Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 4-6)
Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ ابو عمرو والكسائي " يرثني " جزماً على أنه جواب الأمر . الباقون بالرفع على أنه صفة لـ { ولياً } . فمن رفع قال " ولياً " نكرة فجعل " يرثني " صلة له ، كما تقول أعرني دابة اركبها ، ولو كان الاسم معرفة ، لكان الاختيار الجزم ، كقوله { فذروها تأكل في أرض الله } والنكرة كقوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } وقال مجاهد : من جزم جاز ان يقف على " ولياً " . ومن رفع لم يجز لانه صلة ، ولان المفسرين قالوا : تقديره " هب لي " الذي " يرثني " أي وارثاً فكل ذلك يقوّي الرفع . حكى الله تعالى ما نادى به زكريا ودعى ربه به ، وهو أن قال { رب } أي يا رب وأصله ربي ، وانما حذف الياء تخفيفاً وبقيت الكسرة تدل عليها { إني وهن العظم مني } أي ضعف ، والوهن الضعف ، وهو نقصان القوة ، يقال : وهن الرجل يهن وهناً إذا ضعف . ومنه قوله { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } وإنما اضاف الوهن الى العظم ، لأن العظم مع صلابته إذا كبر ضعف ، وتناقص ، فكيف باللحم والعصب . وقيل شكى البطش وهو قلة العطس وهو لا يكون إلا بالعظم . وقوله { واشتعل الرأس شيباً } معناه انتشر الشيب في الرأس ، كما ينتشر شعاع النار ، وهو من أحسن الاستعارات . والاشتعال انتشار شعاع النار ، والشيب مخالطة الشعر الابيض للاسود في الرأس وغيره من البدن ، وهو مثل الشائب الذي يخالط الشيء من غيره { ولم أكن بدعائك رب شقياً } تمام حكاية ما دعا به زكريا ، وانه قال لم اكن يا رب بدعائي اياك شقياً أي كنت ادعوك وحدك واعترف بتوحيدك . وقيل معناه اني إذا دعوتك اجبتني ، والدعاء طلب الفعل من المدعو ، وفي مقابلته الاجابة ، كما أن فى مقابلة الأمر الطاعة . ويحتمل نصب " شيباً " أمرين : احدهما - ان يكون نصباً على المصدر كأنه قال شاب شيباً . والثاني - التمييز كقولهم تصببت عرقاً وامتلأت ماء وقوله { وإني خفت الموالي من ورائي } قال مجاهد وأبو صالح ، والسدي : الموالي ها هنا العصبة . وقيل خفت الموالي بني عمي على الدين ، لانهم كانوا شرار بني اسرائيل ، وانما قيل لبني العم موالي لأنهم الذين يلونه فى النسب بعد الصلب . وقيل معنى الموالي الأولياء ان يرثوا علمي دون من كان من نسلي وانشدوا في أن الموالي بنو العم قول الشاعر : @ مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا @@ والمولى المِعتق ، والمَعتق ، والمولى الناصر ، والمولى الولي والمولى الاولى . وروي عن عثمان أنه قرأ { وإني خفت الموالي } بفتح الخاء وتشديد الفاء . وقوله { وكانت امرأتي عاقراً } يعني لا تلد ، ويقال للمرأة التي لا تلد : عاقر والرجل الذي لا يولد له : عاقر قال الشاعر : @ لبئس الفتى إن كنت اسود عاقراً جباناً فما عذري لدى كل محضر @@ والعقر فى البدن الجرح ومنه اخذ العاقر ، لانه نقص أصل الخلقة إما بالجراحة ، وإما بامتناع الولادة ، ومنه العقار ، لان فساده نقص لأصل المال . وقوله { يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيّاً } والميراث تركة الميت ما كان يملكه لمن بعده من مستحقيه بحكم الله فيه ، يقال : ورث يرث ارثاً وميراثاً وتوارثوا توارثاً وورثه توريثاً ، وأورثه علماً ومالا . و ( الآل ) خاصة الرجل الذين يؤل أمرهم اليه . وقد يرجع اليه أمرهم بالقرابة تارة وبالصحبة أخرى ، وبالدين والموافقة ، ومنه قيل ( آل النبي ) ( صلى الله عليه وسلم ) . وقوله { يرثني ويرث من آل يعقوب } قال أبو صالح : معناه يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوة . وقال الحسن يرثني العلم والنبوة ، وقال مجاهد يرث علمه . وقال السدي : يرث نبوته ونبوة آل يعقوب ، وكان آل يعقوب أخواله ، وهو يعقوب ابن ماتان ، وكان قيم الملك منهم ، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى ابن عمران . قال مقاتل : يعقوب بن ماثان اخو عمران ابي مريم ، وهما ابنا ماثان . وقوله { واجعله رب رضيّاً } والجعل على اربعة اقسام : احدها - بمعنى الاحداث كقولهم جعل البناء أي احدثه . والثاني - احداث ما يتغير به كقولهم : جعل الطين خزفاً أي احدث ما به يتغير الثالث - ان يحدث فيه حكما كقولهم : جعل فلان فلاناً فاسقاً أي بما أحدث فيه من حكمه وتسميته . الرابع - أن يحدث ما يدعوه الى ان يفعل كقولهم : جعله يقتل زيداً اي بما أمره به ودعاه الى قتله . ومعنى { واجعله رب رضيّاً } أي اجعل ذلك الولي الذي يرثني مرضياً عندك ممتثلا لأمرك عاملا بطاعتك . وفي الآية دلالة على ان الانبياء يورثون المال بخلاف ما يقول من خالفنا انهم لا يورثون ، لأن زكريا صرح بدعائه وطلب من يرثه ويحجب بني عمه وعصبته من الولد . وحقيقة الميراث انتقال ملك المورث الى ورثته بعد موته بحكم الله . وحمل ذلك على العلم والنبوة على خلاف الظاهر ، لان النبوة والعلم لا يورثان ، لأن النبوة تابعة للمصلحة لا مدخل للنسب فيها ، والعلم موقوف على من يتعرض له ويتعلمه ، على أن زكريا إنما سأل ولياً من ولده يحجب مواليه من بني عمه وعصبته من الميراث وذلك لا يليق إلا بالمال ، لان النبوة والعلم لا يحجب الولد عنهما بحال ، على أن اشتراطه ان يجعله { رضيا } لا يليق بالنبوة ، لان النبي لا يكون إلا رضياً معصوما ، فلا معنى لمسألته ذلك ، وليس كذلك المال ، لأنه يرثه الرضي وغير الرضي . واستدل المخالف بهذه الآية على أن البنت لا تحوز المال دون بني العم والعصبة ، لان زكريا طلب ولياً يمنع مواليه ، ولم يطلب ولية . وهذا ليس بشيء ، لان زكريا إنما طلب ولياً ، لان من طباع البشر الرغبة فى الذكور دون الاناث من الأولاد ، فلذلك طلب الذكر ، على أنه قيل ان لفظ الولي يقع على الذكر والانثى ، فلا نسلم أنه طلب الذكر بل يقتضي الظاهر أنه طلب ولداً سواء كان ذكراً او انثى . والوراء الخلف والوراء القدام ممدود وكذلك الوراء ولد الولد ممدود . والورى مقصوراً : داء فى الجوف . والورى ايضاً الخلق مقصور ، وكلهم قرأ " ورائي " ممدوداً ساكن الياء إلا ما رواه ابن مجاهد عن قنبل بفتح الياء مع المدّ ، وروي عن شبل عن ابن كثير ( وراي ) مقصوراً مثل هداي بغير همز ، وفتح الياء . قال أبو علي لا أعلم أحداً من اهل اللغة حكى القصر فى هذه اللفظة ، ولعلها لغة جاءت ، وقد جاء فى الشعر قصر الممدود ، وقياسه رد الشيء الى أصله ، واللام فى هذه الكلمة همزة ، وليس من باب الورى . وقال ابو عبيدة وغيره { من ورائي } يعني من قدامي ، ومثله { وكان وراءهم ملك } أي بين أيديهم . وحكي عن الثوري وراء الرجل خلفه وقدامه . وقوله { ومن ورائه عذاب } اى قدامه . وقوله { وإني خفت الموالي } فان الخوف لا يكون من الاعيان وإنما يكون من معان فيها ، فقولهم خفت الله اى خفت عقابه ، وخفت الموالي خفت تضييعهم مالي وانفاقه في معصية الله .