Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 85-85)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها : الأول : أن الله تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يحرض الأمة على الجهاد ، والجهاد من الأعمال الحسنة والطاعات الشريفة ، فكان تحريض النبي عليه الصلاة والسلام للأمة على الجهاد تحريضا منه لهم على الفعل الحسن والطاعة الحسنة ، فبين تعالى في هذه الآية أن من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، والغرض منه بيان أنه عليه الصلاة والسلام لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما . الثاني : أنه تعالى لما أمره بتحريضهم على الجهاد ذكر أنهم لو لم يقبلوا أمره لم يرجع إليه من عصيانهم وتمردهم عيب ، ثم بين في هذه الآية أنهم لما أطاعوا وقبلوا التكليف رجع إليهم من طاعتهم خير كثير ، فكأنه تعالى قال للرسول عليه الصلاة والسلام : حرضهم على الجهاد ، فإن لم يقبلوا قولك لم يكن من عصيانهم عتاب لك ، وإن أطاعوك حصل لك من طاعتهم أعظم الثواب ، فكان هذا ترغيبا من الله لرسوله في أن يجتهد في تحريض الأمة على الجهاد ، والسبب في أنه عليه الصلاة والسلام كان يرجع اليه عند طاعتهم أجر عظيم ، وما كان يرجع اليه من معصيتهم شيء من الوزر ، هو أنه عليه السلام بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة وما رغبهم ألبتة في المعصية ، فلا جرم يرجع اليه من طاعتهم أجر ولا يرجع اليه من معصيتهم وزر . الثالث : يجوز أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام لما كان يرغبهم في القتال ويبالغ في تحريضهم عليه ، فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن الغزو ، فنهى الله عن مثل هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن اذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة الله ، فأما اذا كانت وسيلة الى معصيته كانت محرمة منكرة . الرابع : يجوز أن يكون بعض المؤمنين راغبا في الجهاد ، إلا أنه لم يجد أهبة الجهاد ، فصار غيره من المؤمنين شفيعا له إلى مؤمن آخر ليعينه على الجهاد ، فكانت هذه الشفاعة سعيا في إقامة الطاعة ، فرغب الله تعالى في مثل هذه الشفاعة ، وعلى جميع الوجوه فالآية حسنة الاتصال بما قبلها . المسألة الثانية : الشفاعة مأخوذة من الشفع ، وهو أن يصير الانسان نفسه شفعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها . إذا عرفت هذا فنقول : في الشفاعة المذكورة في الآية وجوه : الأول : أن المراد منها تحريض النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على الجهاد ، وذلك لأنه اذا كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد ، وأيضا فالتحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد ، بل على سبيل الرفق والتلطف ، وذلك يجري مجرى الشفاعة . الثاني : أن المراد منه ما ذكرنا من أن بعض المنافقين كان يشفع لمنافق آخر في أن يأذن له الرسول عليه الصلاة والسلام في التخلف عن الجهاد ، أو المراد به أن بعض المؤمنين كان يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث في أن يحصل له ما يحتاج إليه من آلات الجهاد . الثالث : نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار ، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم : الرابع : قال مقاتل : الشفاعة إلى الله إنما تكون بالدعاء ، واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك " " فهذا هو النصيب ، وأما الشفاعة السيئة فهي ما روي أن اليهود كانوا إذا دخلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا : السام عليكم ، والسام هو الموت ، فسمعت عائشة رضي الله عنها فقالت عليكم السام واللعنة ، أتقولون هذا للرسولٰ فقال صلى الله عليه وسلم : قد علمت ما قالوا فقلت وعليكم ، فنزلت هذه الآية . الخامس : قال الحسن ومجاهدي والكلبي وابن زيد : المراد هو الشفاعة التي بين الناس بعضهم لبعض ، فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة ، وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة ، ثم قال الحسن : من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر ، وإن لم يشفع ، لأن الله تعالى يقول : { مَّن يَشْفَعْ } ولم يقل : ومن يشفع ، ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام : " " اشفعوا تؤجروا " . " وأقول : هذه الشفاعة لا بد وأن يكون لها تعلق بالجهاد وإلا صارت الآية منقطعة عما قبلها ، وذلك التعلق حاصل بالوجهين الأولين ، فأما الوجوه الثلاثة الأخيرة فإن كان المراد قصر الآية عليها فذلك باطل ، وإلا صارت هذه الآية أجنبية عما قبلها ، وإن كان المراد دخول هذه الثلاثة مع الوجهين الأولين في اللفظ فهذا جائز لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ . المسألة الثالثة : قال أهل اللغة : الكفل : هو الحظ ومنه قوله تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] أي حظين وهو مأخوذ من قولهم : كفلت البعير واكتفلته إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه . وإنما قيل : كفلت البعير واكتفلته لأنه لم يستعمل كل الظهر ، وإنما استعمل نصيبا من الظهر . قال ابن المظفر : لا يقال : هذا كفل فلان حتى تكون قد هيأت لغيره مثله ، وكذا القول في النصيب ، فإن أفردت فلا تقل له كفل ولا نصيب . فان قيل : لم قال في الشفاعة الحسنة : { يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } وقال في الشفاعة السيئة : { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة ؟ قلنا : الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس ، وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة ، وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به ، ويقال للضامن : كفيل . وقال عليه الصلاة والسلام : " " أنا وكافل اليتيم كهاتين " " فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الانسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه ، إذا ثبت هذا فنقول : { وَمَن يَشْفَعْ شَفَـٰعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده ، والمقصود حصول ضد ذلك { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى . ثم قال تعالى : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : في المقيت قولان : الأول : المقيت القادر على الشيء ، وأنشدوا للزبير بن عبد المطلب . @ وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على إساءته مقيتا @@ وقال آخر : @ ليت شعري وأشعرن إذا ما قربوها منشورة ودعيت إلي الفضل أم علي إذا حو سبت أني على الحساب مقيت @@ وأنشد النضر بن شميل : @ تجلد ولا تجزع وكن ذا حفيظة فاني على ما ساءهم لمقيت @@ الثاني : المقيت مشتق من القوت ، يقال : قت الرجل إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته ، واسم ذلك الشيء هو القوت ، وهو الذي لا فضل له على قدر الحفظ ، فالمقيت هو الحفيظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة ، ثم قال القفال رحمه الله : وأي المعنيين كان فالتأويل صحيح ، وهو أنه تعالى قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ولا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع ، وعلى الوجه الثاني أنه تعالى حافظ الأشياء شاهد عليها لا يخفى عليه شيء من أحوالنا ، فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل حفيظ عليه فيجازى كلا بما علم منه . المسألة الثانية : إنما قال : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } تنبيها على أن كونه تعالى قادرا على المقدورات صفة كانت ثابتة له من الازل ، وليست صفة محدثة ، فقوله : { كَانَ } مطلقا من غير أن قيد ذلك بأنه كان من وقت كذا أو حال كذا ، يدل على أنه كان حاصلا من الازل إلى الأبد .