Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 3-3)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله جل اسمه : ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ في الكشّاف : الذين يؤمنون : إمّا موصولٌ بالمتّقين على أنّه صفة مجرورة ، أو مدحٌ ، منصوبٌ أو مرفوعٌ ، بتقدير : أعني الذين يؤمنون ، أو : هم الذين يؤمنون . وإمّا منقطعٌ عن المتّقين ، مرفوعٌ على الابتداء مخبَرٌ عنه بأولئك على هدى . فإذا كان موصولاً ، كان الوقفُ على المتقين حسناً غير تامّ ، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تامّا . انتهى . واعلم أنّه على تقدير كون " الذين " مع ما يليه متّصلاً بالمتقين وصِفةً له ، فإن كان المراد بالتقوى ترك ما لا ينبغي ، فهو يكون صفةً مقيدةً له ، مترتبة عليه ترتّب الفعل على القوّة ، وتوقّف التحلية على التخلية ، والتصوير على التطهير . فإنّ النفس الإنسانيّة كاللوح القابل لنقوش العلوم الحقة ؛ وهي الإيمان بالله واليومِ الآخر والأخلاقُ الفاضلة التي هي مبادئ الأفعال الحسنة ، كالصلاة والزكاة . فيجب تطهره أولاً بالتقوى عن النقوش الفاسدة حتّى يمكن إثبات النقوش الجيّدة فيه ، ويستقرّ حصول الأوصاف الحسنة عليه ، فلهذا السبب قدّم ذكر التقوى وهي ترك ما لا ينبغي ، ثمّ ذكر بعده فعل ما ينبغي وهو الإيمان والطاعة . وإن فسِّر التقوى بما يعمّ فعل الطاعات وترك المعاصي ، فيكون صفة موضحة للمتّقين ، وذلك لاشتماله على ما هو أصل الأعمال الصالحة ، كالإيمان بالله وملكوته ، فإنّه من امّهات الأعمال القلبيّة ؛ وعلى أساس الحسنات كالصلاة والزكاة ، فإنهما من أمّهات العبادات البدنية والمالية ، المستتبعة لسائر الطاعات ، والتجنّب عن المعاصي غالباً ، ألا ترَى الى قوله تعالى : { إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] . وقوله عليه وآله السلام : الصلاةُ عمادُ الدين ، والزكاةُ قنطَرةُ الإسلام . تنبيه [ التقوى والمتقين ] غايةُ التقوى ، الاتّصال بالحضرة الإلهيّة بترك الالتفات بغير الله ، وقطْع النظَر سواه ، وهذا هو غاية النشأة الآدميّة ونهاية الكمال الأخروي للروح الإنساني ، ولا يمكن تحصيله إلاّ بتكميل القوّة العاقلة من النفس بالعلوم الحقّة ، وبتعديل القوّة العاملة منها بالأعمال الحسَنة ، ليتحلّى بالفضائل ويتخلّى عن الرذائل . فالمتكفّل لتكميل الأولى ، هو الإيمانِ بالغيبِ ، وهو العِلْم بأحوال المبدإ وملائكته وكتبه ورُسله ، وأحوال المعاد ومراتبه ، وطبقات نفوس الإنسان بحسب درجات الجنان ودركات النيران . والمتكفّل لتكميل الثانية ، هو العملُ الصالح ، وأصل الأعمال الصالحة الصلاةُ والزكاةُ ، أمّا الأولى ، فلاشتمالها على الأذكار والنيّات الحسنة ، وهيئات الخضوع والخشوع . وأمّا الثانية ، فلاستلزامها تركَ التعلّق باللذّات النفسانيّة ، والمحبوبات الدنيويّة ، لأنّ المال وسيلةٌ لأكثرها . وقد قال سبحانه : { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] . فإذا تقرَّر هذا ، فقوله : " الذين " مع ما يتلوه ، بمنزلة تفسيرٍ كاشفٍ للمتّقين وَحَدٍّ مبيّن له . [ الأقوال في ماهية الإيمان ] ثمّ الإيمانِ بحسب اللغةِ - كما ذكَره صاحب الكشّاف - مأخوذٌ من الأمن ؛ ثمّ يقال : آمَنه إذا صدَّقَه ، كأن المصدِّق أمِنَ من التكذيب والمخالفة . وتعديته بالباء ، لتضمّنه معنى الاعتراف ، وقد يُطلق بمعنى الوثوق كما حَكى أبو يزيد : ما آمنت أن أجد صحابة ، أي ما وثقت فهو من حيث أنّ الواثقَ صار ذا أمنٍ ، وكلا الوجهين حسَنٌ في : { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } . وأما بحسب الشرع فقد اختلف أهل القبلة في معنى الإيمان في عرف الشرع إلى اربعة مذاهب . أحدها : إنّه إسم لأفعال القلوب ، والجوارح ، والإقرار باللسان . وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية واهل الحديث ، فهو اسمٌ لمجموع أمور ثلاثة : اعتاقد الحقّ ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه ، فمَن أخلَّ بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخلَّ بالإقرار فهو كافر على رأي . ومن أخلَّ بالعملِ ففاسقٌ وفاقاً ، وكافرٌ عند الخوارج ، خارجٌ عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة . وروى الخاصُّ والعامُّ عن مولانا عليّ بن موسى الرضا ( عليه السلام ) : " إنّ الإيمان هو التصديقُ بالقلبِ والإقرارُ باللسانِ والعمَلُ بالأركانِ " وقد روي ذلك عنه أيضاً على لفظ آخر : " الإيمانُ قولٌ مقولٌ ، وعملٌ معمولٌ ، وعرفانٌ بالعقول ، واتّباعُ الرسول " . ثمّ إنّ الخوارجَ اتّفقت على أنّ الإيمان بالله متناولٌ للمعرفة به ، وبكلّ ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً او نقلياً ، ويتناول طاعته في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك ، حتّى الصغائر ، فالإخلالُ بشيء من هذه الأمور كفْرٌ . وأمّا المعتزلة فقد اختلفوا فيه على وجوه : أحدها : إنّ الإيمان عبارةٌ عن الإتيان بكلّ الطاعات ، سواء كانت من الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات ، وسواء كانت واجبةً أو مندبةً ، وهو قول واصِل بن عَطاء وأبي هذيل والقاضي عبد الجبّار . وثانيها : إنّه عبارةٌ عن فعل الواجبات فقط دون النوافل . وهو قولُ أبي هاشم وأبي علي . وثالثها : إنّه عبارة عن اجتناب كلّ ما جاء به الوعيد . وأما أهل الحديث : فذكروا وجهين : الأول : إنّ المعرفة ايمانٌ كاملٌ ، وهو الأصل ، ثمّ بعد ذلك كل طاعة ايمان على حِدةٍ ، وهذه الطاعات لا يكون شيءٌ منها ايماناً إلاّ إذا كانت مرتّبةً على الأصل الذي هو المعرفة ، وكذا القياس في جانب مقابله : أعني الكفر ، وهو قول عبد الله بن سعيد الكُلاّب . الثاني : زعموا أنّ الإيمان اسم للطاعات كلّها ، وهو إيمانٌ واحدٌ ، وجعلوا الفرائضَ والنوافلَ كلَّها من جملة الإيمان ، ومنهم من قال : الإيمانُ اسمٌ للفرائض دون النوافل . وثانيها : إنّ الإيمان بالقلب واللسان معاً ، وقد اختلف أهل هذا المذهب على أقوالٍ . الأول : إنّه إقرارٌ باللسان ومعرفةٌ بالقلب ، وهو قولُ أبي حنيفة وعامّة الفقهاء . ثمّ هؤلاء اختلفوا في موضعين . أحدهما : في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من فسّرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً ، أو علماً صادراً عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون أنّ المقلّد مسلم ، ومنهم من فسَّرها بالعلْم الصادر عن الاستدلال . والثاني : في متعلّق هذا العلْم ، فقال بعضُ المتكلمين : هو العلْم بالله وصفاتِه على سبل الكمال والتمام . ثمّ لما كثُر الاختلافُ بينهم في الصفات ، واقدمت كلُّ طائفةٍ على تكفير من عداها ، قال أهل الإنصاف : المعتَبر هو العلْم بكل ما عُلِم بالضرورة من دين محمد ( صلّى الله عليه وآله ) . القول الثاني : إنّه التصديقُ بالقلبِ واللسان معاً ، وهو قول أبي الحسن الأشعري ، وبشر بن غياث المريسي ، والمراد بالتصيدق بالقلب : الكلامُ القائم بالنفس . القول الثالث : قولُ جماعةً من الصوفية : إنّه إقرارٌ باللسان وإخلاصٌ بالقلب . وثالثها : إنّه عبارة عن عمَل القلب وأصحاب هذا المذهب اختلفوا على قولين : أحدهما : إنّه معرفة الله بالقلب ، حتّى انّ من عرف الله بقلبه ثمَّ جحَد بلسانه ومات قبل التوبة ، فهو مؤمنٌ كامل الإيمان ، وهو قول جهم بن صفوان ، أما معرفة الكتاب والرسل واليوم الآخر فقد زعَم إنّها غير داخلةٍ في حدّ الإيمان . وحكى الكعبيُّ عنه : أنّ الإيمانَ معرفةُ الله مع معرفة كلّ ما عُلم بالضرورة إنّه من دين محمد ( صلّى الله عليه وآله ) . وثانيهما : إنّه مجرد التصديق بالقلب ، وهو قول الحسين بن الفضل البجلي . ورابعها : إنّه إقرارٌ باللسان فقط ، وأصحابُه فريقان : الأولى : قالوا : إن الإقرارَ باللسان هو الإيمانُ فقط ، لكن شرط كونه ايماناً حصول المعرفة ، فالمعرفة شرطٌ لكون الإقرار باللسان ايماناً ، لا انّها داخلة في مسمّى الايمان . وهو قول غَيْلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي ، وإن كان الكعبيُّ قد أنكر كونه قولاً لغيلان . الفرقة الثانية قالوا : إنّ الإيمانَ مجرّد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرّامية ، وزعموا أنّ المنافقَ مؤمنٌ بالظاهر ، كافرٌ بالسريرة ، فثبت له حكمُ المؤمنين في الدنيا وحكْم الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمّى الإيمان في الشرع حسبما وُجِد في كتب الكلام وغيره . اشارة فيها انارة [ ماهية الإيمان وانه مجرد العلم والتصديق ] أعلم إنّ الإيمان وسائر مقامات الدين ومعالم شريعة سيد المرسلين ( عليه وآله السلام ) ، إنّما ينتظم من ثلاثة أمور : معارفٌ وأحوالٌ وأعمالٌ . فالمعارفُ هي الأصول ، وهي تورث الأحوالَ ، والأحوالُ تورث الأعمالَ . أما المعارف ، فهي العلم بالله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر . وأما الأحوال ، فكالانقطاع عن الأغراض الطبيعيّة ، والشوائب النفسانيّة ، والوساوس العاديّة ، كالشهوةِ والغضبِ والكِبْر والعُجب ، ومحبّة الجاه والشهرة وغير ذلك . وأما الأعمال ، فكالصلاةِ والزكاةِ والصومِ والطوافِ والجهادِ وفعْلِ ما أمره الله به وتركِ ما نهى عنه . فهذه الثلاثة إذا قيس بعضُها الى بعضٍ ، لاحَ للناظرين الى الأشياء بالنظر الظاهر ، المقتصرين على إدراك النشأة الحسيّة ، أنّ العلوم تُراد للأحوالِ ، والأحوالُ تراد للأعمال ، فالأعمالُ هي الأصل عندهم ، والأفضل في نظرهم . وأما أرباب البصائر ، المقتبسين أنوار المعرفة من مشكاة النبوّة لا من أفواه الرجال ، المستفيضين أسرار الحكمة الحقّة من معدن الوحي والرسالة ، لا من مقارعة الأسماع بالقيل والقال ، فالأمر عندهم بالعكس من ذلك ، فإنّ الأعمالَ تُراد للأحوال ، والأحوالَ للعلوم ، فالأفضلُ العلومُ ، ثمّ الأحوالُ ، ثم الأعمال . فإنّ لوح النفس كالمرآة ، والأعمالُ تصقيلها وتطهيرها ، والأحوالُ صقالتها وطهارتها ، والعلومُ صوَرها المرتسمة فيها . فنفسُ الأعمال - لكونها من جنس الحركات والانفعالات - تتبعها المشقّةُ والتعبُ ، فلا خير فيها إذا نُظر اليها لذواتها . ونفس الأحوال - لكونها من قبيل الأعدام والقُوى - فلا وجود لها ، وما لا وجود له فلا فضيلة فيه ، وإنّما الخيرُ والفضيلةُ لما له الوجودُ الأتمّ والشرف الأنور ، وهي الموجودات المقدّسة والمعقولات الصوريّة المجرّدة عن التغيّر والزوال ، والشرّ والوبال . كالباري وملائكته العلويّة ، والأرواح المطهّرة الإنسيّة ، والحضرة الإلٰهيّة ، والحظيرة القدسيّة . ففائدةُ إصلاح العملِ إصلاحِ القلب . وفائدةُ إصلاح القلب ، أن ينكشفَ له جلالُ الله في ذاته وصفاته وأفعاله . فأرفعُ علوم المكاشفة هي المعارف الإيمانيّة ومعظَمها معرفةُ الله ثمّ معرفة صفاتِه وأسمائِه ، ثمّ معرفة أفعاله ، فهي الغاية الأخيرةُ التي يُراد لأجلها تهذيبُ الظواهر بالأعمال ، وتهذيبُ البواطن بالأحوال ، فإنّ السعادة بها تنال ، بل هي عين الخير والسعادة واللذة القصوى . ومقابلها وهو الجهل بها ، محضُ الشرّ والشقاوةِ والألم الشديد ، ولكن قد لا يشعر القلبُ في الدنيا بأنّها عين السعادة ، ولا قلب من اتّصف بالجهل بحقائق الإيمان بأنّه محض الشر والألم ، وانّما يقع الشعورُ بتلك السعادة وهذه الشقاوة في الدار الآخرة ، التي فيها أعلنت السرائر ، وأبطنت الظواهر ، ونُشرت الصحائف ، وبُعثِر ما في القبور وحُصِّلَ ما في الصدور . فالعلْم بالإلٰهيّات هو الأصل في الإيمان بالله ورسولِه ، وهو المعرفة الحرّة التي لا قيد عليها ولا تعلّق له بغيرها ، وكل ما عداه عبيدٌ وخدمٌ بالإضافة ، فإنما يراد لأجلها ، وهي أيضاً معطى أصولها ، ومثبِت موضوعاتِ مسائلها ومحقّق مبادئ براهينها وغايات مطالبها . ولمّا كانت سائر العلوم لأجلها ، كان تفاوتها في الفضيلة بحسب تفاوت نفعها بالإضافة الى معرفة الله ، فإنّ بعضَ المعارف يفضي الى بعضٍ إما بواسطة أو بوسائط ، حتّى يتوسل بها الى معرفة الله ، كما انّ الأعمال والأخلاق يفضي بعضُها إلى بعض حتّى ينجزّ الى تصفية الباطن بالكليّة . فمن العلوم كلّما كانت الوسائطُ بينه وبين معرفة الله أقل ، كان أفضل ، كما انّ من الأعمال كلّما كانت الوسائط بينه وبين تصفية القلب أقل ، كان أزكىٰ . وأمّا الأحوالُ - أعني صفاءَ القلب وطهارته من شوائب الدنيا وشواغل الخلق - فيعني بها استحقاقه لحصول نور المعرفة ، واستعداده لانكشاف حقيقة الحقّ وصورة الحضرة الإلٰهيّة ، حتّى إذا تمّت طهارتُه ، وصقلت صفحةُ وجهه ، واجَهته أنوارُ الكبرياء ، وحضرَت عندَه وانكشفت لديه حقائقُ الأشياء . فقد ثبت انّ وجوب الأعمال الصالحة وترك القبائح ، لأجل إصلاح القلب وجلْب الأحوال ، وتفاوتها في الفضيلة إتياناً وتركاً ، بقدر تأثيرها في تطهير القلب وتهذيبه وإعداده لأن تحصل له المعرفةُ الإلٰهيّة والعلوم الكشفيّة . وكما انّ تصقيل المرآة يحتاج الى أعمال تتقدّم على تمام أحوال المرآة في صفائها وصقالتها ، وتلك الأعمال بعضُها أقرب إلى الصقالة التامّة من بعض ، فكذلك الأعمال المورثة لأحوال القلب ، تترتّب في الفضيلة ترتّب الأحوال ، فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب ، هي أفضل مما دونها لا محالة بحسب قربها من المقصود الأصلي . فكلّ عملٍ ، إما أن يجلب الى القلبِ حالةً مانعةً من المكاشفة ، موجبةً لظلمة القلب ، جاذبةً الى زخارف الدنيا . وإما أن يجلب إليه حالةً مهيّئة للمكاشفة ، موجبةً لصفاء القلب وقطع علاقته عن الدنيا ، واسم الأول في عرف الشرع : المعصية ، سواء كان فعلاً أو تركاً ، واسم الثاني : الطاعة ، فعلاً كان أو تركاً . والمعاصي ، من حيث تأثيرها في ظلمة القلب وقساوته ، متفاوتةٌ ، وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته ، فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها . وذلك يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص . فربما كان قيام الليل لأحدٍ أفضل من إيتاء الصدقات المتبرّعة ، وربما كان الأمر بالعكس من ذلك ، وربما كان صوم ستّين يوماً أفضل في باب الكفّارة من عتق رقبة ، كما للسلاطين والأمراء من أهل الدنيا . فإذا تقرّرت هذه المقدّمات ، فقد عُلم أنّ الأصل في الإيمان هو المعرفة بالجنان ، وأما العملُ بالأركان ، فإنّما يعتبر لتوقّف المعرفة على إصلاح القلب ، وتهذيب الباطن ، وتلطيف السرّ ، وتوقّفها على فعل الحسنات وترك السيّئات . ومما يدلّ على أنّ الإيمان مجرّد العلم والتصديق وحده أمور : الأول : أنّه تعالى أضَاف الإيمان الى القلب فقال في حق المؤمنين : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] . وفي حقّ المنافقين : { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [ المائدة : 41 ] . { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] وقوله : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [ النحل : 106 ] . وقال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) " الإيمانُ سرٌّ - وأشار الى صدره - والإسلام علانية " . الثاني : إنّه تعالى كثيراً ما ذكَر الإيمانَ وقرنَ به العملَ الصالحِ ، ولو كان داخلاً فيه لكان ذكُره تكراراً . الثالث : إنّ كثيراً ما ذكَر الإيمانَ وقرَنه بالمعاصي قال : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [ الأنعام : 82 ] . وقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي } [ الحجرات : 9 ] . واحتجّ ابن عباس على هذا المطلب بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] من ثلاثة أوجه : أحدها : إنّما يجبُ القصاصُ على القاتلِ المتعمِّد ، ثمّ إنّه خاطَبه بالإيمان ، فدلّ على أنّه مؤمن . وثانيها : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } [ البقرة : 178 ] . وهذه الأخوّة ليست إلا أخوّةُ الإيمان لقوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] . وثالثها : قوله : { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 178 ] وهذا لا يليق إلاّ بالمؤمن ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] جعلهم مؤمنين مع عظيم الوعيد في ترك الهجرة بقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] . إلى قوله : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] . ومنه ايضاً قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } [ الأنفال : 27 ] وقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } [ التحريم : 8 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي تجري هذا المجرى . الرابع : إنّه تعالى قال : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } [ البقرة : 256 ] يدلّ على أنَّه من الأمور الإعتقاديّة التي لا يمكن تحصيلها بالجبر والإكراه . وكذا قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : " ليس الدين بالتمنّي " يعلم أنّه ليس أمر اختياريّاً ، ولو كان من باب الأعمال البدنيّة كالصلاة والصيام ، لأمكن تحصيلُه في شخصٍ آخر بالجبر ، وفي الشخص نفسه بالتمنّي . الخامس : إنّ العلم والتصديق اليقيني غير قابل للزوال والتغيير ، فهو المتعيّن بأن يكون أصلاً في الإيمان . السادس : إنّ الإيمان في أصل اللغة بمعنى التصديق والإذعان ، فلو صار في عرْف الشرع لغير هذا المعنى ، لزم أن لا يكون عربيّاً ، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربيّاً . وأيضاً لو صار منقولاً عن معناه ومسمّاه الأصلي ، لتوفّرت الدواعي على معرفة ذاك المسمّى ، ولاشتهر وبلَغ الى حدّ التواتر ، وليس كذلك فعُلِم أنّه باقٍ على أصل الوضع . وأيضاً : لا خلاف لأحدٍ في أنّ لفظَ الإيمان اذا عدّي بحرف الباء ، كان معناه التصديق ، كما هو في اللغة ، فوجَب أن يكون المعدّى كذلك ، لا يقال : هذا إثبات اللغة بالقياس ، وهو غير جائز ، كما ثبت في علم الاصول ، لأنّا نقول : ليس كذلك ، بل هذا استنباط المعنى الأصلي من موارد الاستعمال ، إذ التعدية بالحرف لا تغيِّر أصل المعنى المصدري بل تزيده كمالاً وقوةً . وأمّا المعتزلةُ ، فقد اعترفوا أنّ الإيمان اذا عدّي بالباء . كان المراد به التصديق كما في أصل اللغة ، ولذلك إذا قيل : " فلانٌ آمَن بالله وبرسوله " يكون المراد عندهم أيضاً مجرد التصديق ، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ، فلا يقال : " فلانٌ آمَن بكذا " إذا صام أو صلّى ، وأما إذا ذُكر مطلقاً بلا تعدية ، فقد زعموا أنّه منقول من المسمّى اللغوي الى معنى آخر ، وهذا تحكّم محضٌ كما لا يخفى . فصل [ درجات الإيمان ومراتبه ] فالمذهب المنصور المعتضَد بالبرهان ، أنّ الإيمان في عرف الشرع هو التصديق بكل ما علُم بالضرورة من دين نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله ) . لكن قد يسمّى الإقرار ايماناً كما يسمّى تصديقاً ، إلا انّه متى صدَر عن شك أو جهلٍ كان ايماناً لفظيّاً لا حقيقياً ، ومن هذا القبيل تقسيم المنطقيّين القضية - وهي الحكم بثبوت أمرٍ لآخر - الى قضيّةٍ معقولة ، والى قضيّة ملفوظة . وقد تسمّى أعمال الجوارح ايماناً استعارة وتلويحاً ، كما تسمّى تصديقاً لذلك ، كما يقال : فلان يصدق أفعالُه مقالَه " ، والفِعلُ ليس بتصديقٍ باتّفاق أهل اللغة ، فالإيمان من الألفاظ المشكّكة التي يتفاوت معناها في الشدّة والضعف ، والكمال والنقص ، فهو منقسم الى حقيقيّ ومجازيّ ، باطنيّ وظاهريّ ، بل ينقسم كما أشار اليه بعض العرفاء ، الى لُب ولبّ لب ، وقِشرٍ وقشرِ قشرٍ وهذا بعينه كانقسام الإنسان الى هذه المراتب ، فإن الإيمان من مقامات الإنسان في إنسانيّته . وقد يمثّل هذا تقريباً للأفهام الضعيفة بالجَوْز ، فإنّ له قشرين ؛ الأعلى والأسفل ، وله لبٌّ وللُّبِّ دُهن ، وهو لب لبِّه . فالمرتبة الأولى من الإيمان : أن يقول الإنسانُ كلمةَ الشهادة ، ويعترف باللسان وقلبُه غافل عنه ، أو جاحد له ، كما للمنافقين . والثانية : أن يصدّق بمعنى هذه الكلمة ، وبكلّ ما هو معلومٌ بالضرورة من الدين ، كتصديق عامّة المسلمين ، وهذا اعتقاد ليس بيقين . والثالثة : أن يعرف هذه المعارف الإيمانيّة ، ويصدّق بها عرفاناً كشفياً ، أو تصديقاً برهانيّاً وعلماً يقينيّاً بواسطة نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ، وهو المشار اليه في قوله : { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] . وهذا هو الإيمان الحقيقي ، الذي سأل رسولُ الله ( صلّى الله عليه وآله ) حارثة الأنصاري عن بيان حقيقته لمّا قال : إنّي أصبحتُ مؤمناً حقاً ، فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : لِكلِّ حق حقيقة ، فما حقيقةُ ايمانك ؟ فأجاب بقوله : عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا بما فيها ، فاستوى عندي حجَرها وذهِبها . فكأني أرى أهل الجنّة يتزاورون ، وأهل النار في النار يتعاوَون . وكأنّي أرى عرش ربّي بارزاً . فصدّقه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وقال : أصبتَ فالزم . والرابعة : أن يستغرق الإنسان في نور الحضرة الأحديّة بحيث لا يرى في الوجود إلاّ الواحد القهّار ، فيقول بلسان حاله وايمانه : لِمَن المُلكُ اليَوم ؟ ثمّ يجيب عنه بلغة توحيده وعرفانه : لله الواحدِ القهّارِ . وهذا المقام لا يحصل لأحد ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا إلا للكمّل من العرفاء والأولياء بواسطة غلبة سلطان الآخرة على بواطنهم . فصاحب المقام الأوّل ، مؤمنٌ بمجرّد اللسان في عالَم الأجسام ونشأة الحواس ، وفائدة ايمانه ترجع اليه في هذه النشأة ، إذ يحقن دمه من السيف والسنان ، ويعصم ماله وذراريه من النهب والسَّبي . وصاحب المقام الثاني ، مؤمنٌ بمعنى أنّه معتقدٌ بقلبه مفهومَ هذا اللفظ ، وقلبُه خالٍ عن التكذيب ، وهو عقد على القلب وليس فيه انشراح القلب لنور المعرفة ، ولا انفتاحُ رَوْزَنَته لعالَم الملكوت الغيبي المقابل لهذا العالم ، عالم المُلك والشهادة . وفائدته انّه يصير منشأ بعض الأعمال الصالحة ، ومبدأ بعض الخيرات وأداء الأمانات وفعل الحسنات ، التي ينجرّ تارة أخرى الى اصلاح القلب وتصفيته وليستعد لحصول المعرفة على وجه أكمل ؛ حتى ينتهي الى الإيمان الحقيقي . فعلى هذا صحّ القولُ بأنّ الإيمان هو المبدأ والغاية ، فإنّ الإيمانَ والعمل الصالح كلٌّ منهما يدور على صاحبه ، فكلّ إيمان موجبٌ لصالح من العمل ، وكل صالحٍ من العَمل ينجرّ الى حصول ضَرْبٍ من الإيمان ، فيدور كلٌّ منهما على نفسه دوراً غير مستحيل ، لتغايره بالعدد . لكن الإيمان أول الأوائل في الحدوث ، وهو أيضاً آخرُ الأواخر في البقاء . ثمّ لهذا العقد الإيماني الذي كلامنا فيه ، شُبه وحِيلٌ يُقصَد بها تحليلُه وتوهينُه تسمّى " بدعة " ، وله أيضاً حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتوهين ، ويقصد بها إحكام هذه العقدة وشدّها على قلوب المسلمين ، ويسمّى كلاماً والعالِم بها متكلّماً . وهو في مقابلة المتبدَع ، ومقصدُه دفعُ المبتِدَع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوامّ . وصاحب المقام الثالث مؤمنٌ ، بمعنى أنه بصيرٌ بحقائق الأمور الإيمانيّة بصيرة قلبيّة ومشاهدة عقليّة . إذ قد انكشفت له أسرار الملكوت وخفايا عالَم الغيب والجبروت . لا انّه مكلَّف بعقد قلبه على مفهوم هذه الألفاظ ، فإنّ ذلك رتبة العوام والمتكلّمين ، إذ لا يفارق المتكلّمُ العاميّ في أصل الاعتقاد ، بل في صنعة تلفيق الكلام الذي يدفع به حيَل المبتدِعة في تحليل هذه العقدة . وصاحب المقام الرابع مؤمن ، بمعنى أنّه لم يحضر في شهوده غير الواحد القهّار مبدأ الأشياء وغايتها ، وأولها وآخرها ، وظاهرها وباطنها ، الذي إليه ترجع عواقبُ الأمور ، وبه ينقطع سير السائرين وسفَر المسافرين ، وهذه المرتبة في الإيمان هي الغايةُ القصوى التي لا حدّ لها ولا منتهى . والتمثيل لمراتب الإيمان والتوحيد بقِشْرَي الجوز ولُبيه على هذا الوجه ، ذكره صاحب كتاب إحياء العلوم بأدنى تغيير ثمّ قال : فالأول كالقِشرة من العُليا الجوز ، والثاني كالقشِرة السُّفلى ، والثالث كاللبّ ، والرابع كالدُهن المستخرَج من اللبّ . وكما أنّ القشرة العليا لا خير فيها ، بل إن أُكِل فهو مُرّ المذاق ، وإن نُظِر الى باطنه فهو كريه المنظَر ، وإن اتخّذ حطباً أطفأ النار وأكثَرَ الدخان ، وإن تُرك في البيت ضيَّق المكان ، فلا يصلح إلاّ أن يترك مدّة على الجوز للصَّوْن ثمّ يرمى ؛ فكذلك التوحيد بمجرّد اللسان عديمُ الجدوىٰ ، كثيرُ الضررِ ، مذمومُ الظاهرِ والباطن ، لكنّه ينفع مدّةً في حفظ القشرة السفلى الى وقت الموت ، والقشرة السفلى هي القالب والبدن وتوحيد المنافق يصون بدنَه عن سيف الغُزاة ، فإنّهم لم يؤمَروا بشَقِّ القلوب ، والسيفُ انام يسلب الجسم وهو القِشر ، وإنّما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لإيمانه فائدةٌ بعده . وكما انّ القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة الى القشرة العليا ، فإنها تصون اللبّ وتحرسه عن الفساد ، وعند الادّخار فإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطباً لكنها ناقصة القدْر بالإضافة الى اللبّ ، فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كاشف ، كثير النفع بالإضافة الى مجرّد نطق اللسان ، ناقص القدْر بالإضافة الى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفتاحه ، وإشراق نور القلب فيه ، إذ ذلك الشرح هو المراد بقوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] ، وبقوله تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] . وكما انّ اللُّبّ نفيسٌ في نفسه بالإضافة الى القشر ، فكأنّه المقصود ، لكنّه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة الى الدُّهن المستخرج منه . فكذلك ايمان الثالث مقصد عال للسالكين ، ولكنّه لا يخلو عن شوب ملاحظة غير الله ، والالتفات الى ما سواه بالإضافة الى حال من لا يشاهد سوى الواحد الحقّ . تكميل فيه دفع إذا تحققت ماهية الإيمان على هذا الوجه ، من كونه ذا مراتب متفاوتة متدرّجة في الشرف والخسّة ، فقد علم فائدة قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] . فإن الأول ايمانٌ صوريٌّ دنيويٌّ ، والآخر معنويٌّ أخرويٌّ . ولما ثبَت ممّا قرّرناه انّ مراتب الإيمان متعلّقة بمراتب العلم ، ومتعاكسة كلّ منهما على الأخرى ، فإن استشكل أحد على ما هو المختار عندنا ، من أنّ الإيمان هو عبارةٌ عن نفس التصديق والعرفان ، وأنّ الأعمال خارجة عنه ؛ بأنّا لو فرضنا أنّ أحداً عرف الله بالدليل والبرهان ، ولمّا تمّ له العرفانُ ماتَ ولم يجد من الوقت ما يتلفّظ فيه بكلمة الشهادة ، أو وجد من الوقت شيئاً لكنه لم يتلفّظ فيه بها ، ففي هاتين الصورتين إن حكمتُم بأنّه مؤمنٌ ، فقد حكمتم بأنّ الإقرار اللساني غير معتبرٍ في تحقّق الإيمان ، وهو خرْقُ الإجماع . وإن حكمتم بأنّه غير مؤمن ، فهو باطلٌ لما بُيِّن ، ولقوله ( صلّى الله عليه وآله ) : " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان " وهذا قلبه طافحٌ بالإيمان فكيف لا يكون مؤمناً ؟ فالجواب : بمنع ثبوت هذا الإجماع ، والحُكم بايمانه كما فعَله حجة الاسلام الغزالي ، فإنّه منَع من هذا الإجماع في الصورتين ، وحكَم بكونه مؤمناً ، وأنّ الامتناع عن النُّطق يجري مجرى الأعمال التي يؤتى بها مع الإيمان . أقول : لا يخفى عليك - بعدما تقدّم من الكلام - أنّ الإيمان القلبيّ - لكونه كمالاً عقليّاً وصورة باطنيّة - لا يحصل إلا عقيب الأعمال الشرعيّة ، والأفعال الدينيّة ، والرياضات السمعيّة ، من القيام والصيام والعبادات والقربات ، وهذه الأمور منوطة بالتسليم والانقياد لمن عنده الحجج والبيّنات ، والإذعان والاعتراف بما أتى به القادة والرؤساء ، من أولي الشرائع والآيات . فالصورة المفروضة ممّا لا يمكن وقوعُها عقلاً وعادةً ، فلا تقدح في الإجماع . بل نقول : الإجماع إنّما انعقد على كُفر من كُلِّف بالإيمان وإظهاره فلم يقبَل ، ولم يظهر الكلمة ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، فإنّه إمّا بصدد الجحود والفتنة في الدين ، وإفساد قاعدة المسلمين ، وإما بصدد الإباحة والتعطيل ، والخروج عن التكاليف الدينيّة ، فعلى أي الوجهين يكون كافراً ظاهراً و باطناً . تنوير عقلي إعلم أن الحقيقي من الإيمان ، هو الذي به يصير الإنسانُ إنساناً حقيقيّاً عقليّاً بعدما كان إنساناً حيوانيّاً ، وبه يخرج من القوّة الى الفعل في الوجود البقائي الأخروي ، ويتخلّص عن ألم الجحيمِ والتعذّب بالنار ، ويتجرّد عن الرقّ والحدثان ، وتبدّل الجلود والذوبان ، كما قال تعالى في صفة أهل النار : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [ النساء : 56 ] . وهذه الحقيقة الإيمانية يعبّر عنها بعبارات مختلفةٍ تسمّى بأسامي متعدّدة في لسان الشرع والعقل . فتارة يعبر عنه بالنور : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] وقوله : { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] . وتارةً بالحكمة : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] . فكلّ إنسان حكيمٌ مؤمنٌ ، وكل مؤمنٍ حقيقيّ فهو حكيم . إذ الحكمة بالحقيقة هي معرفة الأشياء الموجودة كما هي بحسب الطاقة البشريّة ، وأصل الموجودات هو الباري وملائكته ورسله وكتبه . وتارةً بالفقه ، قال تعالى : { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } [ التوبة : 122 ] . وليس المراد منه معرفة الفروع الغريبة في الفتاوى الأحكاميّة ، والوقوف على دقائق عللها ، واستكثار الكلام فيها ، وحفظ الأقوال المتعلّقة بها ، كما هو عُرف أهل هذه الأزمنة والأعصار اللاحقة بزمان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، وزمان الأئمة ( عليهم السلام ) . قال صاحب الإحياء : اسم الفقْه كان في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة ، ودقائق آفات النفس ، ومفسدات الأعمال ، وقوّة الإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة التطلّع على السعادة الأخرويّة ، واستيلاء الخوف على الشقاوة التي بازائها . والذي يوجب التشوّقَ الى الدار الآخرة وسعادتها ، ويقتضي الخوفَ والخشَية في القلب عن الحرمان الأخروي والشقاوة الأبديّة ، ويوجب إنذار القوم وتخويفهم - كما أشير اليه في الآية المذكورة - هو هذا العلم وهذا الفقْه ، دون تفريعات الطلاق ، واللعان ، والسَّلَم والإجارة . فذلك لا يحصل به شيء من الرغْبة والرهْبة الأخرويتين ، ولا الإنذارُ والتخويفُ ، بل التجرّد فيه على الدوام مما يقسّي القلب ، وينزع الخشية منه ، كما يشاهَد من المتجرّدين له . وقال تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [ الأعراف : 179 ] وأراد به معاني الآيات ، دون الفتاوى والأقضية . وقال ( صلّى الله عليه وآله ) : " لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتّى يمقت الناس في ذات الله ، وحتّى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة " . وروي أيضاً مرفوعاً عن أبي الدرداء مع قوله : ثمّ يُقْبل على نفسه ، فيكون لها أشدَّ مقتاً . وسأل فرقد السبخي الحسنَ البصري عن شيء فأجاب ، فقال : إن الفقهاء يخالفونك ، فقال الحسن : ثكلتك أمّك ، وهل رأيتَ فقيهاً بعينك ؟ إنّما الفقيه ، الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، البصير بدينه ، المداوم على عبادة ربّه ، الورع الكافّ عن أعراض الناس ، العفيف عن أموالهم ، الناصح لجماعته ، ولم يقل في جميع ذلك : الحافظ لفروع الفتاوى . وتارة يسمى الإيمان بعلم الكتاب والسنّة قال تعالى : { يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ الجمعة : 2 ] . ولفظ " العلْم " أيضاً مما وقع التصريف فيه على ما كان بإزائه ، فإنّه كان مطلقاً على معنى العلم بالله وبآياته وبأفعاله في عباده وخلْقه ، فكان مرادفاً للإيمان والحكمة . وقد تصرّفوا فيه أيضاً بالتخصيص ، حتّى اشتهَر في الأكثر بصنعة المناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهيّة والكلاميّة ، فيقال : هو العالِم على الحقيقة ، وهو الفحْل : لمن مارَس هذا الفنّ ، ومن لا يشتغل به يعدّونه من ضعفاء العقول ، ولا يعدّونه في زمرة العلماء . ولم يعلموا أنّ ما ورَد في فضائل العلْم والعالِم أكثرُه في العلماء بالله وصفاته ، وبأحكامه في أفعاله . فأطلقوا " العالِمَ " على من لا يحيط من علوم الدين بشيء سوى رسوم جدليّة ومسائل خلافيّة ، فيعدّ من فحول العلماء ، مع جهله بحقائق التفسير وغيرها ، وصار ذلك فتنة عظيمة في الدين ، مهلكاً لخلْقٍ عظيم من الطلَبة والمستعدين . ومن أسمائه : التوحيد ، وهو في اصطلاح الصوفية إسم لحقيقة الإيمان ، وفي المشهور وعند الجمهور عبارة عن صنعة الكلام ، ومعرفة المجادلة ، والإحاطة بمناقضات الخصوم ، والقُدرة على تكثير الأسئلة وتقرير الإلزامات ، وايراد الشبهات ، وتأليف المناقضات والمدافعات . ومن هذا المعنى لقّبت طائفة من المتكلمين : أصحاب العدل والتوحيد : وسُمّي المتكلمون : العلماء بالتوحيد ، ولعبت بهم الشكوك ، وطعن كلّ لاحقٍ منهم لسابقه مع انّه أيضاً لم يأت بشيء يزيد به على السابق . على أنّ جميع ما هو خاصية هذه الصناعة ، لم يكن يعرف شيء منها في العصر الأول . بل كان يشتد النكير من السلفِ على من يفتح أبواب الجدل والمماراة ، كما يستفاد من أحاديث أئمتنا سلام الله عليهم أجمعين ، حيث وقَع منهم المنعُ من علم الكلام وصنعة المناظرة ، إلا على سبيل الضرورة عند مكافحة المتبدِعين . وأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلّة الظاهرة التي تسبق الأذهان الى قبولها في أول السماع ، فلقَد كان ذلك معلوماً للكلّ ، وكان علم التوحيد عندهم عبارةً عن أمرٍ آخر يستفاد من القرآن بنحو آخر لا يفهمه أكثر المتكلّمين . وهذا مقام شريف إحدى ثمراته هي أن يرى الأمور كلّها من الله رؤية يقطع التفاته عن الأسباب والوسائط ، ويترتّب عليه التوكّل والرضا والتسليم لحكم الله وترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم . ومن أسمائه : العقل المستفاد ، وهذا اصطلاح الفلاسفة الموحّدين ، والحكماء الإلٰهييّن دون الطبيعيّين والرياضيّين والأطباء والمنجّمين ، فإنّهم بمعزل عن هذا المقام ومعرفته . واسم العقل ، من الأسماء المشتركة التي تطلق على معان أخرى ، إلاّ انّ الذي استعملته الحكماء في علم النفس ، ويعدّ من أسامي مراتب النفس في استكمالاتها من حدّ القوّة الاولى الى حدّ الكمال الأخيرة ، هو العقل بالمعنى المرادف فيه معه لفظ " الإيمان " في عرف شريعتنا ، وذلك حيث ذكروا انّ للنفس درجات في القوّة والكمال : إحداها : درجة استعدادها الأول عند خلوّها عن العلوم كلّها ، كما للطفل بالنسبة الى الكتابة ، وهي المسمى بالعقل الهيولاني ، تشبيهاً لها بالهيولى الأولى ، الخالية عن الصوَر كلّها بحسب ذاتها . والثانية : درجة استعدادها الثاني من جهة اطّلاعها على البديهيّات ، واوائل العقليّات ، فيتهيّأ لإدراك الثواني إمّا بالفكر ، أو الحدس ، ويسمّى عندهم بالعقل بالمَلَكة . ثمّ يحصل للنفس بعدها قوّةٌ وكمالٌ ، أما القوّة فهي أن يكون بحيث أن يطالع المعقولات المفروغ عنها متى شاءتْ من غير تعمّل وطلب ، وهذه هي القوّة القريبة من الفعل ، ويسمّى عقلاً بالفعل ، وأمّا الكمال ، فهو أن تكون المعقولات حاصلة بالفعل مشاهدة ، ويسمى العقل المستفاد ، وهذان العقلان متعاكِسان في التقدّم والتأخّر من جهة الحدوث والاستمرار ، وبقاء الأخير لا يكون إلا في الدار الآخرة ، اللهم إلاّ لبعض الكاملين من إخوان التجريد . وأما أنّه كم ينبغي أن يحصل للنفس الإنسانيّة من تصوّر المعقولات حتّى يقعَ عليه هذا الإسم ، اي العقل بالفعل المساوق للعقل المستفاد من جهة الاستمرار الأخروي ، ويرجو السعادة العقلية ، ويتخلّص من الشقاوة التي بإزائها لمن يتّصف بالجهل المضادّ للعلم اليقيني الإيماني ، فقد قال صاحبُ الشفاء : إنّه ليس يمكنني أن انصّ عليه نصّاً إلاّ بالتقريب ، وأظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادي المفارقة تصوّراً حقيقياً ، وتصدّق بها تصديقاً يقينياً لوجودها عندها بالبرهان ، وتعرف العللَ الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكليّة دون الجزئيّة ، التي لا تتناهى ، وتتقرر عندها هيئة الكلّ ونسب أجزائه بعضها الى بعض ، والنظام الآخذ من المبدإ الأول الى أقصى الوجودات في ترتيبه ، وتتصوّر العناية وكيفيتها ، وتتحقّق انّ الذات المفيدة للكلّ أيّ وجود يخصّها وأيّة وحدة تخصّها ، وأنّها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثّر وتغيّر بوجه من الوجوه ، وكيف تترتّب نسبة الموجوات اليها . ثمّ كلما ازداد الناظر استبصاراً ، ازداد للسعادة استعداداً ، وكأنّه ليس يتبرّأ الإنسان عن هذا العالَم وعلائقه ، إلا أن يكون أكّد العلاقة مع ذلك العالَم ، فصار له شوقٌ الى ما هناك وعشقٌ لما هناك ، فصدّه عن الالتفات الى ما خلفه جملةً ، ونقول أيضاً : إنّ هذه السعادة لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العلمي من النفس . انتهى كلامه . وهذه التي ذكرها من المعارف التي لا بدّ للانسان الكامل الإيمان أن يعرَفها ، هي بعينها من المقاصد التي يستفاد وجوبُ معرفتها عقلاً من الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة ، على تغايرٍ في الاصطلاح ، لا في أصول المقاصد . وكذا قوله : إنّ هذه السعادة لا تتمّ إلا بإصلاح الجزء العملي ، يدلّ على أنّ الإيمان لا يتمّ إلاّ بأن يكون مشفوعاً بالأعمال الصالحة ، من الطاعات والعبادات . كالقيام والإمساك عن الطعام ، وبذل المال للفقراء ، والمجاهدة مع أعداء الدين ، وزيارة بيت الله وحضور مناسِك المسلمين ، وغير ذلك ممّا ورد في الشريعة الحقّة ، فإنّ اصلاح الجزء العملي الذي غايته قطع علائق الدنيا والأغراض النفسانيّة ، لا يمكن إلاّ بالعمل الصالح . فالعمل الصالح وإن لم يكن داخلاً في ما هو المقصود من الإيمان كما توهّم ، إلاّ انّه لا بدّ منه في حصول حقيقة الإيمان ، أي النور القلبي الذي إذا حصل للإنسان يصير بصيراً بالأمور الغيبيّة والحقائق الملكوتيّة الغائبة عن مشاهدة الحواسّ . فصل [ الأقوال في المراد من الغيب ] فقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، إشارة الى ما ذكر ، أي أنّهم يصدّقون تصديقاً بالأشياء المرتفعة عن هذا العالَم ، والخارجة عن مدركات الحسّ الظاهر ، كوجود الباري ، والملائكة ، واللوح ، والقلم ، والأمور الأخرويّة من الجنّة والنار ، والصراط والحساب والميزان ، وتطاير الكتب ونشر الصحف ، وأحوال القبر والبعث ، وأهوال المحشر وغير ذلك مما لا تستقلّ باثباته عقول الخلائق بأنظارهم الفكريّة ، ودلائلهم النظريّة ، وإنّما تتكشف بنور متابعة الشريعة ، والاقتباس من مشكاة الوحي والنبوّة . والغيب في اللغة : مصدرٌ أقيم مقامَ اسم الفاعل ، كالصوم بمعنى الصائم ، والمفسّرون ذكروا في قوله : { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وجهين : الأول : - وهو اختيار أبي مسلم الإصفهاني - أن يكون صفة للمؤمنين ، معناه انّهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون حال الحضور ، لا كالمنافقين الذين { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] . ونظيره قوله : { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [ يوسف : 52 ] ويقول الرجل لغيره : نِعمَ الصديق لك فلان بظهْر الغيب ، فكلّ ذلك مدح للمؤمنين بأنّ ظواهرهم تُوافِق بواطنَهم ، ومباينتهم لحال المنافقين الذين { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] . أقول : هذا القول لا يخلو من ضَعف ورَكاكة ، فإنّ سَوق الكلام في هذا المقام من التأكيد في بيان عظمة القرآن بكونه كتاباً من عند الله ، وعِلماً إلهياً لا يحويه الشكّ ، وحقاً لا يأتيه الباطلُ ، ونوراً يهتدي به المتّقون في طريق الآخرة وسبيل النجاة ، ممّا يدلُّ دلالةً واضحة على أنّ الخطْب فيه أعظم من أن يوصف أهلُه ، والحاملون لأسراره والمستبصرون بأنواره في عالّم الملكوت ، بأنّهم ليسوا عند الاهتداء به والإيمان بحقائقه منافقين ولا مستهزئين ، بل هم أجلّ قدراً وأعظم شأناً من أن يقال في مدحهم : إنّهم ليسوا من حزب المنافقين والشياطين . والقول الثاني : وعليه جمهور المفسّرين : إنّ الغيب هو أن يكون غائباً عن الحاسّة . والحقّ هو القول الثاني كما لا يخفى . لكن أصحاب هذا القول ذكروا انّ الغيب ينقسم الى ما عليه دليل والى ما ليس عليه دليل ، فالمراد من هذه الآية هو الثاني . ويدخل فيه العِلم بالله وبصفاته ، والعِلم بالآخرة ، وبالنبوّة ، وبالشرائع والأحكام . وسبب كون العِلم به مدحاً للمؤمنين ، أنّ في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة ، فيصلح أن يكون سبباً للثناء والتعظيم . أقول : وفيه ما لا يخفى من التعسّف ، لما علمت من أنّ اصل الإيمان الحقيقي نور من أنوار الله الفائضة على باطن الإنسان ، وهو كمال حقيقي وسعادة حقيقية يوجب الثناء ، لا لأنّ في تحصيل العلوم المتعلّقة بها مشقّة ، بل لأنّه الغاية التي لأجلها خُلِق الإنسان بل بني العالَم والأكوان ، وما يترتّب عليه من الأجر والثواب مما لا يسع في الميزان ولا يحويه الحساب ، يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، بخلاف ثواب الأعمال وميراث الأفعال ، فإنّ لها حدّاً معدوداً ، وثواباً معلوماً ، وقدراً موزوناً يشاهِده كلُّ أحدٍ في ذلك اليوم . ظلمات وهمية تزاح بأنوار عقلية إنّ القائلين بالقول الأول احتجّوا بوجوه : الأول : إنّ قوله : { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] فيه ايمان بالأشياء الغائبة ، فلو كان المراد من قوله { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، هو الإيمان بالأشياء الغائبة ، لكان المعطوف عين المعطوف عليه ، وأنّه غير جائز . الثاني : إنّه لو حملناه على الإيمان بالغيب ، يلزم القول بأنّ الإنسان يعلم الغيب وهو خلاف قوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] . وكذا الآيات النافية لكون الإنسان عالِماً بالغيب ، أما لو فسّرناه بما قلنا ، فلا يلزم هذا المحذور . الثالث : إنّ إطلاق الغيب إنّما يجوز على ما يجوز عليه الحضور ، فعلىٰ هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله وصفاته ، فلو كان المراد من الآية الإيمان بالغيب بهذا المعنى ، لمَا دخل فيه الإيمان بالله وبصفاته ، ولا يبقى فيه إلا الإيمان باليوم الآخرِ ، وذلك باطلٌ ، لأنّ الركن العظيم في الإيمان ، هو الإيمان بذات الله وصفاته . فحمْل اللفظ على هذا المعنى فاسدٌ . والجواب أما عن الأول : فبأنّ قوله : { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، يتناول الإيمان بالغائبات إجمالاً ، وقوله : والّذين ، مع ما يتلوه ، يتناول تفصيل بعضها ؛ وهذا من باب عطف التفصيل على الجملة ، كما في قوله : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . وأما عن الثاني : فبأنّه لا نزاع في أنّا نؤمن بالأشياء الغائبة عنّا ، وكان ذلك التخصيص لازماً في الآيات الدالّة على نفي العلم بالغيب عن الإنسان على أيّ وجه كان ، فنقول : الغيبُ على ضربين : فمنه ما يتطرق إليه الدليل والبرهان ، ومنه ما لا يكون كذلك ، فللإنسان أن يعلم من الغيوب ما عليه برهانٌ ، بأن يهديه الله إليه بإقامة البراهين ، أو يلهمه عليه بنور الحدس الشديد ، كيف وقد شاع عند العلماء ، أنّ الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلّة . وأما عن الثالث : فبمنع أنّ لفظ " الغيب " لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور ، أو لاَ ترى انّ المتكلمين يقولون : هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد ، ويريدون بالغائب ذات الله وصفاته ؟ وعنه جواب آخر لا نسمح به ، لأنّه مما تشمئزّ عنه قلوب جماعة كاشمئزاز المزكوم من رائحة الوَرد ، فإن لاستشمام روائح رياحين العالَم القدسي ، لا بدّ من أدمغةٍ صافية عن مضارّ الأهوية الرديّة ، خاليةٍ عن عفونات أخلاط أهل الدنيا الدنيّة . توجيهات نقلية [ المراد من الغيب ] قال بعض المفسرين : معنى { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } يصدّقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندَب إليه أو أباحه . وقال الحسن ؛ معناه : يصدّقون بالقيامة والجنّة والنار ، وعن ابن عبّاس : بما جاء من عند الله ، وعن ابن مسعود وجماعة من الصحابة : ما غاب عن العباد علمه ، وهذا اولى لعمومه . ويدخل ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي ( عليه السلام ) ووقت خروجه ، وأكّد كونه منتظراً بالقرآن والخبر : أما القرآن { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [ النور : 55 ] : الآية . وأما الخبر فقوله لَو لَمْ يَبْق مِن الدّنيا إلا يَومٌ واحد لطوّل الله ذلك اليومَ حتّى يخرجَ رجل من أهل بيتي يوافق اسمه اسمي وكنيته كنيتي ، به يملأ الله الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً . وقيل : الغيب : هو القرآن وهو قول زيد بن حبيش ، وكأنه أراد به أسرار القرآن وتأويلات الآيات . وقيل : المراد بالغيب ، هو القلْب ، والمعنى : يؤمنونَ بقلوبِهم ، لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، ويمكن حمل ما روي عن ابن مسعود من أنه قال : والذي لا الٰه غيره ما آمن أحد أفضل من ايمانٍ بغيب - ثمّ قرأ هذه الآية - ، على هذا المعنى . كما أمكن حملُه على كلّ من الوجهين السابقين . أعني قول من جعل قوله : " بالغيب " ، صفة للمؤمنين ، وحالاً عن ضمير : يؤمنون ، كما مرّ ، أو عن : المؤمن به ، وقول من جعلَه صلةً للإيمان وأوقعه موقع المفعول به ، فالباء إمّا للتعدية ، أو للمصاحبة ، أو للآلية . قوله جل اسمه : وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ أما معنى الإقامة للصلاة ، فذكروا له وجوهاً : أحدها : تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقعَ في فرائضها خلل وفي آدابها زَيغٌ ، من أقام العودَ : إذا قوّمه . وثانيها : إدامتها والمواظبة عليها ، كما قال تعالى : { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [ المعارج : 23 ] . مِن : قامت السوق : إذا نفقت ، وأقمتها : إذا جعلتها نافقة قال الشاعر : @ أقامت غزالةُ سوقَ الضراب لأهل العراقين حَولاً قميطا @@ لأنّها إذا اديمت وحوفظ عليها ، كانت كالشيء النافق الذي يُرغب فيه ، وإذا أضيعت ، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يُرغب فيه . وثالثها : التجلّد لأدائها من غَير تهاونٍ ولا فُتور ، من قولهم : قام الأمرُ وقامت الحربُ على ساقها ، بل من قولهم : قام بالأمر وأقامة إذا جدّ فيه وتشمّر له ، وفي ضدّه : قعدَ عن الأمر وتقاعَد عنه . ورابعها : إقامتها ؛ عبارةٌ عن أدائها عبِّر عن أدائها بالإقامة لاشتمالها على القيام ، وهو بعض أركانها ، عبِّر عنها به ، كما عبِّر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح ، قالوا : سبّح إذا صلّى ، لوجود التسبيح فيها ، قال تعالى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } [ ص : 143 ] . وإذا نظرت في هذه المعاني ، وجدتَها مشتركة في معنى الوجود والايجاد ، مع تفاوت في مراتب الكمال والضّعف . فالأول إكماله ، والثاني إدامته ، والثالث تأكيده ، والرابع تحصيل شيء منه ، فالأوْلى حمل الكلام على ما هو أكمل في الثناء ، وأشهر وأقرب الى الحقيقة ، وأفيد لما هو المقصود بالذات ، وهو الحمل على إدامتها من غير خلل في أركانها وشرائطها ، ولهذا يوصف الباري ، بأنّه قائم وقيّومٌ ، لأنه يجب دوام وجوده للأشياء وإدامته للأرزاق . فمن أدام فعلَها ، وراعىٰ حدودَها الظاهرة ، - من الفرائض والسنن - وحقوقَها الباطنة - من التوجّه الى الله والعروج بقلبه الى حضرة القدس والخشوع بين يديه ، لا كَحالِ { ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 5 ] - فهو حريٌّ بالمدح والثناء العظيم ، والأجر الجسيم ، ولذلك ذكر الله تعالى في سياق المدح : { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } [ النساء : 162 ] . وفي معرض الذمّ : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } [ الماعون : 4 ] . وأما معنى الصلاة في أصل اللغة فقيل : إنها الدعاء ومنه الحديث : " إذا دُعي أحدُكم الى طعامٍ فليُجبْ ، فإن كان صائماً فليُصَلِّ . أي : فليَدْعُ له بالبركة والخير " . وقيل : مشتقّ من الصَّلَى ، وهي النار من قولهم : صَلَيْتُ العصا ، إذا قوّمتها بالصَّلَى ، فالمصلّي يسعى في تعديل ظاهره وباطنه ، مثل من يحاول تقويم الخشبَة وإصلاحها بعَرْضها على النار . أقول : وها هنا سرٌّ لطيف لا يمكنني ضبط عنان القلم عن كشْفه ، وهو أنّ الإنسان في بداية الأمر في غاية الجمود والقساوة كالحجارة أو أشدّ قسوة منها ، لعدم المناسبة له الى حضرة نور القدس ، وإنّما يلين جِلدُه وقلبُه لذكْر الله على التدريج ، بواسطة تلطّف سرّه بالرياضات والتلطفيات ، وذوبان لحْمه وشحْمه بإذابة التكاليف الدينيّة والعقليّة ، حتى يبلغ الى مقام يتسخّن كبدُه بحرارة الشوق والمحبّة ، ثم يشتعل زيت قلبه بنار التوبة والندامة ، ثمّ يتنوّر مصباحُ روحه بنور الإيمان والمعرفة . وأصل الكلام وبناؤه ؛ على أنّ الموجودات متفاوتة في الوجود وكماليّته ، وللإنسان أن يسلك في سبيل الله ، ويتدرّج في الدرجات ، ويسير من أدنى منازل الوجود الى اعلاها ، فيترقّى من أول منازل الموجودات الأرضيّة والمائيّة الى آخر منازل الموجودات الهوائيّة والناريّة كالجنّ والشياطين ، ومنها يأخذ في سيره الى منازل الموجودات النوريّة ، وهي مراتب الملكوت الأعلى ، فلا بدّ من وروده في سيره الباطني أولاً الى نشأة من نشئآت النيران ، سواء كان في الدنيا أو في العقبى ، كما قال تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] . فإن ورد عليها في الدنيا ، فيقع الخلاص منها ، وإلاّ فسوف يعذّب بها في العقبىٰ ، ووروده على النار في الدنيا ، عبارةٌ عن احتراق قلبِه أولاً بنار التوبة والندم ، ثمّ ذوبان جسمه بنار الرياضات والتكاليف الشاقّة ، ثمّ اشتعال ذهنه بنار الحركات الفكريّة والانتقالات النفسانيّة ، وهكذا حتّى يتجاوزَ من هذه المقامات بقوّة البرهان ونور الإيمان ، الى عالَم الأنوار الملكوتيّة ، ويتخلّص عن عذاب النيران ، ويحل في منازل الجنان ومجاورة الرحمٰن ، كما قال تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 72 ] . فإذا تقرّر هذا ، فَلَعَمْري إنّ الصلاة أشدُّ العبادات تأثيراً في تسخين الباطن ، وتليين الجُلود والقلوبَ لذكْرِ الله ، وتذويب ذهَب الخلاص في كورة الامتحان ، لاشتمالها على نارِ الإيمان والمعرفة ونارِ الخوف والخشية للقرب ، ونارِ التوبة والندامة ، ونارِ الفكر والرياضة النفسيّة والبدنيّة . وفي الحديث : " كان يصلّي رسولُ الله وفي صدره ازيز ، كأزيز المرجل " . وقيل : إنّ الصلاة عبارةٌ عن الملازمة من قوله تعالى : { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } [ الغاشية : 4 ] . { سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [ المسد : 3 ] وسمّي الفرسُ الثاني من أفراس المسابقة مصلّيا . وقال صاحب الكشّاف : الصلاة فعَلَةٌ من صلّى ، كالزكاة من زكّى ، وكتابتها بالواو على لفظ المفخّم ، وحقيقة " صلّى " حرك الصَّلَوين ، لأنّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده ، وقيل للداعي : مصلٍّ ، تشبيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد . واعترض عليه صاحب التفسير الكبير : بأن هذا يفضي الى طعنٍ عظيمٍ في كون القرآن حجّة ، لأنّ لفظ الصلاة من أشدّ الألفاظ شهرة ، وأكثرها دَوراناً على ألسِنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصَّلَوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل ، ولو جوّزنا انّها في الأصل ما ذُكر ، ثمّ خفي واندرس حتّى صار بحيث لا يعرفه الآن إلاّ الآحاد ، لكان مثلُه جائزاً في سائر الألفاظ ، ولو جوَّزنا ذلك لما قطعنا بأنّ مراد الله من هذه الألفاظ ما يتبادر إلى أفهامنا ، لاحتمال أنّه كانت موضوعة لمعانٍ أخر في زمان الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، وكان مرادُ الله تلك المعاني ، لكنها خفيت واندرست هي في زماننا كما وقع مثلُه في هذه اللفظة . ولما كان هذا باطلاً بالاجماع ، علِمنا أنّ هذا الاشتقاق الذي ذكره مردودٌ باطلٌ انتهى كلامُه . وفيه ما لا يخفى من التعسّف ، فإنّ اشتهار اللفظ في المعنى الاصطلاحي المنقول إليه دون اللغوي المنقول منه ، لا يقدحُ في الحكْم بكونه منقولاً بحسب الرواية والضبط من أهل اللغة ولا يوجِب ذلك عدم الاطلاع على معاني الألفاظ القرآنيّة في سابق الزمان ، كزمان نزول القرآن ، إذ بواسطة ضمّ القرآئن المعلومة لمن تتبّع موارد الاستعمالات اللغويّة ، وتتبع معاني ألفاظ المفسّرين وغيرهم الذين كانت أزمنتهم قريبة من زمان الوحي ، يحصل اطّلاع تام على معاني هذه اللغات في ذلك الزمان بلا شك . والصلاة في الشرع عبارة عن أفعالٍ مخصوصة ، على وجوه وشرائط مخصوصة . وهذا يدلُّ على أن هذا اللفظ منقولٌ من اللغة الى الشرع . وقيل : إنّ هذا ليس بنقلٍ ، بل تخصيص . لأنه يطلق على الذكْر والدعاء في مواضع مخصوصةٍ . إشارة [ الصلاة ] إنّ الصلاة المعهودة ، من أعظم العبادات الدينيّة والأوضاع الشرعيّة جلالة وقدراً ، وأشدّها قرباناً الى الباري ، وأوفرها تشبّهاً بفعل المبادي المطيعة لله على الدوام ، لاشتمالها على الأعمال العقليّة والبدنيّة ، واحتوائها على هيئات الخضوع والتذلّل لله ؛ ولهذا كانت واجبة في جميع الشرايع المعظّمة والملل القديمة . قال أفلاطون الربّاني في المقالة الثانية من كتابه في النواميس : إنّ الصلاة تجمع الإقرار بالربوبيّة ، وطاعة العقل في توجه النفس اليه ، وتركها استعمال الحواسّ ، ونهيها بذلك عن مقتضاها طلباً للروحانيات ، وترك الاشتغال بطاعة الجسَد والتخلّي عن المعاصي ، والإقرار بالذنب ، والمسألة في الصفح . ألاَ ترى الى الرجل كيف يرفع يديه بالتكبير ، وإنّما ذلك استعاذة من شيء خاف ايقاعه به عليه فطلَب الاستقالة منه . وكان ملك اليونانيّين إذا دخل الأسرى الى بلدانهم ، تقدّموا اليهم أن يبسطوا أيديهم بسط التضرّع ، لترى العامّة أنّهم على الخوف والذُّعْر من مسيرهم في المدينة . فأمّا الركوع ، فكتمكين الرجلِ من نفسه من حاولَ ضربَ عنقه ، فإنّك لا تجد له حالةً أمكَن من الركوع . وأمّا السجود ووضع الوجوه في مراتب الأقدام ، فمن تعمّد ذلك يمحق غضبه ، فلهذا كانت فصول الصلاة أغضّ الأشياء من الغضب المؤذي ، كما انّ الصوم من أغضّ الأشياء لدفع آفة الشهوة . انتهى كلامه . مكاشفات عقلية متعلقة بأسرار الصلاة الأولى : في حكمة وجوب الطاعات وسرّ التكليف بها : إعلم أنّه لما اقتضت الأسماء الحسنى الإلٰهيّة ظهور آثارها جميعاً في المظاهر الكونيّة ، لئلا يتعطّل طرف من الألوهيّة ، ظهرت في نوع الإنسان الذي هو أشرف الأكوان ، وقد أوجده الله للعبادة كما قال : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . وطبايع أكثر الناس مجبولة على العدول عن منهج الحقّ ، والانحراف عن سَنَن العدل ، كما أشار اليه بقوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] . وقوله : { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ المؤمنون : 70 ] . وقد تقرّر بنيان هذا البيان في كثير من الأحاديث القدسيّة والنبويّة ، مثل قوله تعالى : كلّكم ضالٌّ الاّ من هَديته فاسألوني الهُدى اهدِكُم ، وكلّكم فقير الاّ من أغنيته فاسألوني أرزقكم ، وكلّكم مذنب الا من غفرتُه فمَن علِم منكم منّي انّي ذو قُدرةٍ على المغفرةِ فاستغفر غفرتُ ولا ابالي . فلو أنّ الناسَ أُهمِلوا وطبائعَهم وتُركوا سُدىً ، وخُلّيَ بينهم وبين طبائعهم ، لتوغّلوا في الدنيا ، وانهمكوا في اللّذات الجسمانيّة ، وطلبوا دواعي القوى الظلمانيّة لِضراوتهم واعتيادهم بها من الطفوليّة والصِّبىٰ ، حتّى زالت استعداداتهم ، وانسلخوا عن رتبة الإنسانيّة فمُسخوا ومُثّلوا بالبهائم والسباع ، كما قال تعالى : { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [ المائدة : 60 ] وإن حوفظوا ودُعوا بالسياسات الشرعيّة والعقليّة ، والحِكم والآداب النبويّة ، ترقّوا وتنوّرت بواطنُهم بنور الملَكية كما قال الشاعر : @ هي النفسُ ان تهمل تلازم خساسةً وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج @@ فلهذا وُضعت العبادات ، وفُرض عليهم تكرارُها في الأوقات المعيّنة ، ليزول بها دَرَن الطبائع المتراكمة في أوقات الغفَلات ، وظُلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتّخاذ اللذات ، وارتكاب الشهوات ، وتتنوّر بواطنُهم بنور الحضور ، وتنبعث قلوبُهم بالتوجّه الى الحقّ عن السقوط في هاوية النفس والعثور ، وتنشرح صدورُهم وتستريح بروح الرَّوح ، وحبّ الوحدة عن وحشة الهوىٰ وتفرّق الكثرة ، كما قال ( صلّى الله عليه وآله ) : " الصلاة الى الصلاة كفّارةُ ما بينهما من الصغائِر ما اجتُنِبَت الكبائر " . ألاَ ترى كيف أمرهم عند الحدَث الأكبر ومباشرة الشهوة بتطهير البدن بالغُسل ، وعند الحدَث الأصغر بالوضوء ، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيويّة في ساعات الليل والنهار بالصلَوات الخمس المزيلة لكدورات مدرَكات الحواسّ الخمس الحاصلة للنفس منها كلٌّ بما يناسبه . وكذلك وضَعوا بإزاء تفرقة الأسبوع ، وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب والملابِس البدنيّة والملاذّ الجمسانية ، اجتماع قومٍ على العبادة والتوجّه ، لتزولَ وحشةُ التفرقة بأنس الاجتماع والحضور ، ويحصلَ بدلَ ظلمةِ النفرة نورُ المحبّة الايمانية ، ويرفعَ عنهم ظُلمةَ الاشتغال بالأمور الجزئية ، والإعراض عن الحقّ من جهة الأغراض المختصّة الشخصيّة . وهكذا الحال في أكثر التكاليف ، إذ مرجع الغرض في أكثرها الى تصفية القلب عن ظلمة الدنيا ، وتجريد الباطن عن كدورة الطبيعة ودَرَن اللذات الجسمانيّة ، وتخليص العقل عن طاعة الهوى والشيطان بنور طاعة الحقّ بالايمان . مكاشفة اخرى في لميّة وجوب الصلاة مطلقاً من بين العبادات على عامّة الناس بوجهٍ عقلي لمّا علِم الشارعُ انّ جميع أفراد الإنسان لا يرتفعون عن حضيض البشريّة ، ولا يرتقون في مدارج العقل الى درجة الملَكيّة بحسب المعرفة والإخلاص ، فلا جرَم سوّىٰ لهم رياضة بدنيّةً ، وساسَهم سياسةً تكليفية ، تخالف أهواءَهم الطبيعيّة ، وحفظ لهم الصورةَ الإنسانية ، وراعىٰ فيهم حكاية النُّسْك العقليّة ، وهيكل العبادات الملَكيّة . فمهَّد لهم قاعدةً في الأذكار والأوراد ، وألزمهم تركَ النسيان بتكرير الأعداد ، وهي في الوجوب أعمّ وفي الحسّ أعظم ، لترتبط بظواهر أشخاص الإنسان ، وتمنعهم عن التشبّه بسائر أفراد الحيوان ، وأقرّ بهذا الهيكل الظاهر على كلّ بالغٍ عاقل ، فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : " صلّوا كما رأيتُموني " ، ولو قال : صلّوا كصلاتي ، فمَن الذي صلّى مثل صلاته ؟ لأنّه كان يصلّي وبصدره ازيز كأزيز المرجل من البكاء ، وكان في صلاته يَرى من خَلفه . فقد ظهر أنّ في صلاة القالب مصلحةً كثيرة لا تخفى على اللبيب العاقل ، ولا يقر به لسان الجاهل العاذل . وهذا المعنى من الصلاة قد كانت واجبة على الأمم السابقة على أعداد اكثر من اعداد صلواتنا لعموم جدْواها ، وكانوا مكلّفين بأعمالٍ جسمانيّة كثيرة المشقّة لغلبة القسوة والجسمانيّة عليهم ، وقلّة ظهور آثار الملكوتيّين منهم . وشريعتنا المحمديّة - على الصادع بها وآله خير الصلاة والتحيّة - أقلّ تكليفاً وأكثر منفعة ، لصفاء القوابل ، ولطافة القلوب ، ورقّة الحجاب في أمّته بحمد الله ، ولذلك قال : بعثتُ بالشريعة السهْلةِ السمْحاء . مكاشفة اخرى في لميّة وجوب الصلاتين القلبيّة والقالبيّة . إن الله قد بعث النبيّين معلّمين بالكتاب والحكمة ، واضعين من قِبل الله للشريعة والملّة ، مقيمين للعدل والقسط لقوله : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] . فوضعوا للناس النواميس الإلٰهيّة ليُخرجوهم عن حضيض البرزخ الظلماني ، ويبلّغوهم الى أوج العالَم النوارني ، لينخرطوا في سلك الملائكة المقرّبين ، وينغمسوا في جوار القدس مع الأنبياء والصدّيقين ، رحمةً من الله وفضلاً ونعمة منه . فشرع كلّ منهم بإذن الله لأمّته حسب ما أعطته العنايةُ الإلٰهيّة ، واقتضته الرحمة الأزليّة في ذلك الوقت والزمان ، من الأعمال القلبيّة والبدنيّة ، ما تكمل به قوّتاهم العلميّة والعمليّة بحسب طاقتهم . ولمّا كانت الحكمة المحمديّة - على مقيمها وآله أفضل المحامد العليّة - ، حكمة فردة ، لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ، بل هو أكمل الممكنات علويّها وسفليّها ، روحانيّها وجسمانيّها ، وكان تأثير قوّة نبوّته في تكميل أرواح أمّته ، أبلغ وأتمّ كمالاً وأقوم ، وحكمته أحكم ، وكتابه وشريعته أبلغ وأعمّ ، كانت أمّته خير الأمم وأعدلها ، وأشرف الفِرق وأكملها ، كما قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] . وإليه أشار صلّى الله عليه وآله : " بعثتُ لاتمّم مكارمَ الأخلاق " وبقوله : " علماءُ امّتي كأنبياء بني إسرائيل " . فخصّ المحمّديون بوجوب حقيقة الصلاة والذكْر القلبي ، والمعرفة الإلٰهيّة التي هي روح الصلاة ، كما وجَبت عليهم صورةُ الصلوات الخمس المكتوبة ، وأمروا بالمواظبة عليها ، والمحافظة لها ، وتكريرها في كل يوم بهيئة مشتملة على سرّ إلٰهي في أوقات معيّنة له ؛ وهي ذكرٌ له تعالى ، وقربة الى جناب الحقّ ، ومناجاةٌ معه ، كما قال ( صلّى الله عليه وآله ) : " المصلّي مناجٍ ربَّه " . وروح الصلاة ، وهي معرفة الحقّ وتعظيمه وتنزيهه عن نقائص الإمكان ، أشدّ وجوباً على بواطن العقلاء الكاملين من صورتها ، وهي القيام والقعود والقراءة والركوع وسائر الهيئات والأوضاع على ظوهر سائر الناس ، وقال سبحانه : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [ طه : 124 ] . مكاشفة اخرى في تحقيق القول من سبيل آخر قد بانَ لك انّ في الإنسان شيئاً من العالَم الأسفل ، وشيئاً من العالَم الأعلى ، وأعني بالعالَم الأسفل : الدنيا وما فيها ، وبالعالَم الأعلى : الآخرة وما فيها . وكذلك في كلّ عمل من الأعمال الدينية قشرٌ ظاهرٌ ولبٌّ باطنٌ ، فالقشر متعلّق بالدنيا ، واللُّبٌّ متعلّق بالآخرة ، وكما انّ مقصود الشارع من طهارة الثوب - وهو القشر الخارج - ومن طهارة البدن - وهو القشر القريب - إنّما هو طهارةُ القلب - وهو اللبّ الباطن - وطهارة عن نجاسات الأخلاق كالكفر والحسد والنفاق والبخل والإسراف وغيرها . فكذلك مقصود الشارع من صورة كلّ عبادة ، هو الأثر الحاصل منه في القلب . ولا يبعد أن يكون لأعمال الجوارح آثارٌ في تنوير القلب وإصلاحه ، كما لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثير في إشراق نورها على القلب ، فإنّك إذا أسبغت الوضوء ، واستشعرت نظافة ظاهرك ، صادفتَ في القلب انشراحاً وصفاءً لا تصادفه قبله ، كيف وإدراك النظافة يوجب حصول صورتها في القلب ، وهذا ضرب من الوجود ، وفعلُ الطهارة أوجب حصولها في القلب ولو بوجهٍ ضعيف . وذلك لسرّ العلاقة الواقعة بين عالَم الشهادة وعالَم الغيب ، فإنّ ظاهر البدن من عالَم الشهادة والملك ، والقلب من عالَم الغيب والملكوت بأصل فطرته ، وإنّما يكون هبوطه الى هذا القالب ، كالغريب عن موطنه الأصلي ، ونزوله الى ارض عالم الشهادة عن الجنة التي هي موطنه وموطن أبيه المقدس ، لجناية صدرَت أولاً عن أبيه . وكما تنحدرُ من معارف القلب آثارٌ الى البدن ، فكلذلك ترتفع من أحوال الجوارح أنوار الى القلب ، ولذلك أمر بالصلاة مع انّها حركات للجوارح ، وهي من عالَم الشهادة . وبهذا الوجه ، جعلَها رسولُ الله ( صلّى الله عليه وآله ) من الدنيا فقال : " أحببتُ من دنياكُم ثلاثاً الحديث . وعدّ الصلاة من جملتها " . ومن ها هنا قد شممت شيئاً يسيراً من أسرار الطهارة والصلاة وسائر العبادات ، وإذا تقرّر هذا عندك ، وعلمت بمثل هذا التقسيم في جميع العبادات ، واتّضح لك وتأكّد عندك حسبما قدمنا اليك أنّ الصلاة منقسمةٌ الى رياضيّ جسمانيّ والى حقيقيّ روحانيّ ، فاعلم أنّ نفوس الإنسان متفاوتة بحسب آثار القُوى والأرواح والدواعي المتركّبة فيها ، فمن غلب عليه الروح الطبيعي والحيواني ، فإنّه عاشق البدن يحبّ نظامَه وتزيينَه وتعظيمه وأكلَه وشُربَه ولبسه وطالَب جذب منفعته ودفعَ مضرّته ، فهذا الطالِب من عِداد الحيوانات وزمرة البهائم . فأيّامه مستغرقة باهتمام بدنه ، وأوقات عمره مصروفة الى مصالح جثّته وشخصيّته . فهو غافلٌ عن الحقّ جاهلٌ بأمره ، فلا يجوز له التهاون بهذا الأمر الشرعي اللازم الواجب ، وإن قعد عنه فبالسياسات والزواجر يُكْرَهُ عليه ويجبر ، حتى لا يفوت عنه حقّ التضرّع والاشتياق الى الله تعالى ، ليفيض عليه بجوده ، وينجيه من عذاب وجوده ، ويخلّصه من آمال بدنه ، ويوصله الى منتهى أمله . فإنّه لو انقطع عنه قليلُ خير ، لتسارع اليه كثير شرّ ، ولكان أدنى درجة من البهائم ، وأضلُّ سبيلاً من الأنعام . ومن غلبت عليه قواه الروحانية ، وتسلطت على هواه قوّته الناطقة ، وتجرّد عن محبّة الدنيا وعلائق العالَم الأدنى ، فهذا الأمر الحقيقي والتعبّد الروحاني ، وذكْر الله بالقلب ومناجاته وقرباته ، واجبٌ عليه أشدّ وجوباً وأقوى إلزاماً ، كما قيل : الحكمة أشد تحكّماً على باطِن العاقل من السيفِ على ظاهر الأحمق . لأنّه استعدّ بطهارة نفسه وشرافة عقله ليفيض عليه ربُّه ، فهو أقبل بمشقّته ، واجتهد في تعبّده لتسارع إليه جميع الخيرات العلوية والسعادات الأخرويّة ، حتى إذا انفصل عن جسمه وفارَق الدنيا ، يدخل عليه الملائكة من كلّ ، باب ويشاهد مفيضَه وموجِدَه ومكمِّله ربَّ الأرباب ، ويجاور حضرتَه ويلتذّ بمنادميه حينئذ ومجاوريه ، وهم سكان ملك الملكوت وقطّان عالَم الجبروت . مكاشفة اخرى في سرّ الصلاة وروحها من جهة اشتمالها على ظاهر جسماني وباطن نوراني إعلم أنّ الصلاة عبارة عن تشبّه ما للنفس الإنسانية بالأشخاص الكريمة الإلٰهية في تحريكها للأجرام الفلكيّة ، فما أشدّ شباهة الإنسان حين التشغّل بالصلاة الكاملة بتلك الأشخاص الكريمة بأرواحها الملكيّة ، في تعبّدها الدائم ، وركوعها وسجودها ، وقيامها وقعودها طلباً للثواب السرمدي ، وتقرّباً الى المعبود الأحدي . ولذلك قال ( صلّى الله عليه وآله ) : " الصلاةُ معراجُ المؤمن . وقال : الصلاةُ عِماد الدين " . وأصل الدين ، تصفية الروح عن الكدورات الشيطانيّة والهواجس النفسانيّة ، والصلاة الحقيقية هي التعبّد للمبدإ الأعلى والمعبود الأعظم ، والخير الأشراف ، والتعبّد في الحقيقة ، عرفان الحقّ جلّ مجده ، والعلم بآياته بالسرّ الصافي والقلب النقيّ والنفس الفارغة . فسرّ الصلاة التي هي عماد الدين ؛ هو العلم بوحدانيّة الله ، ووجوب وجوده وتنزه ذاته ، وتقدُّس صفاته ، وإِحكام أفعاله ، ونفاذ أمره في خَلْقه ، وجريان قضائه في قدَره ، وقلمه في لوحه ، وتعلّق عنايته ورحمته بعباده ، وإنزال كتبه على رسُله ، ورجوع العباد في معادهم اليه ، يوم مثول الأرواح والنفوس بين يديه ، وقيام صفوف الملائكة والروح لديه . مع الإخلاص له بالعبوديّة . وأعني بالإخلاص ؛ أن يعبد الله بلا مشاركة أحدٍ ، وأن يعلمَ ذاتَه وصفاته وأفعاله بحيث لا يبقى للكثرة فيه مَشْرَعاً ، ولا للاضافة اليه مترعاً . ومن فَعل هذا فقد أخلص وصلّى ، وما ضلّ وما غوى ، ومن لم يفعل هكذا فقد افترى وعَصى ، والله أجلّ من ذلك وأعلى وأغنى . مكاشفة اخرى في مبدأ وجوب هذا التعبد الروحاني إن هذه الصلاة قد وجبَت على سيّدنا محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) في ليلة مباركة ، قد صعَد الى العالَم العلوي ، وتجرّد عن بدنه ، وتنزّه عن أهله ، ولم يبق معه من آثار الحيوانيّة شهوة ، ولا من لوازم الطبيعة قوّة ، ولا من الدواهي النفسانيّة بقيّة . فناجىٰ ربَّه بقلبه وروحه عند طرح قالبه وبدنه في آخر منازل الجسميّة ، فقال - كما رُوي عنه ( صلّى الله عليه وآله ) : - " إنّي وجدتُ لذّة غريبة في ليلتي هذه ، فأعطني يا ربّ هُدىً ، ويسِّر عليَّ طريقاً يوصِلني كلّ وقت الى لذّتي ، فأمره الله بالصلاة فقال : يا محمد ، المصلّي مناج ربه " . ولا يخفى على العاقل المتأمّل ، انّ مناجاة الله لا تكون بالأعضاء البدنيّة ، ولا بالألسُن الجمسانيّة ، لأن هذه المكالمة إنما تصلح لمن يحويه مكان وتقترن به حركة وزمان ، أما الواحد المقدّس الخارج عن عالَم المحسوس والحسّ الذي لا يحيط به مكان ولا يحويه زمان ، ولا يعتريه تجدّد وتغيّر ، ولا يشار اليه بجهة من الجهات ، ولا يختلف حكمه في صفة من الصفات ، فكيف يعاينه الإنسانُ المشكَّل المجسّم المحدود بجسمه ، المقيّد المحصور بحسب قوله وفعله وشعوره وحسّه ؟ وكيف يناجي في هذا العالَم المركّب الخروب ، من لا يعرف حدود جهاته ولا يرى جناب صفاته . فإنّ الوجود المطلق عن عالَم المثل والمحسوسات ، بل المرتفع عن إمكان الأرواح والعقليّات ، غائب عن الحواسّ ، غير مشار إليه بالأخماس ، ولا يدرك بالإلماس ، ومن عادة الجسم والجسمي ، أن لا يناجي ولا يجالس الا من يراه بالبصَر ، ويحسّه بالحس ، ويدركه بإحدى الخمس . وإذا لم ينظر إليه ولم يشاهده يعده غائباً ، ويكون بفقده عن المشاعر خائباً . فمن كان خارجاً عن هذا الباب ، مقدّساً عن طرفي هذا النفي والإثبات جميعاً ، وعن المداخلة والمزايلة رفيعاً ، فمناجاته بإحدى الظواهر والآلات أمحل المحالات ، وأفحش الخرافات الموهومات . فاذن قوله " المصلّي مناجٍ ربه " محمولٌ على عرفان النفوس العرّافة العلاّمة المجرّدة عن جهات الجسم والمكان ، وحوادث الحركة والزمان . فهم يشاهدون الحقّ مشاهدةً عقلية ، ويبصرون الإلٰه ويبصرونَه بصيرة نوريّة ، ويسمعون كلامَه سماعاً قلبيّاً روحانياً . تفريع فعلىٰ هذا ظهر انّ الصلاة الحقيقيّة هي التي تليق أن يمدح الله بها المؤمنين المتّقين المهتدين بأنوار معارف هذا القرآن ، وهي التي تنهى عن فحشاءِ القوّة الشهويّة ، ومنكَر القوّة الغضبية ، وبغي القوّة الوهمية ، ويدفع آفات هذه الثلاث التي أولاها كالبهائم ، ووسطاها كالسباع ، وأُخراها كالشياطين . وذلك لأنها كما علمت ، مكالمةٌ عقليّة مع الله عند مشاهدة قلبيّة له ، أو هي التضرّع بالنفس الناطقة نحو الله الحقّ والموجود المطلق ، وجعلها بمنزلة يدٍ باسطةٍ إليه تعالى . ولأصحاب العلوم الظاهرة من هذا حظٌّ ناقصٌ ، وإن ارتفعوا عن منزل الأنعام قليلاً ، وارتفعوا عن درجة العوام يسيراً ، وللمحقّقين قِسمٌ وافرٌ ونصيب كامل من هذا البحر الزاخر ، ولهم قرّة أعين في الصلاة أخفيت عن أعين الناس ، ومن كان حظّه أكمل ، فثوابه أجزل . فالعاقل الحكيم ، يتأمّل سلوك طريق التعبّد والمداومة على الصلاة ، ويلتذّ بمناجاة ربّه لا بشخصه ، وينطقه لا بنُطِقه ، ويبصره لا ببَصرِه ، ويحسّه لا بحسِّه . وأما الجاهل اللئيم ، المغرور الممكور ، المشعوف بما عنده من القشور ، الطالب في مناجاته للذّات عالم الزور ، المتوجّه الى تحصيل المنزلة والجاه عند أصحاب القبور ، ومن آثر الهوى واتّبع الشيطان ، وانحرف عن الحقّ والهدى ، حرّم الله عليه لذّة مناجاته ، كما ورَد في أخبار داود على نبيّنا وعليه السلام : يا داود إنّ أدنى ما أصنع بالعالَم إذا آثرَ شهوتَه على محبّتي ، أن احرم عليه لذيذ مناجاتي . ومثل هذا الخبر ما ذكره مالك بن دينار من قوله : قرأت في بعض الكتب انّ الله عز وجل يقول : إنّ أهون ما أصنع بالعالَم اذا أحبّ الدنيا أن اخرج مناجاتي من قلبه . { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور } [ النور : 40 ] . قوله جل اسمه : وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 ) الرِزْق في كلام العرب ، الحظّ مطلقاً قال تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] . أي حظكم ونصيبَكم . والعرْف خصّصه بما ينتفع به الحيوان ، يؤكل أو يستعمل ، وقيل : هو ما يُملك ، وهو باطلٌ . لأن الإنسان قد يقول : اللّهم ارزقني ولداً صالحاً ، وزوجةً صالحةٍ . وهما مما ليسا بمملوكين له . وكذا يقول : اللّهم ارزقني عقلاً أعيشُ به . والعقل ليس بمملوك . وأيضاً البهيمةُ لها رزق ولا يكون لها ملك . وقيل : هو عبارة عن تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء ، وهذا مذهب أبي الحسين البصري وسائر المعتزلة ، ولهذا ذهبوا الى أن الحرامَ لا يكون رزقاً ، وذلك لأنّهم استحالوا من الله أن يمكّن من الحرام ، بدليل أنّه منع من الانتفاع بالحرام ، وأمر بالزجْر عنه ، وبما ذكره صاحب الكشّاف في هذه الآية من قوله : " إسناد الرزق الى نفسه للإعلام بأنّهم ينفقون الحلال الطلْق الذي يستأهل أن يضاف الى الله ويسمّى رزقاً منه " . وبقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } [ يونس : 59 ] . إذ قد بينّ انّ من حرّم رزق الله فهو مفترٍ عليه ، فثبت انّ الحرام لا يكون رزقاً . وبما روي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أن رجلاً قال له : " إنّ الله كتَب عليَّ الشقوة أفلا أراني أرزق إلا من دَفّي بكفّي ، فأذَنْ لي في الغناء من غير فاحشةٍ ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة ، كذبتَ يا عدوّ الله ، لقد رزَقك الله طيّباً ، فاخترتَ ما حرّم الله عليكَ من رزقِه مكان ما أحلّ الله لك من حلالِه ، أم إنّك لو قلتَ بعد هذه النوبةِ ، ضربتُك ضرباً وجيعاً " . والجواب : أمّا عن الأول ، فبأنّ المنع الشرعي للكل عن الحرام ، لا يناقض السياق القدَري لبعض الأشخاص إليه ، وتحقيق هذا المقام يحتاج الى مسلك آخر غير علم الكلام . وأما عن الثاني : فبأنّ إسناد الرزق الى الله على سبيل التشريف والتحريض على الإنفاق ، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً ، كما يقال : يا خالق العرشِ والكرسي ، [ ولا يقال ] يا خالق الكلاب والخنازير ، وكقوله : { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [ الإنسان : 6 ] . فخصّ العباد بالمتّقين وإن الكفّار من العباد . وأما عن الثالث : فبأنّ الذمّ للمشركين لأجل انّهم حرّموا ما أحلّ الله من الرزق . وأما عن الرابع : فبأنّ الخبر حجّة عليكم لا لكم ، لأنّ قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : " فاخترتَ ما حرّم الله عليكَ من رزقه " ، صريحٌ في أنّ الرزقَ قد يكون حراماً . واستدلّ بعض الأشاعرة : بأنّ الحرام لو لم يكن رزقاً ، لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقاً ، وليس كذلك لقوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] . وأقول : هذا الاستلال ضعيف ، لمنع تحقّق مادة النقض ، إذ ما من حيوان إلاّ وله رزقٌ من الحلال ولو في بعض الأوقات ، كما عند كونه في بطن أمّه . والحقّ أنّ النزاع في هذه المسألة يرجع الى محض اللغة وهو : أن الحرام هل يسمّى رزقاً أمْ لا ؟ ولا مجال للدليل العقلي في الألفاظ . وأصل الإنفاق ، إخراج المال من اليد ، ومنه نفقَ المبيع نفاقاً إذا كثُر المشتَرون له ، ونفقتِ الدابّة إذا خرجت روحُها ، ومنه نافق الفأرة لأنها تخرج منها ، ومنه النفق في قوله تعالى : { أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 35 ] . وفي الكشّاف : انّ " أنفقه وأنفده " أخَوان ، و " نفق ونفد " واحد ، وكلّما جاء مما فاؤه نون وعينُه فاء ، فدالٌّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمّلت . تنبيه في قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فوائد لطيفة : إدخال " من " التبعيضيّة صيانة لهم عن الإسراف ، وكفّاً عن التبذير المنهيّ عنه ، وتقديم المفعول للاهتمام به كأنّه قال : ويخصّون بعض المال للتصدّق به ، والمحافظة على رؤوس الآي ، وإطلاق الانفاق حتّى يشمل الزكاة وغيرها . ومن فسّر الإنفاق بالزكاة ، فقد ذكر أفضل أنواعه وما هو الأصل فيه ، وإنّما وقَع التخصيص بها لاقترانه بما هو شقيقها . ولا يخفى انّ الإنفاق منه واجب ومنه مندوب . والإنفاق الواجب أقسام : أحدها : الزكاة وهي قوله تعالى في آية الكنز : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 34 ] . وثانيها : الإنفاق على النفس والأهل ومَن تجِب عليه نفقته . وثالثها : الإنفاق في الجهاد . وأما الإنفاق المندوب ، فهو ما سوى ما ذكَرناه لقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } [ المنافقون : 10 ] وأراد به الصدقة ، بدليل قوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] ، فجميع هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية ، لأن كل ذلك سببٌ لاستحقاق المدح ، فالأوْلىٰ أن يراد به الإنفاق من جميع المعارف التي منحهم الله بها من النعَم الظاهرة والباطنة ، والماليّة والعلميّة ، يؤيّده قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : " إنّ علْماً لا يقال به ، ككنزٍ لا ينفق منه " ولهذا المعنى ذكر بعض المحقّقين في تفسيره : وممّا خصصناهم به من أنوار المعارف يفيضون . واعلم أنّ الرزق كلّه من قِبَل الله لا من قِبَل غيره ، لأنه من ضروريّات بقاء الإنسان والحيوان . فهو مقدر بتقدير الله ، مضمونٌ بضمانه ، والبرهان عليه من طريق العقل : أنّه تعالى يعلمُ ذاتَه ، وما توجبه ذاتُه على الترتيب الأقدم فالأقدم . وهكذا الى أدنى المراتب ، فهو قد عقل جميع الموجودات من جهة عقله لذاته ، لأنّ عقله لذاته علّة لعقل ما يقتضيه ذاتُه وإن كان بالقصد الثاني ، وكل ما يعقله لا بدّ وأن يوجده ، لأنّ علمَّه علمٌ فِعْلي لأجل كون علمه عين ذاته ، فقد ترتب وجود جميع الموجودات عن علمه بذاته ، وبما توجبه ذاته من المبدَعات والكائنات ، لأن الله تعالى علم وجود الكلّ من ذاته ، فكما انّ تعقله لذاته لا يجوز أن يتغيّر ، فكذلك تعقّله لكل ما يترتّب عن ذاته . فكل ما يعقل وجوده عن ذاته وعن عقله لذاته ، لا يجوز أن يتغيّر ، بل يجب وجود كلّ ذلك على الوجه الذي عقله ، ووجود أنواع الحيوانات وبقاؤها متعقَّل له تعالى بلا شكّ فيه ولا خلاف من أحد من العقلاء ، وخصوصاً وجود النوع الإنساني وبقاؤه ، فيجب وجود هذا النوع وبقاؤه ، وكذا سائر الأنواع الحيوانيّة المتوالدة . ولمّا كان وجودُ النوع إنّما يبقى مستحفظاً ، إذا لم يمكن لواحد من أعداده الديمومة الشخصيّة بتعاقب أشخاصه ، وبلوغ كلّ شخص منها الى كماله الذي يمكن به أن يَلِدَ شخصاً آخر مثله ، وبلوغه الى ذلك الكمال لا يمكن إلاّ ببقائه مدّة يصل فيها اليه ، وبقاؤه تلك المدّة لا يمكن إلاّ بما به قوام حياة البدن من الرطوبات الغريزيّة التي هي أبداً في التحلّل والذوبان والنقصان ، بواسطة استيلاء الحرارات الداخليّة والخارجيّة عليها ، فيحتاج في تحلّلها وذوبانها ونقصانها كلّ لحظة الى البدل ، وهو الرزق الصوري ، فقوام الحياة البدنيّة بالرزق . ولمّا تقرّر أنّه تعالى يعقل وجودَ الكلّ من ذاته ، وينال أسبابها وعللها من ذاته ، ووجود ما يعقله من ذاته واجب ، ويعقل بقاء النوع الإنساني ببقاء الأشخاص وتناسلهم ، ويعقل تناسلَهم ببقاء كلّ شخص مدّة ، ويعقل بقاء كلّ شخص مدّة بما به قوام حياته وهو الرزق ، والرزق إنّما يكون من النبات والحيوان كالخبز واللحم والفواكه والحلوىٰ ، فوجب أن يكون الرزق مضموناً بتقدير الرؤوف الرحيم ، ولذلك قال : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 22 - 23 ] . فقد علم أنّ الرزق ، سواء كان حلالاً بحسب الشرع ، أو حراماً ، أو غيرهما ، كرزق سائر الدوابّ ، واجب من قِبَل الله وجوباً عقليّاً كما قال : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] . حكاية في هذا الباب ذكر في كتاب إخوان الصفا ، أنّ بعض الخلفاء العباسيين رأى شيخاً سقّاء في داره فقال له : كم تعدّ من الخلفاء ؟ قال : كثير ، فقال له شبه المتعجّب : ما بالكم طوال الأعمار ونحن قصارها ؟ قال له السقّاء : لأنّ أرزاقَكم تجيء مثل أفواه القِرب ، وأرزاقنا تجيء مثل قطر الأجفان ، فاستحسن الخليفةُ وأمر له بجائزة أغناه بها عن صنعه . ثمّ سأل عنه بعد حينٍ ، فقيل : ماتَ فقال : صدقَ لما جاءه الرزقُ مثل أفواه القِرب قصُر عمرُه ، وهكذا الحكم والقياس ، وقد جعل الله لكلّ إنسان نصيباً من السعادة وقسطاً من النعيم ، وجعلَ له قِسطا في الدنيا وقسطاً في الآخرة ، كما قال تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ] . وقال : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحِجر : 21 ] . فمقدار ما يأخذ الإنسان نصيباً وحظاً من النعيم والتلذّذ في الدنيا ، فبذلك المقدار ينقص حظّه ونصيبه من نعيم الآخرة . وهذا وإن كان إقناعيّاً ، فهو ممّا يحكُم به صاحبُ الحدسِ الصحيح بضربٍ من الشواهد والآثار ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [ الأحقاف : 20 ] و : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . قال النبي ( صلّى الله عليه وآله ) " نَفَثَ روحُ القدسِ في روعي إنّ نفْساً لن تَموتَ حتّى تستكملَ رزقها ألا فاتّقوا الله واجْمِلوا في الطلب " وقال امير المؤمنين ( عليه السلام ) : اعلموا علماً يقيناً أنّ الله لم يجعل للعبد وإن عظُمتْ حيلتُه وقويَت مكيدتُه واشتدّت طلبته ، أكثر مما سمّى له في الذكر الحكيم . تذكرة فيها تبصرة [ الرزق وأقسامه ] إعلم أنّ الرزق عند أهل الحقّ ، هو ما يتقوّى به الشخص وينمو ويزيد في تجوهره ، سواء كان من الجواهر الجسمانية ، أو الروحانية ، فللأرواح أيضاً أغذية كما للأبدان . وغذاء كلّ موجود من جنسه ومما يشابهه ، فكما انّ غذاءَ الأبدان من جنسها وهو نيل المطعومات المحسوسة ، فغذاء العقول الإنسانيّة إدراك العلوم العقليّة ، إذ بها حياة تلك العقول ، وبها تكمل وتزيد ، وبفَقدها تموت وتهلك ، وبحسب نقصانها تذبل وتضعف ، والى الرزق المعنوي العلمي وقعت الإشارة في قوله تعالى : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [ طه : 13 ] . ولهذا المعنى أوّلَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اللبن بالعلم ، قال الفتح الموصلي : أليس الرجل إذا منع عنه الطعام والشراب يموت ؟ قالوا : بلى ، قال : كذلك القلوب إذا منع عنها الحكمة والعلم ثلاثة أيّام تموت ، وغذاء الملائكة التسبيح والتقديس ، وغذاء الفلكيّات بما يرد عليها من الواردات والأنوار العلويّة المتجدّدة على الاتّصال بواسطة حركاتها المتّصلة المستمرّة . وكذا غذاء كلّ قوة من القوى الباطنة والظاهرة ، بنيل ما يُشببها وإدراك ما يناسبها ، فغذاءُ الوهم الموهومات ، وغذاء الخيال المتخيّلات ، وغذاء قوّة الباصرة إدراك الأنوار الحسّية ، وغذاء الجنّ بالنسيم والأرواح العَبِقة وسماع الأصوات ، وعلى هذا القياس ، فما من قوّة إلاّ ولها رزق صوريٌّ أو معنويٌّ من جنسها ، وبه تحصل لذّتُها وبما يضادّه ألمُها . وتحقيق هذا المقام من شمول رازقيّته تعالى لجميع الموجودات العلويّة والسفليّة والروحيّة والجسميّة والأخرويّة والدنيويّة ، مما يتوقّف على الأصول التي وقع الاثبات لها في كتبنا الحكميّة : كالشواهد الربوبيّة وغيرها فليرَاجع إليها من أراد الإطلاع على هذا المطلب .