Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 5-5)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولهذا قد وصف تعالى اولئك الموقنين بالآخرة على طريقة المدح بقوله عز وجل : { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } معنى هذا الاستعلاء ، بيان لتمكّنهم من الهُدى واستقرارهم عليه تشبيهاً بحال من اعتلى الشيء وركبه ، واستعارة لِعلَى الموضوعةُ للثاني للأول ، ونظيره : فلانٌ على الحقّ وفلانٌ على الباطل . وربما وقع التصريحُ به كما في قولهم : ركِب على متْن الجهل وجعلَ الغوايّة مركَباً والجهلَ مطيّةً . وامتطى الباطلَ . وتحقيق القول في كونهم على الهُدى تكرّر الإدراكات للأُمور العقليّة ، وتكثّر الاشتغال بملاحظة الأشياء الملكوتيّة ، والمواظبة على الأفكار الصحيحة ، ودفْع الشكوك والشبهات عن المقاصد الحقّة ، وطرد شياطين الأوهام والخيالات بنور المعرفة واليقين ، حتّى تحصل للنفس ملكة الاتّصال بعالَم الملكوت متى شاءت من غير تجشّم وكثير تعمّل . فكأنّه تعالى ، لمّا مدحَهم بالإيمان بما أُنزل على الأنبياء ( عليهم السلام ) ، والاطّلاع على ما في الصُّحف النازلة من السماء ، مدحَهم بالإقامة على ذلك وإدامة النظَر فيها ، والمواظبة على حراستها عن شُبه الضالّين ، وأوهام المعطّلين وذلك واجبٌ على كلّ عاقل إذا كان متشدداً في الدين ، خائفاً وجِلاً محاسِباً نفسَه في علمه وعمله بمقتضى البراهين ، وإذا حرسَ نفسه عن الزيغ والضلال ، وداومَ على العمل للآخرة من غير إخلال ، كان ممدوحاً بكونه على هدى وعلى بصيرة . وتنكير " هُدىً " ، للدلالة على ضربٍ مبهمٍ لا يُبلغ كنهُه ولا يُعلم غورُه ولا يُعرف قدْرُه قال بعض الأكابر : الهدى من الله كثيرٌ لا يبصره إلا بصير ، ولا يُعمل به إلاّ يسير ألا ترى انّ نجوم السماء يبصرها كلّ بصير ولا يهتدي بها إلاّ عالِم خبير . واعلم أنّ الوجه في انتظام هذه الآية وتعلّقها بما قبلها ، انّ الجملة في محلّ الرفع بالخبَرية ، إذا جُعل أحدُ الموصولين مفصولاً عن " المتّقين " ، فوقع الابتداء إما بـ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، أو بالذين الثاني مع صلته ، وذلك لأنه لمّا قيل : { هُدىً لِلْمتّقين } ، فكأنه سُئل : ما بالُهم خُصّوا بذلك ؟ فوقع الجواب بقوله : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } ، الى قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ، معناه أنّ الموصوفين بهذه الصفات أحقّاء بأن يكونوا مختصّين بالهُدى والفوز على الفلاح . ويحتمل الاستيناف ، فلا يكون لها محلٌّ من الإعراب . فكأنه نتيجة للأوصاف والأحكام المتقدّمة ، أو جواب عن سؤال كأنه قيل : ما بال الموصوفين بهذه الصفات اختصّوا بالهدى ؟ فاجيب بأنّ مثلَهم حقيق دون غيرهم بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً . وايراد اسم الإشارة في هذا المقام ابلغ من أن يستأنف بإعادة الإسم وحده ، لأنّ ذلك بمنزلة إعادة الموصوف بجميع صفاته المذكورة ، فكان فيه ذكْر المقتضي للحكم بخلاف هذا . وفي تكريره تنبيه على أنّ اتّصافَهم بالصفات المذكورة ، يقتضي كل واحد من الأمرين : الهدى والفلاح ، على سبيل الاستقلال ، وأن كلاً منهما كاف في تمّيزهم عن غيرهم . وتوسيط العاطفة ها هنا وعدم توسيطها في قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] لاختلاف الحكْمين ها هنا واتّحادهما هناك ، فإنّ التسجيل عليهم بالبهيمية وبالغفلة شيء واحد ، فكانت الجملة الثانية مقررة للاولى ، فهي من العطف بمعزل . و " هم " إمّا فصلٌ ، وله فائدتان : تمييز الخبر عن الصفة وتخصيص المسند بالمسند إليه ، أو مبتدأ و " المفلحون " خبرُه ، والجملة خبر " اولئك " . ومعنى التعريف في " المفلحون " الدلالة على أنّ المتّقين الموصوفين بتلك الصفات ، هم الذين بلغك انّهم من اهل الفلاح ، والمفلح هو الظافرُ بالمطلوب ، كأنه الذي انفتحت له وجوهُ الظفَر ، وكذا المُفلح - بالجيم - وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين دالٌّ على معنى الفتح والشقّ ، نحو فلق وفلد وفلىٰ ، ولهذا يسمى الزارعُ فلاّحاً ، ومشقوقُ الشفة السفلى أفلَح . وفي المثل : الحديد بالحديد يفلح . مبحث كلامي [ الجواب عن احتجاج الوعيدية والمرجئة ] احتجّت كلّ واحدة من الفرقتين الوعيديّة والمرجئة بهذه الآية على حقّية مذهبها : أما الوعيديّة فبأن الحَصرَ المستفاد من { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ، وتعليق الحكم على الوصف السابق المشعر بكونه علّة ، كلٌّ منهما يدلّ على أن الإخلال بشيء من الإيمان والصلاة والزكاة يوجب عدم الفلاح ، وهو بعينه وعيد مرتكب الكبيرة كتارك الصلاة والزكاة وإن تحقّق فيه أصل الإيمان . وأما المرجئة ، فبأنّه بمقتضى الآية ، وجَب أن يكونَ الموصوف بهذه الصفات ، مفلِحاً وإن زنىٰ وسرقَ ، وإذا تحقّق الفلاح في هذه البعض ، تحقّق في غيرهم ضرورةً إذ لا قائلَ بالفرق . والجواب عنهما : أولاً : بالمعارضة على كل منهما بالآخر فيتساقطان . ثمّ عن حجة الوعيديّة : بأنّ المراد من قوله تعالى : { أولئِكَ هُمْ المفْلِحُون } أنّهم الكاملون في الفلاح ، فيلزم أن يكون غيرهم - كصاحب الكبيرة - غير كامل في الفلاح ، ونحن قائلون بموجبه ، إذ الفلاحُ التامّ ما لا يكون معه خوف العقاب الدائم ، وتجويز عدم الخلاص ، وبأن نفي السبب الواحد لا يوجب نفي المعلول إذا كان له سببٌ آخر ، وعندنا عن أسباب الفلاح عفوُ الله . وعن حجّة المرجئة : بأنّ وصفهم بالتقوى والإيمان الكامل ، يكفي سبباً للفلاح وحصول الثواب ، لتضمّنه انتفاء المعاصي وانتفاء ترك الواجبات . تحقيق عرشي [ هل توجب الكبيرة الخلود في النار ] ؟ اعلم أنّ سبب خلود أهل النار في النار وحرمانهم من النجاة ، هو المَلَكة الراسخة للنفْس بواسطة الأفاعيل الموجبة لحصول ما هو فيها ، بمنزلة الطبع والرَّيْن في المرآة المقتضي لعدم قبولها للتصقيل والتصفية ، سواء كان منشأها الكفر والجحود ، أو المعاصي والسّيئات . فإنّ النفسَ الإنسانيّة في الفطرة الأولى ، قابلة لقبول آثار الملائكة ، وآثار الشيطانيّة ، وآثار البهائم والسباع قبولاً متساوياً ، وإنّما يقع المنع لها عن قبول بعض تلك الآثار بواسطة حصول بعض آخر لها ، ومتى اشتدّ حصول البعض فيها بحيث صار ملكةً راسخةً فيها ، منع بالكليّة عن قبول آثار الغير ، فمتى رسخت للقلب صفاتُ البهيميّة أو السبعيّة أو الشيطانيّة ، بحيث أنّها صارت مَلَكة كالطبع والرَين لمرآة القلب ، فكدّرتها وظلّمتها ، صارت مانعة له عن قبول صورة الرحمة الرحَموتيّة والهيئة الملكوتيّة منعاً كلياً أبديّاً ، لكون المانع هناك صفة ذاتيّة جوهريّة ، كما حقّق في مجال أوسع من هذا المجال . وقد مرّت الإشارة الى أن الإنسان في أول أمره ، بين أن يكون بهيمة أو سَبُعاً أو شيطاناً أو مَلَكاً ، وفي الآخرة لا يكون إلاّ أحد هذه الأمور لأجل غلبة بعض الصفات المختصّة به على قلبه من جهة تكرّر أفاعيل تناسبها ، والى نحو هذا المعنى أُشير في قوله : { وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [ التوبة : 87 ] وقوله : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] . فإذا تقرّر هذا ، قربَّ كبيرةٍ من المعاصي يوجب تكرّرُ فعلها عن النفس خلودَها في النار لضعف الإيمان وقوّة العائق عن الخلاص ، وربَّ كبيرةٍ لا تكون كذلك لقوّة الإيمان وضعف العائق فيحتمل العفو عنها ، والله أعلم بأحوال قلوب العباد . فعلى هذا لا تناقُضَ بين الآيات الدالّة على ثبوت الوعيد من الله على صاحب الكبيرة ، والآيات الدالّة على ثبوت العفو عمّن يشاء ، وسنزيد لهذا وضوحاً في موضع آخر إنشاء الله تعالى .