Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 5-6)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { كما أخرجك } خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : هذه الحال ، وهي عزلهم عن تولية الأَنفال في كراهتهم لها ، كحال إخراجك في الحرب في كراهتهم لها ، أو حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة ، مثل حالهم في كراهية خروجك ، أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله : { لله والرسول } أي : الأنفال تثبت لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ، مع كراهتهم ، ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربُّك من بيتك ، يعني المدينة لأنها مسكنه أو بيته منها ، وجملة : { وإن فريقاً } حال مِن أخرجك ، أي : أخرجك في حال كراهية فريق من المؤمنين . يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قد كره أصحابُك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك { ربُّك من بيتك بالحق } لقتال العدو ، والحال أن { فريقاً من المؤمنين لكارهون } خروجك لذلك ، وتلك الكراهية من قِبل النفس وطبع البشرية ، لا من قِبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله ، فإنهم راضون مستسلمون ، غير أن الطبع ينزع لِحَظَّه ، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده . وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال { يُجادلونك في الحق } أي : يخاصمونك في إيثارك الجهاد لإظهار الحق ، حيث أرادوا الرجوع للمدينة ، وقالوا : إنا لم نخرج لقتال ، قالوا ذلك { بعد ما تَبَيّن } لهم أنهم منصرون أينما توجهوا ، بإعلام الرسول لهم ، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة { كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون } أي : يكرهون القتال كراهة من يُساق إلى الموت ، وهو يشاهد أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم ، إذ رُوي أنهم كانوا رجّالة ، وما كان فيهم إلا فارسان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقصد الجهاد ، وإنما لملاقاة عير قُرَيْش ، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام ، وفيها تجارةٌ عَظيِمةٌ ، ومعها أربعُون رَاكباً ، فيهم أَبُو سُفْيان ، وعمرو بنُ العاص ، ومخرفة بن نوفل ، وعمروبن هِشَام ، فأراد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة ، حيث أخبره جبريلُ بقدومها من الشام ، فأخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ، فأعْجَبَهُم تلقيها ، لكثرةِ المال وقلةِ الرجالِ ، فلما خرجُوا ، بَلَغ الخبرُ أبا سفيان ، فسلك بالعير طريق السَاحِل ، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها ، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيرهم ، نادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة ، النَّجَاء ، النجاء على كل صَعْبٍ وذَلُولٍ ، عِيرُكُمْ وأَمْوالكم إن أصَابَهَا مُحَمَّدٌ لن تُفْلِحُوا بعدها أبداً . وقد رأت ، قبل ذلك بثلاث ليال ، عاتكةُ بنت المطلب ، رؤيا وهو أن رجلاً تمثل على جبل قبيس فنادى : يا آل لكع ، اخرجوا إلى مصارعكم ، ثم تمثل على الكعبة ، فنادى مثل ذلك ، ثم أخذ حجراً فضرب به ، فلم يبق بيت في مكة إلا دخلة شيء من ذلك الحجر ، فحدثت بها العباس ، وبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم ؟ لنتربص ثلاثاً ، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بني هاشم أنكم أكذب بيت في العرب ، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسولُ أبي سفيان ليستنفرهم . فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة ، ومضى بهم إلى بدر ، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي ذَفِران ، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين : إما العيرُ وإما قُرَيْش ، فاستشار فيه أصحابه ، فقال بعضهم : ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له ، وردد عليهم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا رسول الله ، عَلَيكَ بالعيرِ ودَع العَدو ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر وعُمَرُ فأحْسَنَا ، ثم قام سَعْدُ بن عُبادة فقال : انظرُ في أمْرِكَ ، وامْضِ ، فواللَّهِ لَو سِرْتَ إلى عَدَنٍ ما تَخَلَفَ رجلٌ مِنْ الأنْصارِ ، ثم قام المقِدَادُ بنُ عَمْرٍو فقال : امْضِ يا رسول الله لما أمرك ربك ، فإنا معك حيثما أحببتَ ، لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل : { فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَتِلاَ إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتِلاَ إنا معكُما مقاتلونَ ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أشيروا عَلَيَّ أيّها الناسُ " ، يريدُ الأنصار لأنهم كانوا عددهم ، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم بُرءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم ، فتخوف ألاّ يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سَعْدُ بنُ معَاٍذ وقال : لَكأنَّكَ تُرِيدُنَا يا رسولِ الله ؟ فقال : أجَلْ ، فقال : قد آمنّا بِك وصَدَّقْنَاكَ ، وشهدنا أن ما جئْتَ بِهِ هو الحقُّ فأعطَيْنَاكَ على ذلِك عُهُودَنَا ومَوَاثِيقَنَا على السَّمْعِ والطَّاعّةِ ، فامْضِ يا رَسُولَ اللهِ لما أرْدتَ ، فوالذي بَعَثَكَ بالْحق لو اسْتَعْرَضت بنا هذا البَحْرَ فخُضته لخضْنَاهُ مَعَكَ ، ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ ، وما نَكرَهُ أن تَلقِي بِنَا عَدُوِّنَا ، وإنا لَصُبُرٌ عِندَ الحَربِ ، صُدُقٌ عندَ الِّلقَاءِ ، ولعَلَّ اللَّهَ يُريكَ منا ما تقرُّ بِه عينُكَ ، فَسِرْ بنا على بَركَةِ اللهِ ، فنشطه قوله ، ثم قال : " سِيرُواعَلَى بَركَةِ الله ، وأبْشِرُوا فِإنَّ الله قد وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائفَتَينِ ، واللهِ لكأنّي أنْظرُ إلى مَصارع القَوْم " . ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر ، فَبُني له هناك عريش ، فجلس فيه هو وأبو بكر ، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شيء منها ، ونزلت الملائكة في العنان ، أي : السماء ، فقتل منهم سبعون ، وأُسر سبعون ، وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من غزوة بدر ، قيل له : عليك بالعير ، فقال العباس وقد أعطاك ما وعدك ، فكره بعضهم قوله ، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصوراً فرحاً مسروراً ، وقد أنجزه الله ما وعده . الإشارة : من حكمته تعالى الجارية في عبادة أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها في بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر ، والهناء والسرور ، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس ، وما تحقق سير السائرين إلا بمحاربة نفوسهم ومخالفة عوائدهم . وفي الحديث عنه صلىالله عليه وسلم ، قال لابن عباس في حديث طويل : " وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْر كَثِير " والله تعالى أعلم . ثم ذكر بقية قصة بدر ، فقال : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتِيْنِ } .