Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 79, Ayat: 27-41)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : مخاطباً أهلَ مكة ، المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم ، وتوبيخاً وتبكيتاً ، بعدما بيّن سهولته على قدرته بقوله : { فَإِنَّمَا هِي زَجْرَةٌ وَاحدَةٌ } { أأنتم أشدُّ خَلْقاً } أي : أَخَلْقُكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم { أم السماءُ } أي : أم خلق السماء على عِظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها ، وهذا كقوله : { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى } [ يَس : 81 ] . ثم بيَّن كيفية خلقها فقال : { بناها } أي : الله ، وفي عدم ذكر الفاعل ، فيه وفيما عطف عليه ، من التنبيه على تعينه وتفخيم شأنه عزّ وجل ما لا يخفى . { رَفَعَ سَمْكَها } أي : أعلى سقفها من الأرض ، وذهب بها إلى سمت العلوّ مدًّا رفيعاً مسيرة خمسمائة عام { فسوّاها } أي : فعدّلها مستوية ملساء ، ليس فيها تفاوت ولا فطور ، أو : تممها بما جعل فيها من الكواكب والدراري ، وغيرها مما لا يعلمه إلاَّ الخلاَّق العليم ، من قولهم : سوَّى فلان أمره : إذا أصلحه . { وأغْطشَ ليلها } أي : أظلمه ، ويُقال : غطش الليل وأغطشه الله ، كما يُقال : ظلُم وأظلمه الله . { وأخرج ضحاها } أي : أبرز نهارها ، عبّر عنه بالضُحى ، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها ، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان . ويجوز أن يكون أضاف الضحى إليها بواسطة الشمس ، أي : أبرز ضوء شمسها . والتعبير بالضُحى لأنه وقت قيام سلطانها وكما إشراقها . { والأرضَ بعد ذلك دحاها } أي : بسطها ومهّدها لسكْنى أهلها وتقلُّبهم في أقطارها ، وكانت حين خُلقت كورة غير مدحوةٍ ، فدحيت من تحت مكة بعد خلق السماء بألفي عام . ثم فسّر الدحو فقال : { أخرج منها ماءها } بتفجير عيونها وإجراء أنهارها ، { ومرعاها } كلأها ، وهو ما ترعاه البهائم ، وهو في الأصل : موضع الرعي ، أو : مصدر ميمي بمعنى المفعول ، وتجريد الجملة من العاطف إِمّا لأنها تفسير لدحاها ، أو تكملة له ، فإنَّ السكنى لا تتأتى لمجرد البسط ، بل لا بد من تهيئة أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً ، أو : لأنها حال بإضمار " قد " عند الجمهور ، أو بدونه عند الكوفيين . { والجبالَ أرساها } أي : أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها ، وإرساء الجبال لها من باب الحكمة ، وإلاَّ فالقدرة هي الحاملة للكل . وانتصاب الأرض والجبال بفعل يُفسره ما بعده . ولعل تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقديم الإرساء عليه وجوداً لإبراز كمال الاعتناء بأمر المأكل والمشرب . وهذا كما ترى يدل بظاهره على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء وما فيها ، كما يروى عن الحسن : من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس ، كهيئة الفِهْر ، عليه دخان ملزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات ، وأمسك الفِهْرَ في موضعها وبسط منها الأرض ، وذلك قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقاً … } [ الأنبياء : 30 ] . وفي القاموس : الفِهْرُ بالكسر : الحَجَرُ قَدْرَ ما يدق به الجَوْزُ ، أو ما يملأ الكفَّ . هـ . والتحقيق في المسألة : أنَّ أول ما خلق اللهُ العرش من القبضة النورانية المحمدية ، ثم خلق ياقوتة صفراء ، فذابت من هيبته تعالى فصارت ماء ، ثم اضطرب الماء فعلته زبدة ، فخلق منها الأرض ، ثم علا منه دخان فخلق منه السماء ، ثم دحا الأرض وهيّأ فيها أقواتها للناس والأنعام وغيرهما ، كما قال تعالى : { متاعاً لكم ولأنعامكم } أي : فجعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم ، فهو مفعول لأجله لأنَّ فائدة البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى واصلة للإنسان والأنعام ، أو : مصدر من غير لفظه ، فإنَّ قوله تعالى : { أخرج منها ماءها ومرعاها } في معنى : متّعكم بذلك . { فإذا جاءت الطامةُ الكبرى } أي : الداهية العُظمى التي تطمّ على سائر الدواهي ، أي : تعلوها وتغلبها ، من قولك : طمّ الأمر : إذا علا وغلب ، وهي القيامة ، أو النفخة الثانية ، أو : الساعة التي يُساق فيها الخلائق إلى محشرهم أو : التي يُساق فيها أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، { يوم يتذكَّرُ الإِنسانُ ما سعَى } أي : يتذكر فيه كل واحد ما عمله من خير وشر ، بأن يُشاهده مدوناً في صحيفته ، وقد كان نسيه مِن فرط الغفلة ، وطول الأمل ، كقوله تعالى : { أحْصَـٰهُ ٱللهُ وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] . و " يوم " : بدل من " إذا " والأحسن : أنه مفعول بفعل محذوف ، أي : أعني . { وبُرّزَت الجحيمُ } أي : أظهرت إظهاراً بيناً لا يخفى على أحد { لمن يرى } كائناً مَن كان ، فلا تتوقف رؤيتها إلاّ على وجود حاسة البصر ، ولا مانع من الرؤية ولا حاجب . يُروى أنه يُكشف عنها فتلتظي نيرانها كل ذي بصر . { فأمَّا مَن طَغَى } أي : جاوز الحدّ في العصيان { وآثر الحياةَ الدنيا } الفانية ، فانهمك فيما متع به فيها ، ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة ، { فإِنَّ الجحيم } التي ذكر شأنها { هي المأوى } أي : مأواه . فاللام سادّة مسد الإضافة للعلم بأنَّ صاحب المأوى هو الطاغي ، وجملة " فأمّا " : جواب " إذا " على طريقة : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّى هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ … } [ البقرة : 38 ] ، وقيل : جواب " إذا " محذوف ، وهي تفصيل له ، أي : إذا جاءت انقسم الناس على قسمين ، فأمّا مَن طغى … الخ ، والذي يستدعيه فخامة التنزُّل ، ويقتضيه مقام التهويل أنَّ الجواب المحذوف تقديره : يكون من عظائم الشؤون ما لم تُشاهده العيون ، ثم فصَّل أحوال الناس بقوله : فأمّا … الخ . { وأمّا مَن خاف مَقامَ ربه } أي : مُقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسانُ ما سعى . { ونهى النفسَ عن الهوى } المُرْدِيِّ ، أي : زجرها عن اتّباع الشهوات الفانية ، ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها ، ولم يغتر بزخارفها وزينتها ، علماً منه بوَخَامة عاقبتها ، وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فيتذكّر مقامه للحساب فيتركها . والهوى : ميل النفس إلى ما تهوى من غير تقييد بالشريعة ، { فإِنَّ الجنة هي المأوى } له لا لغيره ، وسيأتي تحقيقه في الإشارة . الإشارة : فإذا جاءت الطامة ، وهو التجلَّي الجلالي الذي لايعرفه فيه إلاّ الرجال ، يومئذ يتذكر الإنسان ما سعى فيه من علم التوحيد ، فمَن كان عارفاً بالله في جميع الأشياء عرفه في جميع التجليات ، كيفما تلوّنت ، ومَن كان قاصراً في المعرفة في البعض وأنكره في البعض ، كما في حديث القيامة ، حيث يتجلّى لبعض عباده في صورة لا يعرفونها ، فيُنكرونه ، ويقولون ، هذا موضعنا حتى يأتينا ربنا ، ثم يتجلّى لهم في صورة يعرفونها ، فيُقرونه ، وهذا لقصورهم في المعرفة ، ولو عرفوا الله في جميع تجلياته ما أنكروه في شيء منها ، وبُرّزت الجحيم لمَن يرى ، أي : وبُرّزت حينئذ نار القطيعة لمَن يرى . قال القشيري : أي : ظهرت جحيم الحجاب لمَن يراه غيرَ الأشياء ، فإنه عين الأشياء في جميع التجليات ، الجمالية والجلالية ، العلوية والسفلية ، الصورية والمعنوية . هـ . فأمَّا مَن طغى وتبع هواه ، وآثر الحياة الدنيا ، والاشتغال بها عن الإقبال على الله ، فإنَّ الجحيم هي المأوى ، أي : جحيم الحرمان عن مشاهدة الرحمن ، وأمّا مَن خاف مقام ربه ، أي : قيام ربه بالأشياء ، أو على الأشياء ، واطلاعه عليها ، أو قيامه بين يدي الله غداً للحساب ، فالأول لأهل المشاهدة ، والثاني لأهل المراقبة ، والثالث لأهل المحاسبة ، ونهى النفسَ عن الهوى ، عن كل ما يشغل عن الله ، ويُقسي القلبَ عن ذكر مولاه ، مما تهواه النفوس ، فإنّ الجنة هي المأوى ، جنة المعارف لمَن ترك ما تهوى نفسُه من المباحات ، وجنة الزخارف لمَن ترك ما تهواه من المحرّمات . قال الورتجبي : خاطب تعالى العبادَ بهذه الآية في أوائل مقاماتهم ، حين وجب عليهم ترك النفوس ، وشرَه هواها ، والميل إلى حظوظها ، لأنهم في وقت قصودهم إلى الله لا يجوز لهم الرخص والرفاهية ، فقد وجب عليهم الإعراض عن حظوظ أنفسهم ، خوفاً من الاحتجاب عن الوصول إلى الله تعالى ، ولعلمهم بأنه محيط بحركات شهوات نفوسهم الخفية ، حين تميل بخفاياها إلى مرادها دون الله ، فإذا جادوها وقهروها بتأييد الله أوصلهم الله مقامَ مشاهدته ، وهي جنة العارفين ، فإذا ترقُّوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى قهر النفس عن الهوى ، فإنّ نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية ، فجانست الأرواح الملكوتية ، فشهوات نفوسهم هناك من تواثير حلاوة أرواحهم في مشاهدة الحق ، فتشتهي الأنفسُ ما تشتهي الأرواحُ في الغيوب والعقول والقلوب ، فيضطرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس والأرواح ، جنات تظهر فيها أنوار شهود الحق ، وأين الكافر والمعطِّل والمدّعِي من هذا المقام ؟ وهم خلقوا من الجهالة ، فيموتون في الضلالة ، وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين ، وعيش نفوسهم عيش الجنّانيين أي أهل الجنة الحسية والله قادر بذلك يختص برحمته مَن يشاء ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " أسلم شيطاني " وقال : " نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح " ثم قال عن سهل : لا يَسلم من الهوى إلاَّ الأنبياء وبعض الصدّيقين ، ليس كلهم ، وإنما يسلم من الهوى مَن ألزم نفسه الأدب . هـ . قلت : الذي يُلزم نفسه الأدب هو الذي ينزل إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين ، وقليل ما هم . ذم ذكر سؤالهم عن الطامة ، فقال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } .