Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 45, Ayat: 16-21)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى بيّـن أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل ، مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبيل البغي والحسد : والمقصود أن يبين أن طريقة قومه كطريقة من تقدم . واعلم أن النعم على قسمين : نعم الدين ، ونعم الدنيا ، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا ، فلهذا بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين ، فقال { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكون مغايراً لصاحبه ، أما الكتاب فهو التوراة ، وأما الحكم ففيه وجوه ، يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة ، ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات ، ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه ، وأما النبوة فمعلومة ، وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى : { وَرَزَقناهم مِّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا ، فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى ، ولما بيّـن تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيباً وافراً ، قال : { وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمينَ } يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم ، فلهذا المعنى قال المفسرون المراد : وفضلناهم عن عالمي زمانهم . ثم قال تعالى : { وَءاتَيْنَـٰهُم بَيّنَـٰتٍ مّنَ ٱلأَمْرِ } وفيه وجوه الأول : أنه آتاهم بينات من الأمر ، أي أدلة على أمور الدنيا الثاني : قال ابن عباس : يعني بيّـن لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ، ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث : المراد { وَءاتَيْنَـٰهُم بَيّنَـٰتٍ } أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم ، والمراد معجزات موسى عليه السلام . ثم قال تعالى : { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } وهذا مفسر في سورة { حـم * عسق } [ الشورى : 1 ، 2 ] والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة ، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف ، وههنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف ، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم ، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم ، ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا ، ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم ، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ، لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع . ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضي بَيْنَهم يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا ، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها ، فإنه سيرى في الآخرة ما يسؤوه ، وذلك كالزجر لهم ، ولما بيّـن تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والسحد ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعدل عن تلك الطريقة ، وأن يتمسك بالحق ، وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق ، فقال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ } أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين ، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات ، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل ، قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة : ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ثم قال تعالى : { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقاً للعذاب ، فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك ، ثم بيّـن تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وفي الآخرة ، ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب ، وأما المتقون المهتدون ، فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه ، وما أبين الفرق بين الولايتين ، ولما بيّـن الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة ، قال : { هَـٰذَا بَصَـٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف ، والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية ، والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب ، كما جعل في سائر الآيات روحاً وحياة ، وهو هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن ، ولم بيّـن الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم ، بيّـن الفرق بينهما من وجه آخر ، فقال : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } وفيه مباحث : البحث الأول : { أَمْ } كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر ، سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً ، والتقدير ههنا : أفيعلم المشركون هذا ، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين ؟ البحث الثاني : الاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وفلان جارحة أهله ، أي كاسبهم ، قال تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] . البحث الثالث : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أنا أفضل حالاً منكم في الدنيا ، فأنكر الله عليهم هذا الكلام ، وبيّـن أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ، ومنازل السعادات . واعلم أن لفظ { حَسِبَ } يستدعي مفعولين أحدهما : الضمير المذكور في قوله { أَن نَّجْعَلَهُمْ } والثاني : الكاف في قوله { كَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا ؟ ونظيره قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] وقوله { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ } [ غافر : 51 ، 52 ] وقوله تعالى : { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كالمجرمين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ القلم : 35 ، 36 ] وقوله { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِى ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] . ثم قال تعالى : { سَوَاء مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { سواء } بالنصب ، والباقون بالرفع ، واختيار أبي عبيد النصب ، أما وجه القراءة بالرفع ، فهو أن قوله { مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله { أَمْ نَجْعَلُ } وهو الكاف في قوله { كَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } ونظيره قوله : ظننت زيداً أبوه منطلق ، وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب « الكشاف » أجرى سواء مجرى مستوياً ، فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفرداً غير جملة ، ومن قرأ { وَمَمَـٰتُهُمْ } بالنصب جعل { مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } ظرفين كمقدم الحاج ، وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلاً من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعله محياهم ومماتهم سواء ، قال ويجوز أن نجعله حالاً ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله { كَٱلَّذِينَ } . المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله { مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم ، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين ، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدينا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه ، والكافر بالضد منه ، كما ذكره في قوله { وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } وعند القرب إلى الموت ، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } [ النمل : 32 ] وحال الكافر ما ذكره في قوله : { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } [ النحل : 28 ] وأما في القيامة فقال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَـٰحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 38 41 ] فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين والوجه الثاني : في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن ، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات والوجه الثالث : في التأويل أن قوله { سَوَاء مَّحْيَـاهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } مستأنف على معنى أن محيا المسيئين ومماتهم سواء فكذلك محيا المسحنين ومماتهم ، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه ، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال : { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } وهو ظاهر .