Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 22-26)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم إنه تعالى لما أفتى بأن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السعادات ، أتبعه بالدلالة الظاهرة على صحة هذه الفتوى ، فقال : { وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ } ولو لم يوجد البحث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل ، لأنه تعالى لما خلق الظالم وسلّطه على المظلوم الضعيف ، ثم لا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً ، ولو كان ظالماً لبطل أنه خلق السموات والأرض بالحق وتمام تقرير هذه الدلائل مذكور في أول سورة يونس ، قال القاضي هذه الآية تدل على أن في مقدور الله ما لو حصل لكان ظلماً ، وذلك لا يصح إلا على مذهب المجبرة الذين يقولون لو فعل كل شيء أراده لم يكن ظلماً ، وعلى قول من يقول إنه لا يوصف بالقدرة على الظلم ، وأجاب الأصحاب عنه بأن المراد فعل ما لو فعله غيره لكان ظلماً كما أن المراد من الابتلاء والاختبار فعل ما لو فعله غيره لكان ابتلاءً واختباراً ، وقوله تعالى : { ولتجزى } فيه وجهان : الأول : أنه معطوف على قوله { بِٱلْحَقّ } فيكون التقدير وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق ولتجزى كل نفس ، الثاني : أن يكون العطف على محذوف ، والتقدير : وخلق الله السموات والأرض بالحق ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العلم إظهار العدل والرحمة ، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين ، ثم عاد تعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طوائفهم ، فقال : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } يعني تركوا متابعة الهدى وأقبلوا على متابعة الهوى فكانوا يعبدون الهوى كما يعبد الرجل إلهه ، وقرىء آلهته هَوَاهُ كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه ، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحداً منها . ثم قال تعالى : { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } يعني على علم بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح ، ونظيره في جانب التعظيم قوله تعالى : { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وتحقيق الكلام فيه أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة فمنها مشرقة نورانية علوية إلهية ، ومنها كدرة ظلمانية سفلية عظيمة الميل إلى الشهوات الجسمانية ، فهو تعالى يقابل كلاً منهم بحسب ما يليق بجوهره وماهيته ، وهو المراد من قوله { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } في حق المردودين وبقوله { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } في حق المقبولين . ثم قال : { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً } فقوله { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } هو المذكور في قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ البقرة : 6 ] إلى قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] وقوله { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً } هو المراد من قوله { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ } [ البقرة : 7 ] وكل ذلك قد مرّ تفسيره في سورة البقرة باللاستقصاء ، والتفاوت بين الآيتين أنه في هذه الآية قدم ذكر السمع على القلب ، وفي سورة البقرة قدم القلب على السمع ، والفرق أن الإنسان قد يسمع كلاماً فيقع في قلبه منه أثر ، مثل أن جماعة من الكفار كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة ، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه ، وأما كفار مكة فهم كانوا يبغضونه بقلوبهم بسبب الحسد الشديد فكانوا يستمعون إليه ، ولو سمعوا كلامه ما فهموا منه شيئاً نافعاً ، ففي الصورة الأولى كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس ، وفي الصورة الثانية كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن ، فلما اختلف القسمان لا جرم أرشد الله تعالى إلى كلا هذين القسمين بهذين الترتيبين اللذين نبهنا عليهما ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام قال : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } أي من بعد أن أضله الله { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أيها الناس ، قال الواحدي وليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة ، لأن الله تعالى صرّح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره ، وأقول هذه المناظرة قد سبقت بالاستقصاء في أول سورة البقرة . واعلم أنه تعالى حكى عنهم بعد ذلك شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر ، أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } فإن قالوا الحياة مقدمة على الموت في الدينا فمنكرو القيامة كان يجب أن يقولوا نحيا ونموت ، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة ؟ قلنا فيه وجوه الأول : المراد بقوله { نَمُوتُ } حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وبقوله { نحيا } ما حصل بعد ذلك في الدينا الثاني : نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا الثالث : يموت بعض ويحيا بعض الرابع : وهو الذي خطر بالبال عند كتابة هذا الموضع أنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال : { مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } ثم قال بعده : { نَمُوتُ وَنَحْيَا } يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ، ومنها ما لم يطرأ الموت عليها ، وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد ، وأما شبهتهم في إنكار الإلٱه الفاعل المختار ، فهو قولهم { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع ، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة ، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت ، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار ، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإلٱه وبين إنكار البعث والقيامة . ثم قال تعالى : { وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة ، فالذي قالوه يحتمل وضده أيضاً يحتمل ، وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقاً ، وأن يكون القول بوجود الإلٱه الحكيم حقاً ، فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ، ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة ، فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد ، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى . ثم قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُنَا بَيّنَـٰتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرىء حجتهم بالنصب والرفع على تقديم خبر كان وتأخيره . المسألة الثانية : سمى قولهم حجة لوجوه الأول : أنه في زعمهم حجة الثاني : أن يكون المراد من كان حجتهم هذا فليس لهم ألبتة حجة كقوله : @ تحية بينهم ضرب وجيع @@ أي ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية الثالث : أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها . المسألة الثالثة : أن حجتهم على إنكار البعث أن قالوا لو صح ذلك فائتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث . واعلم أن هذه الشبهة ضعيفة جداً ، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول ، فإن حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه ، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك ، وذلك باطل بالاتفاق . ثم قال تعالى : { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } فإن قيل هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } فهذا القائل كان منكراً لوجود الإله ولوجود يوم القيامة ، فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل ، قلنا إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مراراً وأطواراً . فقوله ها هنا { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ } إشارة إلى تلك الدلائل التي بيّنها وأوضحها مراراً ، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإلٱه بقول الإله ، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر . ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى ، وثبت أن الإعادا مثل الإحياء الأول ، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ، ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة ، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها ، وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة . وأما قوله تعالى : { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة ، وهو أن كونه تعالى ، عادلاً خالقاً بالحق منزّهاً عن الجور والظلم ، يقتضي صحة البعث والقيامة . ثم قال تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم ، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداءً وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً .