Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 169-170)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا : الجهاد يفضي إلى القتل ، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد ، والقتل شيء مكروه ، فوجب الحذر عن الجهاد ، ثم إن الله تعالى بين أن قولهم : الجهاد يفضي إلى القتل باطل ، بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره ، فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه ، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل ، ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل الله شيء مكروه ، وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة ، وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله الى أجل مراتب الفرح والسرور ؟ فأي عاقل يقول إن مثل هذا القتل يكون مكروها ، فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد ، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين ، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين ، والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين الى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل ، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل الى نعيم الدنيا وربما لم يصل ، وبتقدير أن يصل اليه فهو حقير وقليل ، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم ، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم ، واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الإقبال على الجهاد أفضل من تركه . المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء ، فإما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا ، فإن كان المراد منه هو الحقيقة ، فإما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، أو المراد أنهم أحياء في الحال ، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد ، فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية ، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية . الاحتمال الأول : أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، قد ذهب اليه جماعة من متكلمي المعتزلة ، منهم أبو القاسم الكعبي قال : وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى ، كانوا يقولون : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون الى خير ، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد ، فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل اليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة . واعلم أن هذا القول عندنا باطل ، ويدل عليه وجوه : الحجة الأولى : ان قوله : { بَلْ أَحْيَاء } ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية ، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر . الحجة الثانية : انه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والاحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة ، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فانه تعالى قال : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب ، والتعذيب مشروط بالحياة ، وأيضا قال تعالى : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] واذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب ، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الاحسان والاثابة كان ذلك أولى . الحجة الثالثة : أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك ، أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف ، وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب اليهم . فان قيل : إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة ، فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور . قلنا : قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } إنما يتناول الموت لأنه قال : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوٰتاً } فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة ، وقوله : { يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ } فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال . الحجة الرابعة : قوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ } والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا ، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة ، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة ، فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة ، وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره . الحجة الخامسة : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفة الشهداء : " " ان أرواحهم في أجواف طير خضر وإنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال الله تعالى : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى هذه الآية " وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية ، فقال : سألنا عنها فقيل لنا إن الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، وفي رواية في روضة خضراء ، وعن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال : ما تريد يا عبدالله بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني الى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى " " والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر ، فكيف يمكن إنكارها ؟ طعن الكعبي في هذه الروايات وقال : إنها غير جائزة لان الأرواح لا تتنعم ، وإنما يتنعم الجسم اذا كان فيه روح لا الروح ، ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة ، وأيضا : الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الارواح في حواصل الطير ، وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح ، وهذا يناقض كونها في حواصل الطير . والجواب : أما الطعن الأول : فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم ، وسنبين أن الأمر ليس كذلك ، وأما الطعن الثاني : فهو مدفوع لأن القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات ، فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال . وأما الوجه الثاني : من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال ، والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح ، ومنهم من أثبتها للبدن ، وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة ، وهي أن الانسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ، ويدل عليه أمران : أحدهما : أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال ، والتبدل ، والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره ، والباقي مغاير للمتبدل ، والذي يؤكد ما قلناه : أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا ، وأنه يكون في أول الأمر صغير الجثة ، ثم انه يكبر وينمو ، ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره الى آخره فصح ما قلناه . الثاني : أن الانسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس ، ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم . والدهن في السمسم ، وماء الورد في الورد . ويحتمل أن يكون جوهراً قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم ، وعلى كلا المذهبين فانه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا ، وان قلنا إنه أماته الله الا أنه تعالى يعيد الحياة اليه ، وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر ، كما في هذه الآية ، وعن عذاب القبر كما في قوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك ، فظاهر الآية دال عليه ، فوجب المصير اليه ، والذي يؤكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل . أما القرآن فآيات : إحداها : { يأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَٱدْخُلِى فِى عِبَادِى * وَٱدْخُلِى جَنَّتِى } [ الفجر : 27 30 ] ولا شك أن المراد من قوله : { ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ } الموت . ثم قال : { فَٱدْخُلِى فِى عِبَادِى } وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت ، وهذا يدل على ما ذكرناه ، وثانيها : { حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] وهذا عبارة عن موت البدن . ثم قال : { ثُمَّ رُدُّواْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقّ } [ الأنعام : 62 ] فقوله : { رُدُّواْ } ضمير عنه . وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة ، فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن ، وثالثها : قوله : { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ * وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ } [ الواقعة : 88 89 ] وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " " من مات فقد قامت قيامته " " والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته ، وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله ، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام : " " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " " وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول : " " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " " فقيل له : يا رسول الله إنهم أموات ، فكيف تناديهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " " إنهم أسمع منكم " " أو لفظاً هذا معناه ، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام : " " أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار " " وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد . وأما المعقول فمن وجوه : الأول : وهو أن وقت النوم يضعف البدن ، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس ، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات ، فاذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس ، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس . الثاني : وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ ، وجفافه يؤدي الى الموت ، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية ، وهو غاية كمال النفس ، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن ، وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن . الثالث : أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن ، وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية ، والدليل عليه قوله تعالى : { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " " ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا ، فانا نرى أن الانسان اذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان ، أو بالفوز بمنصب ، أو بالوصول الى معشوقه ، قد ينسى الطعام والشراب ، بل يصير بحيث لو دعي الى الأكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه ، والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم اذا لاح لهم شيء من تلك الانوار ، وانكشف لهم شيء من تلك الأسرار ، لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية ، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن ، واذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن ، ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام . واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الاشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه ، واذا عرفت هذه القاعدة فنقول : قال بعض المفسرين : أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة ، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " اذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي » " . " واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله : { أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ } ولفظ « عند » فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله : { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأنبياء : 19 ] فاذا فهمت السعادة الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله ، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله ، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة . الوجه الثالث : في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للأجساد ، والقائلون بهذا القول اختلفوا ، فقال بعضهم : إنه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها ، ومنهم من قال : يتركها في الارض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها ، ومن الناس من طعن فيه وقال : إنا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع ، فاما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها ، أو يقال : إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى ، ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها ، وكل ذلك مستبعد ، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد ، فإن جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة . الوجه الرابع : في تفسير هذه الآية أن نقول : ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم ، بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه : الأول : قال الأصم البلخي : إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين ، وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة ، صح أن يقال : إنه حي وليس بميت ، كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد : إنه ميت وليس بحي ، وكما يقال للبليد : إنه حمار ، وللمؤذي إنه سبع ، وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له : ما مات من خلف مثلك ، وبالجملة فلا شك أن الانسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا ، فانه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي . الثاني : قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم ، وانها لا تبلى تحت الأرض البتة . واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء ، أمر بأن ينادى : من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع ، قال جابر : فخرجنا اليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان ، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما . والثالث : أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات ، فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية والله أعلم بأسرار المخلوقات . المسألة الثالثة : قال صاحب « الكشاف » : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد وقرىء بالياء ، وفيه وجوه : أحدها : ولا يحسبن رسول الله . والثاني : ولا يحسبن حاسب ، والثالث : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً قال : وقرىء { تَحْسَبَنَّ } بفتح السين ، وقرأ ابن عامر { قُتِلُواْ } بالتشديد والباقون بالتخفيف . المسألة الرابعة : قوله : { بَلْ أَحْيَاء } قال الواحدي : التقدير : بل هم أحياء ، قال صاحب « الكشاف » : قرىء { أَحْيَاء } بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء . وأقول : إن الزجاج قال : ولو قرىء { أَحْيَاء } بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء ، وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال : لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على الله ، ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب اليه أحد من علماء أهل اللغة ، وللزجاج أن يجيب فيقول : الحسبان ظن لا شك ، فلم قلتم إنه لا يجوز أن يأمر الله بالظن ، أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن . وأقول : هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء { أَحْيَاء } بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة ، والفارسي نازعه فيه ، وليس كل ما له وجه في الإعراب جازت القراءة به . أما قوله تعالى : { عِندَ رَبّهِمْ } ففيه وجوه : أحدها : بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى . والثاني : هم أحياء عند ربهم ، أي هم أحياء في علمه وحكمه ، كما يقال : هذا عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة بخلافه . والثالث : ان { عِندَ } معناه القرب والإكرام ، كقوله : { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنبياء : 19 ] وقوله : { ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ } [ الأعراف : 206 ] أما قوله : { يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ } فاعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : { يُرْزَقُونَ } إشارة إلى المنفعة ، وقوله : { فَرِحِينَ } إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم ، وأما الحكماء فانهم قالوا : إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الالهية كانت مبتهجة من وجهين : أحدهما : أن تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الالهية . والثاني : بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة ، قالوا : وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول ، فقوله : { يُرْزَقُونَ } إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله : { فَرِحِينَ } إشارة إلى الدرجة الثانية ، ولهذا قال : { فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } يعني ان فرحهم ليس بالرزق ، بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه ، والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق ، ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب . ثم قال تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . واعلم أن قوله : { أَلاَّ خَوْفٌ } في محل الخفض بدل من { ٱلَّذِينَ } والتقدير : ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : الاستبشار السرور الحاصل بالبشارة ، وأصل الاستفعال طلب الفعل ، فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة . المسألة الثانية : اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر . أما الأول : فهو أن يقال : إن الشهداء يقول بعضهم لبعض : تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا ، فهو قوله : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } . وأما الثاني : فهو أن يقال : إن الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ، والمراد بقوله : { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ } هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء ، لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم ، دليله قوله تعالى : { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَـٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَـٰتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } [ النساء : 95 96 ] فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم ، وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم ، هذا اختيار أبي مسلم الاصفهاني والزجاج . واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني ، وذلك لأن حاصل الثاني يرجع الى استبشار بعض المؤمنين ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة ، وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين ، فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك ، وأيضا : فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول ، لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء ، قال تعالى : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ } [ النساء : 69 ] وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص . أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم . المسألة الثالثة : الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل ، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي ، فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ، ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا .