Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 4-4)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يحتمل أن يراد بهؤلاء الموصوفين بالإيمان بما أُنزل على جميع الأنبياء وباليوم الآخر ، أعيانُ المذكورين سابقا ، كلاً أو بعضاً وتوسيط العاطف ها هنا كتوسيط بين الصفات في قولك : هو الشجاعُ والجوادُ وقوله : @ الى الملكِ القَرْم وابن الهمام وليثِ الكتيبة في المزدحَم @@ على معنى انّهم الجامعون بين الإيمان العلمي ولوازمه - من التقوى عن محارم الله ، والعملِ بما فرَضه الله عليهم من العبادات البدنية والماليّة - وبين الإيمان الكشفي بما لا يستقلّ العقل بإثباته ، من كيفيّة إنزال الوحي على الأنبياء ، وأحوال البعْث والحشْر . أو انّهم الجامعون بين المعقول والمسموع من الإيمان بالله واليوم الآخر مع العمل الصالح . وكرّر الموصول تنبيهاً على تباين المسلكين وتفاوت المنقبتين . ويحتمل أن يراد بهم طائفة أخرى ، وهم مؤمنوا أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأترابه ، من الذين آمنوا بالله لا عن شرك . فاشتمل ايمانهم على كلّ وحي أُنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة ايماناً زالَ معه ما كانوا عليه من أنّه : لا يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارىٰ ، وأن النار لن تمسّهم إلاّ أياماً معدودات ، ومن اختلافهم في نعيم الجنّة كالتلّذذ بالمطاعم والمناكح ؛ أهو على حسب مجراها في الدنيا أم غيره ، واختلافهم في الدوام والانقطاع . فعلى هذا ، إما أن تكون هذه الجملة معطوفة على : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } فيكون هؤلاء داخلين مع المذكورين أولاً في جملة المتقين ، دخول أخصَّين متقابلين تحت أعمّ ، وجهة التباين أنّ المراد بأولئك هم الذين آمنوا عقيب شرك وإنكار ، وبهؤلاء مقابلوهم ممّن ليس كذلك ، وكانت الآيتان تفصيلاً للمتّقين . وإما أن تكون معطوفة على المتّقين ، فكأنّه قال : هدىً للمتّقين عن الشرك ، وللّذين آمنوا من أهل الملل . والطائفتان هما أهل التزكية وأهل التحلية . وربما قيل : إن قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وإن كان شاملاً لأهل الكتاب وغيرهم ، إلا انّ دلالة العامّ على بعض ما دخل تحته ، ليس في القوّة كدلالة لفظ مخصوص به ، إذ العامّ ممّا يحتمل التخصيص بما سوى هذا البعض ، والخاصّ لا يحتمل ذلك ، ولمّا كانت السورة مدنيّة وقد شرّف الله المسلمين بقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ذكر بعد ذلك مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ونُظرائه في العلم واليقين بقوله : { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } - الى آخره - لأنّ في هذا التخصيص بالذكْر مزيد تشريف لهم ، كما في ذكر جبرائيل وميكائيل بعد الملائكة ، وترغيب لأمثالهم في الدين القويم والصراط المستقيم ، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاصّ بعد ذلك العامّ . فصل المراد { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } ، صورةُ ألفاظ القرآن السمعيَّة بأسرها ، نزولاً سمعيّاً في عالَم الأشخاص والأجسام الغائبة عنّا ، وصورة معانيها العقليّة عن آخرها ، نزولاً قلبيّا في عالّم الأرواح القدسيّة ، وإنّما عبَّر عن إنزالها بلفظ الماضي ، وإن كان بعضها ممّا يترقّب إنزاله ؛ لأنّ الأشياء المتجدّدة في موطن الدنيا ، المتعاقبة في أزمنة كثيرة منها ، إنّما هي مجتمعة ثابتة في المواطن العالية في زمان واحد دفعة واحدة ، كما أشار اليه قوله تعالى : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] . وقوله : { لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } [ القدر : 3 - 4 ] . وقيل : لأنّ القرآن شيء واحد في الحكم ، ولأنّ المؤمن ببعضه مؤمن بكله . وقيل : هذا من باب التغليب للموجود على ما لم يوجَد ، والتنزيل للمنتظَر المتوقَّع وقوعه منزلة الواقع كما في قوله تعالى : { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } [ الأحقاف : 30 ] ، إذ الجنُّ لم يسمعوا جميعَ القرآن ، ولم يكن الكتاب منزَلاً حينئذ كلّه . والمراد بما { أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } : سائر الكتب السماويّة السابقة ، والايمان بها جميعاً على الجملة فرضُ عينٍ ، لعدم تحقّق الفلاح بدونه كما يستفاد من قوله : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 5 ] . وأمّا الإيمان التفصيلي بالمعارف الإلٰهيّة المذكورة فيها ، التي لا تتبدّل بتعاقُب الزمانِ من علم التوحيد وعلمِ الملائكة وعلمِ المعاد وعلمِ النفس وعلمِ النبوّة والولاية والآيات وغيرها ، فليس بواجبٍ على كل أحدٍ فرض عين ، وإلاّ للزم الحرَج وبطَل النظام وتشوّش أمر المعاش المتوقّف عليه أمر المعاد . بل هو واجب على الكفاية ، وعلى من هو ميسَّر له وخُلق لأجله ، وكذا العلم والإيمان بأحكام الأول دون الثاني تفصيلاً من جهة كوننا متعبّدين بتفاصيل أحكامه فرض على الكفاية لا غير لما ذكرنا . فصل في كيفية إنزال الوحي على الأنبياء ( عليهم السلام ) كما يجب علينا الإيمان بالكتبِ الإلٰهيّة المنَزلة على الأنبياء ( عليهم السلام ) ، فكذلك يجب على المؤمن ايماناً حقيقيّاً بما أُنزل إليهم من حيث كونه منَزلاً إليهم ، أن يعلم كيفيّة الإنزال والإيحاءِ ، وكيفيّة إرسال الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وفي ذمّة العالِم بتأويل القرآن ، أن يحاول هذا العلم ويتعاطاه ، فمن الدائر على ألسِنَة جماعة من المفسّرين وغيرهم من المتكلّمين ، انّ المراد من إنزال الوحي انّ جبرائيل ( عليه السلام ) سمع في السماء كلام الله تعالى ، فنزَل به على الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، وهذا كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القصر . والرسالة لا تنزل ، ولكن المستمع سمع الرسالةَ في علوّ فينزل بها ويؤدّيها في سفل . وقول الأمير لا يفارق ذاته ، ولكن السامع يسمعه ويؤدّي بلفظ نفسه . وربما استشكل بعضهم هذا - أي سماع جبرائيل كلامَ الله - سيّما القائل بأنّ كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف ، فأجابوا عنه : أمّا المعتزلةُ : فبأنّه يخلق الله أصواتاً وحروفاً على لسان جبرائيل . وهذا معنى الكلام عندهم . وأمّا الأشاعرة فتارةً بأنّه يحتمل أن يخلق الله له سماعاً لكلامه ، ثمّ أقدَرة على عبارة يعبِّر بها عن ذلك الكلام ، وتارةً بأنّه يجوز أن يخلق الله في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص ، فقرأ جبرائيلُ ( عليه السلام ) فحَفِظه ، وتارةً بتجويز أن يَخلق أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فتلقّفه جبرائيل ، ويخلق له علْماً ضروريّاً بأنّه هو العبارة المؤدّية لمعنى ذلك الكلام القديم ، هذا خلاصة ما ذكروه في هذا المقام . وطائفة استدلّوا على كونِ الملائكة أجساماً متحيّزة ؛ بأنّ وصف القرآن بالنزول الذي لا يتّصف به إلاّ المتحيّز بالذات دون الأعراض ، وسيّما غير القارّ منها كالأصوات ، إنّما هو بتبعيّة محلّه ، سواء اخذ حروفاً ملفوظة ، أو معاني محفوظة ، وهو الملَك الذي يتلقّف الكلام من جانب الملِك العلاّم تلقّفاً سماعياً ، أو يتلقّى القرآن تلقّياً قلبيّاً ، أو يتحفّظه من اللوح المحفوظ ثمّ ينزل به على الرسول ، ولا يتمشّىٰ ذلك إلاّ بالقول بتجسّم الملائكة ، وهذا هو مسلك أرباب الجدَل والتخييل ، دون أصحاب البصيرة والتحصيل . وأما على مسلك هؤلاء وممشاهم من القول بما هو صريح الحقّ وما عليه كافّة الحكماء الإلٰهيّين ، والربّانيون من الإسلاميّين ، وهو انّ الملائكة - كما مرّ - تطلق على قبائل علويّات وسفليّات ، سماويّات وأرضيّات ، قدسيّات وجسمانيّات ، وفي القبائل شعوب بطبقات كالقُوى المنطبعة والطبائع الجوهريّة ، والنفوس المفارقة ، وأرباب الأنواع والصور المفارقة ، والعقول القادسة بطبقات أنواعها . ومنها روح القدس النازل بالوحي النافث في أرواع اولي القوّة القدسيّة بإذن الله وغير ذلك ممّا لا يَعلم أعدادَها ولا أنواعها إلاّ الله كما قال : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] . وقال ( صلّى الله عليه وآله ) : " اطّت السماء وحقّ لها أن تئِط . ما فيها موضعُ قدمٍ إلاّ وفيه مَلَك ساجد أو راكع " . فالأمر غير مشتبه على الناهج منهجهم ، والماشي ممشاهم ، وقد مرّ منّا القول بأنّ كلام الله ليس مقصوراً على ما هو من قبيل الأصوات أو الحروف ، ولا على ما هو من قبيل الأعراض مطلقاً ألفاظاً كانت أو معاني ، بل كلامه ومتكلّميّته ، يرجع الى ضرب من قدرتِه وقادريّته ، وله في كل عالَم من العوالِم العلويّة والسفليّة صورة مخصوصة . وطائفة أخرى اقتصروا على القول بالتلاقي الروحاني والظهور العقلاني بين النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) والملَكِ الحامل للوحي ، فسمّوا ظهورَه العقلاني لنفوس الأنبياء ( عليهم السلام ) نزولاً ، تشبيهاً للهبوط العقليِّ بالنزول الحسّي ، وللاعتلاق الروحاني بالاتّصال المكاني ، فيكون قولنا : نزَل الملكُ ، استعارة تبعيّة ، وقولنا : نزل الفرقان ، مجازاً بتبعيّة تلك الاستعارة التبعيّة . وهذا ممّا فيه إسراف في فحوله التنزيه ، كما في القول الأول في انوثة التشبيه ، وإن في كِلا القولّين زَيغاً عن طريق الصواب ، وحيداً عمّا فيه هدى لأولي البصائر والألباب ، وشقاً لعصا الأمة لِفرَقها المتفرَقة وأحاديثها النبويّة المتواترة ، وخرْقاً للقوانين العقليّة المنضبطة ، فالأمّة مطبقة على أن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، كان يرى جبرائيل وملائكة الله المقرّبين ( عليهم السلام ) ، ببصره الجسماني ، ويسمع كلام الله الكريم على لسانهم القدسي ، بسمعه الجسدانيّ الشخصي . والبرهان العقلي قائم بالقسط ، على أنّ مناطَ الرؤية والسماع الحسيّين في الإنسان ، وجودُ الصورة البصريّة ، كالألوان والأشكال وغيرهما ، والصورة المسموعة كالأصوات والحروف والكلمات عند النفس بقوّتها الباطنة المدركة للجزئيات الصوريّة ، ومثولها بين يدي الحسّ الباطن لها ، الذي هو مجمع الحواسّ الظاهرة ، وإنّما المبصَر بالحقيقة والمسموع بالحقيقة من الشيء الماثل بين يدي الحسّ الظاهر ؛ هو صورته الحاضرة في ساحة النفس النطاقة وصقع ملكوتها . وأمّا وجود ذي الصورة بهويّته الخارجيّة ومادّته الوضعيّة ، فهو مدرَك بالعرَض وبالقصد الثاني ، وليس المثول الخارجي للمبصَر المادي بنسبته الوضعيّة الماديّة بالقايس الى الآلة الجسمانيّة الداثِرة وجليدتيها اللتين هما مسلكا التأدية ، وليستا لوحي الانطباع ، من الشرائط الضروية للإبصار ، الذي هو قيام الصورة المبصَرَة في حضرة النفس ، بل ذلك طريقُ واحد من طرق الحصول للصورة والمثول الإنكشافيّ النوريّ لها عند النفس ، ما دام كونها في هذه النشأة الداثرة وعظيمة التعلّق بها وتمكن حصولها بطريق آخر للنفس ، كما في النوم ، حيث لا يكون وجودُ الصورة في مادّتها المخصوصة شرطاً لانكشافها وحضورها للنفس ، وعلى هذا القياس شاكلةُ السمع أيضاً . ومبدأ حضور الصورة مطلقاً ، هو واهب الصوَر ، والإفاضة من تلقائه . وللنفس في ذاتها سمعاً وبصراً وشمّاً وذوقاً ولَمْساً وإن انسلخت عنها هذه الآلات العنصريّة الداثرة البائدة ، وإنّما الحاجة لها الى هذه الداثرات ، ما دام كونها الناقص الدنيوي ، وعدم خروج قواها وحواسّها الباطنيّة من القوّة الى الفعل . فعند خروجها من ظلمات هذه الحواسّ ، وغبار هذا العالَم الداثر ، وبروزها لله من زيارة هذه المقابر ، تشاهد المحسوسات بقوّتها المتخيّلة . ونحن قد أقمنا البرهان العرشيّ على جوهريّة القوّة الخياليّة وتجرّدها عن المادّة البدنيّة في الشواهد الربوبيّة عند البحث عن تحقيق المعاد الجسماني ، فمَن كانت نفسه واغلة الهمّة في الجنبة السافلة ، طفيفة الانجذاب الى الجنبة العالية ، قليلة التوجّه الى يمين الحقّ وعالَم القدس ، لم يكن لجوهر قلبه سبيلٌ الى مطالعة الصوَر الغيبيّة إلاّ من مسلك الحاسّة الظاهرة ، والاتّصال بالآلة البدنية ، وحضور المادّة الخارجيّة . فأمّا إذا كانت نفسُه قويّة العزيمة ، مجموعة الهمّة ، قدسيّة الفطرة ، نقيّة الجوهر بحسب جِبلّتها المفطورة ، أو بحسب ملكتها المكسوبة ، وبالجملة ، شديدة الاستحقار لعالَم الحسّ ، قاهرة القوّة على تسخير القوى وضبطها ، ذات سلطنة على خلع البدن ورفْض الحواسّ الظاهرة ، والانصراف عنها الى صقع الملكوت بإذن ربّها ؛ فهو مستغنٍ بقوة نفسه المتخيّلة اللامنغمسة في قوى البدن عن استعمال الحواسّ الظاهرة . فله أن يتلّقى الصورة الجزئية من معادنها الأصلية من غير استعانة بهذه الآلات ، ويقتدر على تصوير المعاني بصوَرها المقداريّة في عالَم الصور الخالصة عن هذه الموادّ متىٰ شاء وحيث شاء . فمهما وجدت نفسُه فرصةً عن هذه الشواغل العارضة في اليقظة ، تخلص بقوّتها المتخيّلة عن جانب الطبيعة ، راجعة الى عالَمها ، متّصلة بأبيها المقدّس وهو روح القدس ، وبمَن شاء الله تعالى من الأرواح المقدّسة ، ويستفيد من هناك العلْم والحكمة بالانتقاش على سبيل الرشْح ، أو العكس ، كمرآة مجلوّة حْوذِيَ بها شطْر الشمس . ولكن حيث إنّ النفس تكون بعدُ في دار غربتها بالطبع ، ولم تنسلخ ولم ترتفع أذيالها بالكليّة عن علاقتها التدبيريّة لقواها البدنيّة وجنودها الحسّية ، أو انّها لم تتجرّد عن عالَم التمثّل بالكليّة وإن تجرّدت عن عالَم المادّة بالكليّة ، فيكون منالها فيما تناله بحسب ذلك الشأن وتلك الدرجة ، تحوّل الملك الحامل للوحي على صورة متمثّلة في شبح شخص بشريّ ناطق بكلمات إلٰهية منظومة مسموعة ، كما قال تعالى : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] يعني بذلك ارتسام الصورة عنده لا في لوح بنطاسياه - كما زعمه الظاهريّون من الحكماء ممن لا تحقيق له في علم النبوات - ، ولا من سبيل الظاهر والأخذ عن مادة خارجيّة ، بل بالانحدار إليه من العالم الأعلى ، والنزول اليه من جانب اليمين وصقع الإفاضة . فإنّ الشأن في السماع والإبصار المشهورين انّه ترتفع صورة المسموع والمبصَر من الموادّ الخارجيّة الى لوح الانطباع ، ثمّ منه الى عالَم الخيال والمتخيّلة . ثمّ يصعد الأمر الى النفس الناطقة ، كما هو المعروف عند الجمهور ، والمثبَت منهم في الكتب . وعندنا : النفس ترتفع من المحسوس الى المتخيّل ، ومنه الى المعقول ، والصور ثابتة في أحيازها وعوالمها . وفي إبصار المَلَك وسماعِ الوحي - وهما الإبصار والسماع الصريحان - ينعكس الشأن ، فينزل الفيض من عالَم الأمر الى النفْس ، فهي تطالع شيئاً من الملكوت مجرّدة غير مستصحبة لقوّة حسّية أو خياليّة أو وهميّة . ثمّ يفيض من النفس الى القوّة الخياليّة فتمثّل لها الصورة بما انضمّ اليها من الكلام في الخيال من معدن الإفاضة وصقْع الرحمة ، ثمّ تنحدر الصورة المتمثّلة والعبارة المنظومة من الخيال والمتخيّلة الى الحسّ الشاهد ، بل النفْس تنزل من العالَم الأعلى الى الأوسط ، ثمّ الى الأدنى ، فتشاهد في كل عالَم ما يتعارف لها ويناسبها على عكس الحالة الأولى ، لأنّ تلك الحركة عُروجيّة وهذه نزوليّة ، فتسمع الكلام وتبصر الصورة في كلّ عالَم من العوالم الثلاثة . وهذا أفضل ضروب الوحي والإيحاء ، وله أنحاء مختلفة ومراتب متفاضلة بحسب درجات النفس . وقد يكون في بعض الدرجات لا يتخصّص المسموع والمبصر بجهة من جهات العالَم بخصوصها ، بل الأمر يعمّ الجهات بأسرها في حالة واحدة ، وقد يكون بخلاف ذلك . وفي الحديث : " إنّ الحارث بن هاشم سأل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : كيف يأتيك الوحي ؟ قال : أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرَس ، وهو أشدّ عليَّ ، فيفصم عنّي وقد وعيتُ عنه ما قال . وأحياناً يمثّل لي المَلَك رجلاً فيكلّمني ، فأعِي بالقول " . وربما تكون صقالة النفس النبويّة أتم ، وتجرّدها في بعض الأحايين أقوىٰ ، وسلطانها على قهر الصوارف الجسدانيّة والشواغل الهيولانيّة أعظم ، فيكون عند الانصراف عن عالم الحسّ والاتّصال بروح القدس ، استيناسها بجوهر ذاته المجرّدة ، أشدّ منه بالشبح المتمثّل ، فتشاهد ببصر ذاتها العاقلة الصائرة عقلاً بالفعل ، معلّمَها القدسي ومخرجَها من حدّ القوّة النفسانيّةِ الهيولانية الى حدّ الكمال العلمي والعقل الصوري ، وتستفيد منه وهو في صورة القدسيّة ، العلومَ والأحوالَ ، كما قال تعالى : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } [ النجم : 5 - 8 ] . وربما وصل النبي ( صلّى الله عليه وآله ) الى مقامٍ أعلى من أن تتوسّط بينه وبين المبدأ الأول والمُفيض على الكلّ واسطة ، فسمع كلام الله بلا واسطة ، كما قال تعالى : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 8 - 10 ] . وقد ذُكر انّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) إنّما رأى جبرائيل ( عليه السلام ) بصورته الحقيقيّة مرّتين وكان بحيث طبّق الخافقَين . والى مثل هذه الرؤية له ( عليه السلام ) أشار تعالى بقوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } [ النجم : 13 - 14 ] . ثمّ دون هذا الضرب بسائر درجاته ، مما يتّفق لمن له من القوّة القدسيّة نصيبٌ أن يرى ملائكة الله ، ويسمع كلامَ الله ، ولكن في النوم لا في اليقظة ، وسبيل القول أيضاً انّ الأمر ها هنا ينتهي الى القوّة المتخيّلة ، ويقف عندها بمحاكاتها وتفصيلها وترتيبها لما قد طالعتْه النفس من عالَم الملكوت ، من دون أن تتمثّل الصورة بألفاظها المعبّرة بين يدي الحس ، وذلك لضعْف القوّة الخياليّة ، أو لقوّة العائق وكثافة المادّة ، فإنّ القوة الخياليّة عندنا تفعَل فِعلَ الحواسّ الظاهرة كلّها عندما تكون قويّة والعائقُ البدنيِّ ضعيفاً ، فلها أن تعزل الحواسّ عن أفاعيلها . وبهذا يتحقّق الفرقُ بين مطالعة الأنبياء ( عليهم السلام ) للصوَر الباطنة ، وبين مطالعة غيرهم إيّاها كالأولياء والحكماءِ . فالرؤيا الصالحة لنفوس العرفاء والصالحين ، إنّما هي واقعة في هذا الطريق غير واصلة الى درجة النبوّة وبلوغ الغاية ، ولهذا ورَد في الحديث انّها جزءٌ من ستّة وأربعين جزءاً ، أو من خمسة وأربعين ، أو من سبعين جزءاً - على اختلاف الروايات - . وقُصارى مرتبة الرؤيا وأقصاها كمالاً ما وقع للمحدَّثين - بفتح الدال المشدّدة وهم الذين يرفضون عالَمَ الشهادة ، ويصعدون الى عالَم الغيب ، فربما يسمعون الصوت في اليقظة من سبيل الباطن ، ولكنّهم لا يعاينون شخصاً متشبّحاً كما مرّ ذكره في المفاتيح الغيبيّة . وفي كتاب الحجّة من كتب الكليني رحمه الله باب في الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدَّث ، والأئمة ( عليهم السلام ) كلّهم محدَّثون مفهمون . فصل مشرقي متعلق بقوله : { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } إعلم انّ اليقين هو العلم بالشيء بعد أن يكون صاحبُه شاكاً فيه ، ولذلك لا يقول القائل : تيقّنت انّ السماء فوق الأرض ، وانّ الكلّ أعظم من الجزء ، فيقال ذلك في العلْم الحادث والمكتسَب ، وستعلم أنّ العلْم بالآخرة وما فيها ، لا يحصل الا من جهة العلْم بما في الدنيا . ثمّ إنّه تعالى مدحَهم على كونهم متيقّنين بالآخرة ، ومعلوم أن مجرّد الإيقان بها لأحدٍ لا يوجب استحقاق التمدّح ، بل لا يستحقّ المدح إلا من تيقّن بوجود الآخرة مع ما فيها من الحشْر والنشْر والحساب والميزان والجنّة والنار ، وما فيهما من نعيم السُّعداء وجحيم الأشقياء . وروي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال : " يا عجباً كل العجب من الشاكّ في الله وهو قد يرى خلقَه . وعجباً ممن يعرف النشأةَ الأولى ويُنكر النشأةَ الآخرة . وعجباً ممّن يُنكر البعثَ والنشور وهو كل يوم وليلة يموتُ ويحيا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممّن يؤمنُ بالجنّة وما فيها من النعيم ويسعى لدار الغرور ، وعجباً للمتكبّر الفَخور وهو يعلم أنّ أوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة " . وإنّما قال صلّى الله عليه وآله : عجباً ممن يعرف النشأة الأولى ويُنكر النشأة الآخرة ، لأنهما متضايفتان ، والمتضايفتان معانِ في التعقّل . فمن أنكر الآخرة فكأنه لم يعرف الدنيا بحسب التعقّل بل بالحس فقط . وتحقيق هذا المقام : أنّ الآخرة صفة للنشأة أو الدار ، وإنّما وُصفت بها لأنّها متأخّرةٌ عن النشأة الأولى والدار الدنيا . وإنما سمّيت الدنيا بالدنيا ، لأنّها أدنى من الآخرة بالقياس إلينا لا بحسب الترتيب الوجودي ، فإنّ هذه الدار آخر العوالِم والنشآت طبعاً وشرفاً ، لأنّ موجوداتها آخر الموجودات وأبعدها في سلسلة الاستناد الى المبدإ الأول وبارىء الكلّ ، والإنسان في مبدإ كونه وحدوثه هو من جملة الموجودات الواقعة في هذه الدار ، لأنّه في أول الوجود من حزب الحيوانات ، ونشأة الحيوان - بما هو حيوان - نشأة الحسّ والمحسوس ، ولهذا حد بأنّه جوهر ذو بُعد حسّاس . والحسّاس تمام حقيقته ، وكمالُ أول لجنسه به يتمّ نوعه ويكمل جنسه . فما من حيوان إلاّ وله قوّة الحسّ ، أي حسٍ كان ، وإن كان مجرد قوّة اللمس ، وهذا أنزلُ مراتب الحيوانات كالدُّود والخراطين ، وآخر مراتب الحيوانيّة يتحقّق فيما له الحواسّ الظاهرة والباطنة جميعاً ، فإن كان مع ذلك يستعدُّ لإدراك المعقولات بالقوّةِ فهو الواقع في آخر الدرجات الحيوانيّة وأول النشآت الإنسانية ومنازِله ، فأول منزلٍ من منازل الإنسان الذي يشارك معه سائر الحيوان ، هو نشأةُ الحسِّ ، ويقال لها : الدنيا ، وعالَم الشهادة ، وتقابله الآخرة وعالم الغيب ، وهذا العالَم هو منزل الأبدان والقوالب الحسيّة ، والآخرة منزل النفوس ، وبعدها منزل الأرواح القدسية . وللإنسان أن ينتقل من منزل الى منزل ، فالمحسوسات منزله الأول ، والمتخيَّلات منزله الثاني ، والمعقولات منزله الثالث ، وهذا الانتقال هو بعينه من قبيل الانتقالات الفكريّة الواقعة له من المحسوس الى المتخيّل ، ومنه الى المعقول . فالدنيا نشأة الحسّ وعالَم الشهادة ، والإنسان ما دام كونه في هذه النشأة بحسب الطبع ، غير مرتقٍ الى ما وراءَها ، فهو بعدُ من جملة البهائم والدوابّ والأنعام ، وإذا انتقل الى نيل المتخيّلات والوهميّات مقتصراً عليهما ، فهو من قبيل الجنّ ، إذ الجنّ والشياطين إدراكاتها مقصورة على المتخيّلات والموهومات ، وليس يفتح لهم بابُ الملكوت الأعلى . وبعد هذا المنزل يترقّى الإنسان الى إدراك الأمور التي لا تدخل في حسّ ولا تخيّل ولا وهمٌ ، فيشاهد الأمور المستقبلة الدائمة ، ويكشاف الصوَر العقليّة ، ويتهيّأ لادراك الحقائق الاخرويّة والسرور الأبدي ، ويصل الى السعادة القصوى التي ليس وراءها سعادة ، وهذا هو آخر درجات الإنسان ، وبه يتمّ حقيقة الإنسانيّة ، لأنّ تمام حقيقته هي الروح المنسوبة الى الله تعالى في قوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] . وإذا علمتَ هذه المقدّمات ، فاعلم أنّ الإيقان بالآخرة الذي مدح الله به طائفة من العرفاء والمحقّقين من أهل الإيمان ، المهتدين بنور الله ؛ هو مكاشفة أحوال الآخرة ومشاهدة الأرواح المجرّدة عن غشاوة هذه القوالب بواسطة انفتاح باب الملكوت على روزنة القلوب ، وأعني بهذه الأرواح ؛ الحقائق المحضة والصوَر المجردة عن كسوة التلبيس وغشاوة الأشكال . وهذا العالَم لا نهاية له ، بخلاف عوالم المحسوسات والمتخيّلات ، فإنّها متناهية ، وأكثر الناس إدراكُهم مقصور على عالَم الحسّ والتخيّل من الطبيعيات والمقداريّات ، ولم يؤمنوا بما وراء المحسوس والمتخيَّل ، ولم يعلموا علمَ ما قبل الطبيعة ، ولم يذعنوا بها كما قال تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وهذان المنزلان هما النتيجة الأخيرة من نتائج عالَم الملكوت ، سيّما عالَم المحسوس ، فإنّه القشر الأقصى من اللباب الأصفى ، ومن لم يجاوز هذه الدرجة ، فكأنه لم يشاهد من مراتب الجوز إلا قشرته ، ومن عجائب الإنسان إلاّ بشرته . ومقام كلّ أحد ومحلّه ومنزله ومعاده في العلو والسفل ، بقدر إدراكه ، وهو معنى قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " الناسُ أبناء ما يُحسنون " أي يعلمون وبه يعملون . فالإنسان بين أن يكون بهيمةً أو جنيّاً أو ملكاً ؛ وللملائكة درجات ، فالسير في عالَم الملكوت - وفيه منبع الحياة الأبدية - مثاله المشي على الماء ، ثمّ يترقّى منه الى المشي في الهواء ، ولذلك لمّا قيل لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : إن عيس ( عليه السلام ) كان يمشي على الماء ، قال : لو ازداد يقيناً لمشى في الهواء . وأمّا التردّد على المحسوسات ، فهو كالمشي على الأرض ؛ وبينها وبين الماء - أي عالم الملكوت - عالمٌ يجري مجرى السفينة ، والمَعبر من عالَم الملك الى عالَم الملكوت الأعلى ، وفيها تتولّد درجات الجنّ والشياطين . فمتى تجاوزَ الإنسانُ عالَم البهائم ، ينتهي الى عالَم الجنّ والشياطين ، ومنه يسافر الى عالم الملائكة ، وقد ينزل فيه ويسعى ، وشرح ذلك يطول . وهذه العوالم كلّها منازل للهدى ، ولكن الهدى المنسوب الى الله يوجد في العالم الأخير ، وهو عالَم الأرواح ، وهو قوله : { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } [ آل عمران : 73 ] .