Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 112-112)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : التائبون : خبر ، أي : هم التائبون ، أو مبتدأ حُذف خبره ، أي : التائبون في الجنة وإن لم يجاهدوا ، لقوله تعالى : { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [ النساء : 95 ] ، أو خبره ما بعده ، أي : التائبون عن الكفر ، على الحقيقة ، وهم الجامعون لهذه الخصال . يقول الحق جل جلاله : في وصف البائعين أنفسهم وأموالهم : هم { التائبُون } عن الكفر والمعاصي والهفوات والغفلات ، { العابدون } لله ، مخلصين له الدين ، { الحامدون } لله في السراء والضراء وعلى كل حال ، { السائحون } أي : الصائمون ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " سِيَاحَةُ أُمتي الصوم " شبه بها من حيث إنه يعوق عن الشهوات ، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملكوت والجبروت . أو السائحون للجهاد ، أو لطلب العلم ، أو لزيادة المشايخ والإخوان . { الراكعون الساجدُون } في الصلاة ، { الآمرون بالمعروف } أي : بكل ما هو معروف محمود ، كالإيمان والطاعة ، { والناهُون عن المنكر } أي : كل ما هو منكر في الشرع ، كالكفر والمعاصي ، { والحافظون لحدود الله } أي : لكل ما حده الشارع وعينه من الحقائق والشرائع . قال البيضاوي : وعطف قوله : { والناهون عن المنكر } دون ما قبله للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، كأنه قال : الجامعون بين الوصفين ، وعطف أيضاً قوله : { والحافظون لحدود الله } للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل ، وهذا مجملها ، وقيل : للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع ، من حيث إن السبعة هو العدد التام ، والثامن ابتداء لعدد آخر معطوف عليه ، ولذلك سمى واو الثمانية . هـ . بالمعنى . { وبشر المؤمنين } الموصوفين بهذه الفضائل ، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به للتعظيم ، كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام . قاله البيضاوي . الإشارة : قد جمعت هذه الآية معارج الترقي من البداية إلى النهاية ، فأول المقامات : التوبة ، فإذا تابت النفس ورجعت عن هواها قصدت السير إلى حضرة مولاها ، فاشتغلت بالعبادة الظاهرة ، التي هي عمل الشريعة ، فإذا ظهر عليها أمارات التوفيق ، ولاحت لها أنوار التحقيق ، حمدت الله وشكرته تقييداً لتلك النعمة ، ثم تسيح فكرتها في ميادين الغيوب من الملكوت إلى الجبروت ، ثم ترد إلى مراسم الشريعة ، إذ منتهى الكمال : التزام الشرائع ، فتركع وتسجد البشرية ، أدباً في عالم الأشباح ، ويركع القلب ويسجد في مسجد الحضرة في عالم الأرواح ، فحينئذٍ تصلح للوعظ والتذكير ، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر الظاهريْن لأهل التشريع ، والباطنيْن لأهل التحقيق ، فالأول يسمى وعظاً وتذكيراً ، والثاني يسمى تربية وترقية ، ولا يقبل ذلك إلا ممن وقف مع الحدود ، ووفى بالعهود ، فيبشر حينئذٍ بالسعادة العظمى والمقام الأسنا . قال القشيري : لقوله تعالى : { السائحون } أي : الصائمون ، ولكن عن شهود غير الله ، المُمْتنعون عن خدمة غير الله ، المكتفون من الله بالله ، ويقال : السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الأعتبار طلباً للاستبصار ، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغربها بالتفكر في جوانبها ومناكبها ، والاستبدال بتغيُّرها على مُنْشِئتها ، والتحقق بحِكَم خالقها بما يَرَوْنَ من الآيات التي فيها ، ويسيحون بأسراهم في الملكوت ، فيجدون رَوْحَ الوصال ، ويعيشون بنسيم الأنْسِ بالتحقيق بشهود الحق . انتهى وانظر الورتجبي فقد جعل وصف الإيمان يحمل على التوبة ، ثم التوبة الصادقة تستدعي العبادات والمجاهدات المؤدية للعبودية ، فإذا تمت له نعمة للعبودية اقتضت حمد الله تعالى ، فيحمده تعالى معترفاً بعجزه عن القيام بحمده كما في حديث : " أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نَفسِك " ثم الحمد والذكر يقتضي حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين حِمَى هلال جماله في سماء الإيقان . ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام : " صُومُوا لِرؤْيِتِهِ " ولا يكون فطره إلا على حلاوة مشاهدته لقوله : " وأفطِرُوا لرُؤْيَتِهِ " فالسائحون طيارون بقلوبهم في أقطار الغيب ، وذلك يقتضي الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة ، فيركع شوقاً لجماله ، وخضوعاً لجلاله ، وعند ركوعه وخضوعه تحيط به أنوار الصفات ، فيسجد لكل الجهات { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّه } [ البقرة : 115 ] . وهذا السجود يقتضي الغربة ، والغربة تقتضي المشاهدة ، والمشاهدةُ تصير شاهدها متصفاً بصفاتها ، فمن وقع في نور أسماء الله وصفاته صار متصفاً بوصف الربوبية ، متمكناً في العبودية ، فيحكم بحكم الله ، ويعدل بعدل الله ، فيصفهم الله بهذه النعوت ، قال : الآمرون بالمعروف الداعون الخلق إلى الحق ، والناهون لهم عن متابعة الشهواتِ ، والحافظون لحدود الله ، القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم ، فلا يتجاوزون عن حد العبودية ، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبية لأنهم في محل التمكين على أسوة مراتب النبي صلى الله عليه وسلم ، مع كماله ، قال : " أنا العبد لا إله إلا الله " . انتهى . ثم نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين ، وينخرط فيهم من تخلف عن تبوك من المنافقين ، فقال : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } .