Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 61-63)

Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم واذكر { إِذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إِبليس } وقد بينا أنّ امر الله تعالى بأن اسجدوا لآدم تعظيم لآدم وتفضيله عليهم وإِن كانت القربى بذلك السجود الى الله تعالى ، وفي الناس من قال : انه كان بمنزلة القبلة لهم وإِن كان فيه تشريف له . ثم اخبر تعالى ان الملائكة امتثلت امر الله فسجدت له { إِلا إِبليس } فقد قلنا ان اخبارنا تدل على ان ابليس كان من جملة الملائكة ، وانما كفر بامتناعه من السجود ، ومن قال ان الملائكة معصومون فان إِبليس لم يكن من جملة الملائكة والاستثناء في الآية استثناء منقطع و ( إِلا ) بمعنى ( لكن ) وإنما ضمه الى الملائكة من حيث جمعهم في الأمر ، والتكليف بالسجود ، فلذلك استثناه من جملتهم . ثم اخبر تعالى عن إِبليس أنه قال { أأسجد لمن خلقت طيناً } على وجه الإِنكار لذلك ، وأن من خلق من نار أشرف وأعظم ، من الذي خلق من طين ، وآدم اذا كان مخلوقاً من طين كيف يسجد له من هو مخلوق من نار ، وهو ابليس ، وذلك يدل على ان إِبليس فهم من ذلك الأمر تفضيله عليه ، ولو كان بمنزلة القبلة لما كان لامتناعه عليه وجه ، ولا لدخول الشبهة بذلك مجال . و { طيناً } نصب على التمييز ، ويجوز ان يكون نصباً على الحال . والمعنى إِنك انشأته في حال كونه من طين . ووجه الشبهة الداخلة على إِبليس ان الفروع ترجع الى الاصول فتكون على قدرها في التكبر أو التصغر ، فلما اعتقد أن النار اكرم أصلا من الطين جاء منه انه أكرم ممن خلق من طين ، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها متماثلة ، وان الله تعالى يصرفها بالاعراض كيف شاء مع كرم جوهر الطين وكثرة ما فيه من المنافع التي تقارب منافع النار او توفى عليها . وانما جاز ان يأمره بالسجود له ، ولم يجز ان يأمره بالعبادة له ، لأن السجود يترتب في التعظيم بحسب ما يراد به ، وليس كذلك العبادة التي هي خضوع بالقلب ليس فوقه خضوع ، لأنه يترتب في التعظيم بحسب نيته ؛ يبين ذلك انه لو سجد ساهياً لم يكن له منزلة في التعظيم على قياس غيره من افعال الجوارح . قال الرماني : الفرق بين السجود لآدم والسجود الى الكعبة ، ان السجود لآدم تعظيم له باحسانه ، وهذا يقارب قولنا في أنه قصد بذلك تفضيله بأن امره بالسجود له . ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعنى ما يزيدهم إِلا طغياناً كبيراً محققين ظن إِبليس فيهم مخالفين موجب نعمة ربهم على أمتهم وعليهم . ثم حكى تعالى عن إِبليس أنه قال { أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ } ومعناه اخبرني عن هذا الذي كرّمته عليّ لم كرّمته علي ؟ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ! فحذف لدلالة الكلام عليه . وإِنما قال { أأسجد } بلا حرف عطف ، لأنه على قوله { أأسجد لمن خلقت طيناً } والكاف في قوله { أرأيتك } لا موضع لها من الاعراب ، لأنها ذكرت في المخاطبة توكيداً ، و ( هذا ) نصب بـ { أرأيتك } ، والجواب محذوف . والمعنى ما قدمناه . وقوله { لئن أخرتنِ إلى يوم القيامة لأحتنكنّ ذرّيّته إلاّ قليلاً } , ومعنى لاحتنكن لاقطعنهم الى المعاصي ، يقال منه : احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم او غير ذلك ، قال الشاعر : @ أشكو اليك سنة قد أجحفت جهداً إِلى جهد بنا وأضعفت واحتنكت أموالنا وجلفت @@ وقال ابن عباس : معنى { لاحتنكنّ } لأستولينّ ، وقال مجاهد : لأحتوين ، وقال ابن زيد : لاضلنهم ، وقال قوم : لاستأصلن ذريته بالاغواء ، وقال آخرون : لأقودنهم إِلى المعاصي ، كما تقاد . الدابة بحنكها إِذا شدّ فيها حبل تجرُّ به . وقوله { إلا قليلاً } استثناء من ابليس القليل من ذرّية آدم الذين لا يتبعونه ولا يقبلون منه . فقال الله تعالى عند ذلك { اذهب } يا ابليس { فمن تبعك } من ذرية آدم واقتفى أثرك وقبل منك { فإن جهنم جزاؤكم جزاءً موفوراً } أي كاملاً ، يقال منه : وفرته أفره وفراً ، فهو موفور ، وقال زهير : @ ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم @@ ووفّرته توفيراً ، ويقال : موفوراً بمعنى وافر ، في قول مجاهد ، كأنه ذو وفر ، كقولهم : لابن أي ذو لبن ، وقد دل على انهم لا ينقصون من عقابهم الذين يستحقونه شيئاً ، وفي ذلك استخفاف به وهوان له . وانما ظن ابليس هذا الظن الصادق ، بأنه يغوي اكثر الخلق ، لان الله تعالى كان قد أخبر الملائكة أن سيجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، فكان قد علم بذلك . وقيل : انما قال ذلك ، لانه وسوس الى آدم فلم يجد له عزماً ، فقال : بنو هذا مثله في ضعف العزيمة ، ذكره الحسن . وهذا الوجه لا يصح على اصلنا ، لان عندنا ان آدم لم يفعل قبيحاً ، ولا ترك واجباً ، فلو ظن ابليس ان اولاده مثله لانتقض غرضه ، ولم يخبر بما قال . و ( لئن ) حرف شرط ، ولا يليه الا الماضي ، والشرط لا يكون الا بالمستقبل والعلة في ذلك ان اللام في ( لئن ) تأكيد يرتفع الفعل بعده و ( ان ) حرف شرط ينجزم الفعل بعده ، فلما جمعوا بينهما ، لم يجز ان يجزم فعل واحد ويرفع ، فغير المستقبل الى الماضي ، لان الماضي لا يبين فيه الاعراب ، ذكر هذه العله ابن خالوية .