Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 102-111)

Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما { ماذا ترى } بضم التاء وكسر الراء . الباقون بفتح التاء . من ضم التاء اراد ماذا تشير ، وقال الفراء : يجوز ان يكون المراد ماذا ترى من صبرك وجلدك ، لانه لا يستشيره في أمر الله . واصله ترئي فنقلوا كسرة الهمزة إلى الراء ، وحذفت الهمزة لسكونها وسكون الياء . ومن فتح جعله من الرأى والرؤية ، لا من المشورة . لما اخبر الله تعالى انه اجاب دعوة إبراهيم في طلب الولد وبشره بولد حليم اخبر ان من وعده به ولد له وكبر وترعرع ، فلما بلغ مع ابيه السعي يعني في طاعة الله ، قال الحسن سعى للعمل الذي تقوم به الحجة . وقال مجاهد : بلغ معه السعي . معناه أطاق ان يسعى معه ويعينه على أموره ، وهو قول الفراء قال : وكان له ثلاث عشرة سنة ، وقال ابن زيد : السعي في العبادة { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } وكان الله تعالى أوحى إلى ابراهيم في حال اليقظة ، وتعبده أن يمضي ما يأمره في حال نومه من حيث ان منامات الانبياء لا تكون إلا صحيحة ، ولو لم يأمره به في اليقظة لما جاز أن يعمل على المنامات ، أحب ان يعلم حال ابنه في صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته . فلذلك قال له ماذا ترى ، وإلا فلا يجوز أن يوآمر في المضي في امر الله ابنه ، لانه واجب على كل حال . ولا يمتنع ايضاً أن يكون فعل ذلك بأمر الله ايضاً ، فوجده عند ذلك صابراً مسلماً لامر الله . { وقال يا أبت افعل ما تؤمر } اي ما امرت به { ستجدني انشاء الله من الصابرين } ممن يصبر على الشدائد في حب الله ويسلم أمره اليه { فلما أسلما } يعني ابراهيم وابنه اي استسلما لأمر الله ورضيا به اخذ ابنه { وتله للجبين } معنى تله صرعه . والجبين ما عن يمين الجبهة او شمالها وللوجه جبينان الجبهة بينهما . وقال الحسن : معنى وتله اضجعه للجبين . ومنه التل من التراب وجمعه تلول . والتليل العنق ، لانه يتل له ، { وناديناه أن يا إبراهيم } و ( ناديناه ) هو جواب ( فلما ) قال الفراء : العرب تدخل الواو في جواب ( فلما ) و ( حتى ) و ( إذا ) كما قال { حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها } وفي موضع آخر { وفتحت } وفي قراءة عبد الله { فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية } وفي المصاحف ( جعل ) بلا واو وموضع ان نصب بوقوع النداء عليه وتقديره وناديناه بأن يا ابراهيم أي هذا الضرب من القول فلما حذف الباء نصب . وعند الخليل انه في موضع الجر . { قد صدقت الرؤيا } ومعناه فعلت ما امرت به في الرؤيا واختلفوا في الذبيح . فقال ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب القرطي وسعيد ابن المسيب والحسن في احدى الروايتين عنه والشعبي : انه كان اسماعيل وهو الظاهر في روايات اصحابنا ويقويه قوله بعد هذه القصة وتمامها { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } فدل على ان الذبيح كان اسماعيل . ومن قال : إنه بشر بنبوة اسحاق دون مولده ، فقد ترك الظاهر لان الظاهر يقتضي البشارة باسحاق دون نبوته ، ويدل ايضاً عليه قوله { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } ولم يذكر اسماعيل ، فدل على انه كان مولوداً قبله وايضاً فانه بشره باسحاق وانه سيولد له يعقوب ، فكيف يأمره بذبحه مع ذلك . واجابوا عن ذلك بأن الله لم يقل إن يعقوب يكون من ولد اسحاق . وقالوا ايضاً يجوز أن يكون أمره بذبحه بعد ولادة يعقوب ، والاول هو الاقوى على ما بيناه . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : " انا ابن الذبيحين " ، ولا خلاف انه كان من ولد اسماعيل والذبيح الآخر عبد الله ابوه . وروي عن ابن عباس وعلي وابن مسعود وكعب الاحبار انه كان اسحاق . وروي ذلك ايضاً في اخبارنا . وفى الناس من استدل بهذه الآية على جواز النسخ قبل وقت فعله من حيث ان الله تعالى كان قد امره بذبح ولده ثم نسخ عنه قبل ان يفعله ، ولا يمكننا ان نقول ان الوقت كان قد مضى ، لأنه لو أخره عن الوقت الذي امره به فيه لكان عاصياً ، ولا خلاف أن ابراهيم لم يعص بذلك . فدل على انه نسخ عنه قبل وقت فعله . ومن لم يجز النسخ قبل وقت فعله اجاب عن ذلك بثلاثة أجوبة : احدها - ان الله تعالى أمر ابراهيم ان يقعد منه مقعد الذابح ويشد يديه ورجليه ويأخذ المدية ويتركها على حلقه وينتظر الأمر بامضاء الذبح على ما رأى في منامه وكل ذلك فعله ، ولم يكن أمره بالذبح ، وإنما سمي مقدمات الذبح بالذبح لقربه منه وغلبة الظن انه سيؤمر بذلك على ضرب من المجاز . الثاني - انه إنما أمره بالذبح وذبح ، وكل ما فرى جزء من حلقه وصله الله بلا فصل حتى انتهى إلى آخره فاتصل به ، وصله الله تعالى ، فقد فعل ما أمر به ولم يبن الرأس ولا انتفى الروح . الثالث - انه امر بالذبح بشرط التخلية والتمكين ، فكان كما روي انه كلما أعمد بالشفرة انقلبت وجعل على حلقه صفحة من نحاس ، وهذا الوجه ضعيف ، لان الله تعالى لا يجوز ان يأمر بشرط ، لانه عالم بالعواقب ، وإنما يأمر الواحد منا بشرط ذلك لانه لا يعلم العواقب ، ولان فيه انه أمر بما منع منه وهذا عيب . فاما قول من قال : انه فداه بذبح ، فدل ذلك على انه كان مأموراً بالذبح على الحقيقة ، اعتراضاً على الوجه الأول ، لان من شأن الفداء أن يكون من جنس المفدي ، فليس بشيء ، لانه لا يلزم ذلك الا ترى ان من حلق رأسه وهو محرم يلزمه ذلك ، وكذلك إذا لبس ثوباً مخيطاً او شم طيباً او جامع . وإن لم يكن جميع ذلك من جنس المفدي . وقوله { إنا كذلك نجزي المحسنين } معناه إنا جازينا ابراهيم على فعله بأحسن الجزاء . ومثل ذلك نجزي كل من فعل طاعة ، فانا نجازيه على فعله بأحسن الجزاء . ثم اخبر تعالى بأن هذا الذي تعبد به إبراهيم هو البلاء المبين أي الاختبار الظاهر وقيل : هو النعمة البينة الظاهرة ، وتسمى النعمة بلاء والنقمة ايضاً بلاء من حيث انها سميت بسببها المؤدي اليها ، كما يقال لأسباب الموت هو الموت بعينه { والمبين } هو البين في نفسه الظاهر ، ويكون بمعنى الظاهر ، ويكون بمعنى المظهر ما في الأمر من خير او شر . ثم قال تعالى { وفديناه } يعني ولد إبراهيم { بذبح عظيم } فالفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه ، ومنه فداء المسلمين بالمشركين لدفع ضرر الاشد عنهم ، فكذلك فداء الله ولد إبراهيم بالكبش لدفع ضرر الذبح عنه . والعظيم هو الكبير . وقيل : لان الكبش الذي فدي به يصغر مقدار غيره من الكباش عنه بالاضافة اليه . وقال ابن عباس : فدي بكبش من الغنم . وهو قول مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير . وقال الحسن : فدي بوعل أهبط به عليه جبرائيل . وقيل : إنه لا خلاف انه لم يكن من الماشية التي كانت لابراهيم او غيره في الدنيا . وقيل : إنه رعى في الجنة أربعين خريفاً . وقال مجاهد : وصفه بأنه عظيم ، لانه متقبل . والذبح بكسر الذال المهيأ ، لان يذبح . وبفتح الذال المصدر . وقوله { وتركنا عليه في الآخرين } يعني على إبراهيم في الآخرين يعني اثبتنا عليه الثناء الحسن في أمة محمد لانهم آخر الأمم بأن قلنا { سلام على إبراهيم } وقد بينا ما في ذلك ثم قال مثل ذلك نجزي كل محسن ، فاعل لما أمر الله به كما جازينا ابراهيم صلى الله عليه وآله . ثم أخبر تعالى ان إبراهيم كان من جملة عباده الذين يصدقون بتوحيد الله وبجميع ما اوجبه عليهم ، ومن جملة المصدقين بوعد الله ووعيده والبعث والنشور والجنة والنار . وانما قال { إنه من عبادنا المؤمنين } مع انه افضل المؤمنين ترغيباً في الايمان بأن مدح مثله في جلالته بأنه من المؤمنين ، كما يقال هو من الكرماء وكذلك قوله { ونبياً من الصالحين } وإذا مدح بأنه يصلح وحده فلأنه لا يقوم غيره مقامه ويستغنى به عنه .