Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 30-33)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : عزيز : مبتدأ ، و ابن الله : خبر ، فمن نونه جعله مصروفاً لأنه عنده عربي ، ومن حذف تنوينه : إما لمنعه من الصرف للعلمية والعجمية عنده ، وإما لالتقاء الساكنين تشبيهاً للنون بحروف اللين ، وهو ضعيف ، والأول أحسن . يقول الحق جل جلاله : { وقالت اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله } ، قال ابن عباس : هذه المقالة قالها أربعة منهم ، وهم : سَلامُ بن مُشْكم ، ونُعْمَانُ أو لُقْمَانُ بْنُ أَوفَى ، وشَاسُ بنُ قَيس ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ . وقيل : لم يقلها إلا فنحاص ، ونسب ذلك لجميعهم لسكوتهم عنه . قال البيضاوي : إنما قال ذلك بعضهم من متقدميهم ، أو ممن كانوا بالمدينة ، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة ، وهو أي عزير لما أحياه الله بعد مائة عام ، أملى عليهم التوراة حفظاً ، فتعجبوا من ذلك ، وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن الله ، والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قُرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب . هـ . { وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله } ، هو أيضاً قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة أن يكون الولد بلا أب ، أو لما كان يفعل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وتقدم الرد عليهم ، وسبب إدخال هذه الشبهة عليهم ، في سورة المائدة . قال تعالى : { ذلك قولُهم بأفواههم } من غير دليل ولا برهان ، بل قالوا به من عندهم { يُضاهِئون } أي : يشابهون في هذه المقالة { قولَ الذين كفروا من قبلُ } ، يعني : قدماءهم ، على معنى أن الكفر قديم فيهم . قال ابن جزي : فإن كان الضمير لليهود والنصارى ، أي المتقدمين ، فالإشارة بقوله : الذين كفروا من قبل للمشركين من العرب ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، وهم أول كافر ، أو للصابئين ، أو لأمم تقدمت ، وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون . هـ . { قاتَلهُم اللَّهُ } أي : أهلكهم ودمرهم لأن من قاتله الله هلك ، فيكون دعاء ، أو تعجباً من شناعة قولهم ، { أنَى يُؤفكون } أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل . { اتخذوا أحبارَهم } أي : علماءَهم { ورهبانَهم } عُبَّادَهم { أرباباً من دون الله } بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، وفي السجود لهم ، { والمسيحَ ابنَ مريمَ } بأن جعلوه ابن الله ، { وما أمروا إلا ليعبدوا إِلهاً واحداً } وهو الله الواحد الحق ، وأما طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر من أمر بطاعته ، فهو في الحقيقة طاعة الله ، { لا إله إلا هو } تقرير للتوحيد ، { سبحانه عما يشركون } تنزيهاً له عن أن يكون معه شريك . { يريدون أن يُطفئوا } أي : يُخمدوا { نورَ الله } القرآن أو الإسلام بجملته ، { بأفواههم } كقولهم فيه : سحر ، وشعر ، وغير ذلك ، وفيه إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا ، { ويأبى اللَّهُ } لا يرضى { إلا أن يُتِمَ نوره } بإعلاء التوحيد وإظهار الإسلام ، وإعزاز القرآن وأهله ، { ولو كره الكافرون } ذلك ، فإن الله لا محالة يُتم نوره ، ويظهر دينه . { هو الذي أرسلَ رسولهُ } محمداً صلى الله عليه وسلم { بالهدى ودين الحق ليُظهرَهُ على الدين كله } ، الضمير في " يُظهره " . للدين الحق ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم . واللام في " الدين " . للجنس ، أي : على سائر الأديان فينسخها ، أو على أهلها فيخذلهم ، وقد أنجز وعده ، وأظهر دينه ورسوله على الأديان كلها ، حتى عم المشارق والمغارب ، { ولو كَرِهَ المشركون } ذلك الإظهار ، فيظهره الله رغماً من أنفهم . وقيل : يتحقق ذلك عند نزول عيسى عليه السلام ، حتى لا يبقى دين إلا دين الإسلام ، والله تعالى أعلم . الإشارة : من انطمس نور بصيرته نسب لله ما لا يليق بكمالاته ، ومن لم تنهضه سوابق العناية وقف مع الوسائط ولم ينفذ إلى شهود الوسائط ، وقد عيَّر الله قوماً وقفوا مع الوسائط فقال : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ، وقال ، في شأن الواسطة العظمى غيرةً على القلوب أن تقف مع غيره : { ليسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيء } [ آل عمران : 128 ] ، { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } [ هود : 12 ] ، ودخل بعض العارفين على إنسان وهو يبكي ، فقال : وما يبكيك ؟ فقال له : مات أستاذي ، فقال له ذلك العارف : ولم جعلت أستاذك من يموت ؟ . فالوسائط كالأنبياء والأولياء ، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله ، دالون عليه ، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص . وقال الورتجبي على هذه الآية : عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق ، وإن كان وسيلة منه ، فإن في إفراد القدم من الحدوث ، النظر إلى الوسائط ، وهو شرك ، وتصديق ذلك تمام الآية { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } . غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق . قال الله تعالى : { قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم } [ الأنعام : 91 ] . ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيره القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال : " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح " . ثم قال الورتجبي : قال بعضهم في هذه الآية : سكنوا إلى أمثالهم ، فطلبوا الحق من غير مظانه ، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق ، وبصر سبل التحقيق ، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق ، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق ، وركونهم إلى أهل التقليد ، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد ، وهكذا شأن من اقتدى بالزّواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين ، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا ، الذين يقولون : نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة ، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث حيث علموا أن الولاية بالنسب ، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله ، وقلبُه معلق بغير الله ، هو من أولياء الله . قال الجنيد : إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية ، ووقاه من صحبة القراء . ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم ، ولم يتعرضوا لأولياء الله ، ولم يقصدوا إسقاط جاههم ، لكفيهم شقاوتهم ، لا سيما ويطعنون على الصديقين العارفين . قال الله في شأنهم : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } ، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات ، التي من جباه وجوههم ، ولئالئ خدودهم ، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية ، ويزيد نورهم على نور لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته . قوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } : إن الله سبحانه سن سنة أزلية : ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله ، وبسِّر دينه وربوبيته ، فيدله إلى منهاج عبوديته ، ومعارج روحه وقلبه ، إلى مشاهدة ربوبيته ، ويكون هو واسطة بينه وبين الله ، وإن كان الفضل بيد الله ، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب ، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب ، وصيره شفيعاً للجنايات ، لا شريكاً في الهدايات ، هداه نور القرآن ، وبيّنه حقيقة البيان ، مع إظهار البرهان . قيل : جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه ، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم ، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين ، قال الله تعالى : { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } ، انتهى كلامه . ثم ذكر مساوئ الأحبار والرهبان ، تنفيراً من طاعتهم وذماً لمن اتخذهم أرباباً ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ } .