أي : المقدِّرون له نحن ، أو : فنعم القادرون على أمثال ذلك ، { ويل يومئذ للمُكذِّبين } لقدرتنا على ذلك ، أو : على الإعادة ، أو : بنعمة الفطرة من النشأة الدالة على صدق الوعيد بالبعث . { ألم نجعل الأرضَ كِفَاتاً } … وجامعة ، والكِفَات : اسم ما يَجمع ويضم ، من : كَفَتَ شعره : إذا ضمه بخرقة ، كالضمام والجماع لما يَضُمّ ويجمع ، أي : ألم نجعلها كفاتاً تكفت { أحياءً } كثيرة في ظهرها { وأمواتاً } غير محصورة في بطنها . ونظر الشعبي إلى الجبانة فقال : هذه كِفَاتُ الموتى ، ثم نظر إلى البيوت فقال : هذه كِفَات الأحياء . هـ . ولمّا كان القبر كفاتاً كالبيت قُطع مَن سَرق منه . و " أحياء وأمواتاً " منصوبان بـ " كِفاتاً " لأنه في معنى اسم الفاعل ، أي : كافتة أحياء وأمواتاً ، أو : بفعل محذوف ، أي : تكفت على الحال ، أي : تكفتهم في حال حياتهم ومماتهم . { وجعلنا فيها رواسيَ } ، أي : جبالاً ثوابت { شامخاتٍ } طوالاً شواهق ، ووصْفُ جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد ، وتنكيرها للتفخيم ، وللإشعار بأنَّ فيها ما لم يُعرف ، { وأسقيانكم ماءً } بأن خلقنا فيها أنهاراً ومنابع { فُراتاً } عذباً صافياً { ويل يومئذ للمُكذِّبين } بأمثال هذه النِعم العظيمة . الإشارة : ألم نُهلك الجبابرة الأولين ، المتكبرين على الضعفاء والمساكين ، ثم نُتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين في كل زمان ، أو : ألم نُهلك الغافلين المتقدمين والمتأخرين ، بموت قلوبهم وأرواحهم ، بالانهماك في الشهوات ، كذلك نفعل بالطغاة المتكبرين ، ويل يومئذ للمكذِّبين الشاكّين في وقوع هذا الوعيد . ألم نخلقكم من ماء مهين حقير ؟ فكيف تتكبّرون وأصلكم حقير ، وآخركم لحم منتن عقير ؟ ولعليّ كرّم الله وجهه : ما لابن آدم والفخر ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بينهما يحمل العذرة . هـ . هذا في الصورة البشرية وأمّا الروح السارية فيها ، فأصلها عز وشرف ، فمَن غلبت روحُه على بشريته ، وعقله على هواه ، التحق بالملائكة الكرام في الشرف والنزاهة ، ومَن غلبت بشريتُه على روحانيته ، وهواه على عقله ، التحق بالبهائم في الخسة والدناءة . ألم نجعل أرض البشرية جامعة للقلوب والأرواح والأحياء بالعلم والمعرفة ، حين غلبت الروح والعقل على البشرية والهوى ، وللنفوس والقلوب الميتة ، حين غلب الهوى . وجعلنا فيها رواسي من العقول الثابتة ، لتميز بين النافع الضار ، وأسقيانكم من ماء العلوم التي تحيا به القلوب والأرواح ، ماءً عذباً لمَن وفّقه اللهُ لشُربه على أيدي الرجال . ويل يومئذ للمكذِّبين بها ، فإنه يعيش ظمآناً ، ويموت عطشاناً ، والعياذ بالله . ثم ذكر مآل المكذّبين ، فقال : { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } .