Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 55-56)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا هو الإنعام السادس عليهم من جهة مكافأتهم على ما قالوا في الدنيا بالصاعقة ثمّ إحيائهم بعد الموت ليتوبوا . ولأهل التفسير في هذه القضيّة قولان : الأوّل : إنّ هذه القضيّة كانت واقعة بعد أن كلَّف الله عبَدَة العِجل بالقتل . قال محمد بن إسحاق : لمّا رجع موسى ( عليه السلام ) من الطور إلى قومه ورأى ما هم فيه من عبادة العِجل وقال لأخيه والسامري ما قال ، وحرَق العِجل وألقاه في البحر ، اختار من قومه سبعين رجُلاً ، فلمّا خرجوا إلى الطور قالوا لموسى ( عليه السلام ) : " سلْ ربَّك حتى يسمعنا كلامَه " . فسأل موسى ( عليه السلام ) ذلك فأجابه الله إليه ، فلمّا دنَا إلى الجبَل وقع عليه عمودٌ من الغمام وتغشّى الجبل كلّه ذلك ، ودنا من موسى ذلك الغمام حتّى دخل فيه . فقال للقوم أُدخلوا وعُوا . وكان موسى ( عليه السلام ) متى كلَّمه ربُّه وقَع على جبهته نور ساطع ، لا يستطيع أحد منهم النظر إليه ، وسمعوا كلام الله مع موسى ( عليه السلام ) ، يقول له : " إفعل كذا ، ولا تفعل كذا " فلما تمّ الكلام انكشف عن موسى ( عليه السلام ) الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعاً وقام موسى ( عليه السلام ) رافعاً يديه إلى السماء يدعو ويقول : إلهي اخترتُ من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليَكونوا شهودي لقبول توبتهم ، فأرجعُ إليهم وليس معي واحد ، فما الذي يقولون فيَّ ؟ فلم يزل مشتغلاً بالدعاء حتى ردّ الله إليهم أرواحهم . فطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العِجل . فقال : " لا ، إلاّ أن يقتلوا أنفسهم " . القول الثاني : إنّ هذه الواقعة كانت بعد القتل . قال السدّي : ولمّا تاب بنو إسرائيل من عبادة العِجل بأن قتَلوا أنفسهم أمَر الله تعالى أن يأتيه موسى ( عليه السلام ) في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العِجل ، فاختار موسى سبعين رجُلاً ، فلمّا أتوا الطور قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } فأخذتهم الصاعقة وماتوا ، فقام موسى ( عليه السلام ) يبكي ويقول : " يا ربِّ ماذا أقول لبني إسرائيل ؟ فإنّي أمرتهم بالقتل ثمّ اخترت من بقيَّتهم هؤلاء ، فلمّا رجعت إليهم ولا يكون معي منهم أحد ماذا أقول لهم ؟ " فأوحى الله إلى موسى " إنّ هؤلاء السبعين ممّن اتَّخذوا العِجل إلهاً " . فقال موسى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } [ الأعراف : 55 ] إلى قوله : { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 56 ] . ثمّ إنّه تعالى أحياهم ، فقاموا ، ونظَر كلّ واحد منهم إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى ، قالوا : يا موسى إنّك لا تسأل الله شيئاً إلاّ أعطاك ، فادعه ليجعلَنا أنبياء . فدعا موسى ( عليه السلام ) بذلك . فأجاب الله بذلك . واعلم أنّ كل واحد من القولين محتملٌ ولا ترجيح لأحدهما على الآخر … قال صاحب الكبير : " وليس في الآية ما يدلّ على أنّ الذين سألوا الرؤية هم المتّخذوا العِجل إلهاً أو غيرهم " . أقول : وجدنا في الفسير المنسوب إلى مولانا حسن بن عليّ العسكريّ ( عليه السلام ) ما يدلّ على الثاني لأنّه فيه أنّ معنى قوله تعالى : { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي : " فليقتل بعضكم بعضاً . فقتل من لم يعبد العِجل من عبدَه " فظهَر أنّ المقتولين هم العابدون للعِجل . فالسائلون للرؤية غيرهم . وفي التفسير المذكور أيضاً : " إنّ القوم كانوا ستمائة ألف ، كلّهم قُتلوا إلاّ اثني عشر ألفاً ، وهم الذين لم يعبدوا العِجل " . وقوله : { جَهْرَةً } أي : عياناً . قال صاحب الكشّاف : " هي مصدر من قولك : " جهر بالقراءة وبالدعاء " كأنّ الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية ، والذي يرى بالقلب مخافت بها . وانتصابها على المصدريّة ، لأنّها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس . أو على الحال بمعنى " ذَوي جَهرة " وقرئ " جهَرة " - بفتح الهاء - وهي إما مصدر كـ " الغلبة " وإما جمع " جاهر " . وقال القفّال : أصل الجهرة من الظهور . يقال : " جهرتُ الشيء " إذا كشفته ، و " جهرتُ البئر " إذا كان ماؤها يغطى بالطين فنقّيته حتى ظهر الماء . ويقال : " صوت جَهير " و " رجُل جَهوري الصوت " إذا كان صوته عالياً . وإنّما قالوا { جَهْرَةً } لئلاّ يتوهّم أنّ المراد بالرؤية العلْم والتخيّل ، كما يراه النائم . وفي هذا المقام موضع أبحاث عقليّة : الأوّل : إنّ بعض المتكلّمين من أصحابنا الإماميّة - رضوان الله عليهم - وسائر المعتزلة استدلّوا بقوله تعالى : { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } على امتناع الرؤية عليه . تقريره : أنّها لو كانت جائزة فكانوا التمسوا أمراً مجوّزاً ، فوجب أن لا ينزل عليهم العذاب ، كما لم ينزل بهم العقوبة لمَّا التمسوا النقل من طعام إلى طعام . وقال بعضهم : ما ذكر الله سؤال الرؤية في كتابه إلاّ وقد استعظمه ، منها هذه الآية . ومنها قوله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] . ومنها قوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] . فالرؤية لو كانت جائزة لما كان سائله مستحقّاً للصاعقة ، ظالماً ومستكبراً في نفسه وعاتياً عتوّاً كبيراً . فدلّت الآيات على أنّ رؤية الله ممتنعة على عباده . ولقائل أن يقول : لا نسلّم دلالتها على امتناع الرؤية ، وليس كلّ عقوبة وجب أن يكون واردة على طلب أمر محال في ذاته ، فربما كان سبب العقوبة كونهم ادّعوا لنفسهم منصباً عالياً يستحيل حصوله لهم ؛ لانحطاط درجتهم عن استحقاقٍ لذلك غاية الانحطاط ، وإن كان الأمر في نفسه ممكناً . ولأنّه لمّا تمّت الدلائل الباهرة ، والمعجزات الجليّة على صدق المدعى ، كان طلب دليل آخر زائد تعنّتاً ولجاجاً ، والمتعنّت اللَّجوج يستوجب المقت والعذاب . ولأنّه يجوز أن يعلم الله في زجْر الخلق عن طلب الرؤية مصلحة مهمّة ، كما علم أنّ في إنزال الكتاب من السماء ، وإنزال الملائكة منها عليهم مفسدة عظيمة ، لا جرم زجرهم عن ذلك واستنكره ، ولغير ذلك من الوجوه . واستدلّ بعض المجوّزين للرؤية بأنّ الله قد أجرى إنزال الكتاب من السماء مجرى الرؤية في كون كلّ منهما عتوّاً ، فكما أنّ إنزال الكتاب أمرٌ ممكن في نفسه فكذا الرؤية . ومن هذا القبيل استدلال بعضهم على إمكانها بأنّ الله علّق رؤيته على استقرار الجبل في قوله : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] . من أنّ استقرار الجبل أمرٌ ممكن في نفسه ، والمتعلّق على الممكن ممكن ، فإنّ المحال لا علاقة له بشيء ، فتكون رؤية الله جائزة . والجواب : أنّ إنزال الكتاب على وجه اقترحوه أمرٌ محال لما حقّق في العلوم الحقيقية من كيفيّة نزول الكلام والكتاب ، وقد سبَق في المفاتيح ما يوضح ذلك لأهل البصيرة . وكذا نقول استقرار الجبل حين التجلّي أمر محال . وأمّا الذي أجاب به بعضهم " من أنّ الظاهر يقتضي كون كلّ واحد من نزول الكتاب والرؤية ممتنعاً ، لكن ترك العمل به في إنزال الكتاب ، فيبقى معمولاً به في الرؤية " ففي غاية السخافة كما لا يخفى ، لأنّه ما أقام دليلاً على أنّ الاستعظام لا يتحقّق إلاّ إذا كان المطلوب ممتنعاً ، وإنّما وقع التعويل على ضرب الأمثلة والمثال لا يقنع به في هذا الباب ، والعمل بالظاهر إنّما يصح - حيث يصح - في الأحكام الفرعيّة دون العقائد الأصليّة . البحث الثاني : إنّ الرؤية - على أيّ وجه كانت - هل هي ممكنة للعباد ؟ أم هي ممتنعة ؟ . اعلم أنّ أكثر الناس يتنازعون في مسألة لا يعرفون بعد موضوعها ولا محمولها ، فقبْل تحرير محل النزاع يخاصِم بعضُهم بعضاً ، ويكفّر بعضُهم بعضاً . وهذه المسألة من هذا القبيل ، فإنّ الواجب أوّلاً على كلّ مسلم أن يعرف ربَّه ويعرف نفسه ، ثمّ يتكلّم في هذا المقام . وهذان العِلْمان من العلوم الغامضة التي لا تتيسَّر إلاّ بجهد جَهيد ، وخوض شديد ، مع ذهنٍ صاف وصدر منشرح ، وقلب منوّر مشتعل في الصدر كالمصباح في القنديل . وأكثر الناس غِلاظ الطّبائع قساة القلوب . فإذا من حصل له علم بماهيّة نفسه وعرف ربَّه بصفاته اللائقة به من العلْم ، والقدْرة والإرادة ، والحياة ، وغير ذلك وعرف الصفات على وجه تصحّ نسبتها إلى الذات الإلهية ، وعِلم تنزيه الله عن النقائص والعيوب والتشبيهات : ثمّ علم معنى الرؤية إذا نسبت إلى الحقّ ، ومعنى الرؤية إذا نسبت إلى الخلْق ، فحينئذٍ لم يبق له مجالُ شكٍ ، ولا يسع لأحدٍ محل خصومة وخلاف في هذه المسألة . قال تعالى : { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } [ البقرة : 189 ] . والقوم ترَكوا وصيّة ربّهم ، واستدلّوا على هذا المطلب الشريف الشامخ الإلهي ، بالعمل بالظاهر من الوقائع ، والحكايات ، والأمثال المشهورة ، وهذا بعينه اتيان البيت من ظَهره وسَطحه . ولذلك علومهم وكمالاتهم دائماً ظاهريّة سطحيّة ، وهم المسمّون عند أهل المعرفة الحقّة بالظاهريّين وعلماء القشر . فإذا تقررت هذه المقدمات فنقول : رؤية الله تعالى إمّا أن يراد بها رؤيته بهذه الآلة المخصوصة ، أو بعين القلب . وكلّ منها إمّا أن يتعلّق بذاته تعالى من حيث ذاته أو بمظهر خاص من المظاهِر . فهذه أربعة أقسام بحسب الاحتمال العقلي قبل إقامة البرهان . أمّا الأوّل : وهو أنْ يرى الإنسان بهذه الباصرة الداثرة ذاتَه الأحديّة ، فلا شبهة لذي بضاعة علميّة في أنّ ذلك من الممتنعات ، لأنّ الإحساس بالشيء حالة وضعيّة للجوهر الحاسّ بالقياس إلى المحسوس الوضعي ، ففرْض ما لا وضْع له ولا جهة له محسوساً ، كفرض ما لا جهة له في جهة ، أو ما لا وضع له ذا وضع ، وهذا فرض أمرين متناقِضين ، فيكون المفروضُ - بل الفرضُ - محالاً . وأمّا الثاني : وهو أن يرى بهذا البصَر الجسماني مَظهراً من مظاهر ذاته ، ومَجلى ومثالاً للحق تعالى ، سواء علِم كونَه مثالاً ومظهراً له ، أو لم يعلم فهذا أمر جائز ، بل واقع ، لقوله ( صلّى الله عليه وآله ) : " مَن رَآني فقد رَأى الحقّ " وقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] . وقوله : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] . وأمّا معنى كون الشيء مثالاً ومظهراً له تعالى فيحتاج تحقيقه إلى علوم كثيرة باطنيّة ليس هاهنا موضع بيانها وسنشير إلى لمعة منها . وأمّا القسم الثالث : هو أن يرى بعين القلب مظهراً مثالياً . ولا تنفكُّ هذه الرؤية من العلم بكون المظهر مثالاً له تعالى ، فهذا مما لا يمكن وقوعه من العبد في الدنيا . وأمّا ما روي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) أو عن غيره " أنّه رأى في صورة كذا وكذا " فذلك لظهور سلطان الآخرة ، وتجرّد الروح عن الدنيا وما فيها ، فإنّ للنفس في ذاتها سمعاً ، وبصَراً ، ويداً ، ورجْلاً ، وجميع الحواسّ والجوارح المستورة عن مشاعر هذا العالَم ، وهذه الحواسّ والقشور حجُب ، وأغشية ظلمانيّة على تلك الحواس ، والقوى ، والأعضاء ، وهي المقبورة المحشورة من الخلْق عند قيام الساعة . وأمّا القسم الرابع : وهو أن يرى بالعين الباطنة ذاتَ الله تعالى - فهذا مختصٌّ بالعلماء الراسخين ، سيّما الأنبياء والأولياء منهم ( عليهم السلام ) - سواء كانوا في الدنيا أو ارتحلوا إلى الآخرة ، فإنّ هذه رؤية بحقائق الإيمان لا بجوارح الأبدان . والدليل على هذا ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني في الكافي ، ومحمّد بن عليّ بن بابويه القمّي في كتاب التوحيد - طاب ثراهما - عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) إنّه قال : " جاء حِبْر إلى أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيتَ ربّك حين عبدتَه ؟ قال : فقال : ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره ؟ قال : وكيف الرؤية ؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار . ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان " . والذي يدلّ أيضاً على تحقيق رؤية الله بالمعنى الثاني أو الرابع في الدنيا ، ما روى محمّد بن علي بن بابويه عليه الرحمة في كتاب التوحيد مسنداً عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أخبِرني عن الله عز وجل ، هل يراه المؤمنون يومَ القيامة ؟ قال : نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة ، فقلت : متى ؟ قال : حين قال لهم : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [ الأعراف : 172 ] ثمَّ سكَت ساعة . ثمّ قال : وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة : ألستَ تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير : جُعلتُ فداك فأحدّثُ بهذا عنكَ ؟ فقال : لا لأنّك إذا حدّثت به فأنكَره منكرٌ جاهلٌ بمعنى ما تقولُه ثمّ قدّر أن ذلك تشبيه كفَر ، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى عمّا يقوله المشبّهون والملحدون . البحث الثالث : في معنى كون الشيء مثالاً ومظهراً لأمر : اعلم أنّ الله منزّه عن المِثْل ، إذ لا ماهيّة له ، والمماثل للشيء هو المساوي له في النوع . ولأنّ كلّ ما سواه ممكن الوجود في ذاته مستفيد الوجود منه تعالى ، والبرهان قائم على أنّ أفراد ماهيّة واحدة لا يمكن كون بعضها علّة ، وبعضها معلولاً . ولكن لا ينزّه عن المِثال وهو عبارةٌ عن أمر إذا عرف ، عرف الممثَّل له . وإذا شوهد ، شوهد . وذلك لأجل رابطة وجودية بينهما ، فإنّ من رأى صورة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فقد رأى حقيقته المقدسة ، فإنّ الشيطان لا يتمثّل به ، كما ورَد في الحديث عنه ( صلّى الله عليه وآله ) . وليس المعنى أنّ من رآه رأى شخصَه الذي مات ودُفن في روضة المدينة ، لاستحالة خروج شخصه الجسمانيّ من القبر وحضوره في مواضع كثيرة غير محصورة في لحظة واحدة ، إذ ربما رآه ألف نائم في أمكنة مختلفة بصوَر مختلفة في العِظَم والصِّغَر ، والشيب والشباب ، وغير ذلك في وقت واحد ، ووجود جسم واحد في مكانين - فضلاً عن الأمكنة الكثيرة - مستحيل ، ومن جوَّز ذلك فقد خرَج عن حدّ العقل الإنساني ، ودخل في حدود البهيميّة . فقد علم أنَّ المراد من رؤيته في المنام رؤية حقيقته المقدّسة ، التي هي حامل جوهر النبوّة ، وحامل الرسالة ، في صورة مثاليّة يصدق عليها أنَّها هي هو بعينه ( صلّى الله عليه وآله ) . كما أنّ من رأى زيداً فقد رأى الحقيقة الإنسانية ، التي هي ماهيّة ، كلّية ، عقليّة ، توجد في عالَم العقل ، وفي كل شخص إنساني ، فتوجد تلك الحقيقة الواحدة في أماكن متعددة وأزمنة متخالفة ، وتتَّحد بأشخاص غير متناهية ، فتكون عين تلك الأشخاص بوجه ، وغيرها بوجه ؛ لأنّها ليست من حيث هي هي متكمّمة ، ولا متحيّزة ، ولا مشكَّلة ولا ملوَّنة ، ولا في أين ، ولا في زمان . ومع ذلك فهي موجودة بعين وجودات هذه الأشخاص كلّها ، متّحدة بها مع اتّصاف الأشخاص بهذه الصفات الكونيّة ، والتضادّ الواقع بينها ، كالسواد ، والبياض ، والحرارة ، والبرودة ، والعلم ، والجهل ، وغير ذلك . والسبب في هذا أنّ نحو وحدة الحقيقة الكليّة نحو آخر من الوحدة ، وكذا وجودها ضرب آخر من الوجود ، فلها سعة وجوديّة بها تسع هذه الوجودات الشخصيّة العدد مع عدم حاجتها في ذاتها إلى شيء منها . فعلى هذا القياس الحقيقة النبويّة ، لأنّ حقيقة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) حقيقة مقدّسة شريفة ، وله مقام كلّي مع الله لا يسَعه أحد - لا ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسل - كما ورد من قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : " لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملَك مقرّب ولا نبيّ مرسَل " - والذي كان له وقتاً صار له مقاماً ، إذ الفرق بين الوقت والمقام في عرف أهلِ الله كالفرق بين الحال والملكة النفسانيّين في عرف أهل النظر . فذات النبي ( صلّى الله عليه وآله ) مع الله البتّة ، ولكن توجد مع ذلك في مظاهِر ومجالي بحيث من رأى مثال حقيقته فقد رآه بالحقيقة - لا بالمجاز - . وكذلك ذات الله تعالى منزّه عن الشكل والصورة ، ولكن ينتهي تعريفه للعبد بواسطة مثال محسوس إلى حيث يصلح أن يكون مثالاً لجماله الحقيقي ، الذي لا شكل ، ولا صورة ، ولا لون له ، ويكون ذلك المثال صادقاً حقّاً ، وواسطة في المعرفة . فيقول الرائي النائم : " رأيتُ الله في المنام " لا بمعنى أنّه رأى ذاتَه الأحديّة ، مجرّدة عن الأشباح والأمثلة . بل بمعنى أنّه رأى مثال ذاته والمثال غير المثل . وهمٌ وإزالة ولعلّك تقول : إذا أمكنت رؤية الله بضرب مثال ، فلِماذا لمّا طلب موسى ( عليه السلام ) الرؤية لقومه أخذتهم الصاعقة ؟ ! ولمَّا طلَب لنفسه قال : { لَن تَرَانِي } ؟ ! [ الأعراف : 143 ] فهلاّ أظهر له - أو لهم - مثالاً صادقاً يرَونه شاهدين ؟ . فنقول : إنّ الرؤية المثاليّة له تعالى على أنحاء متفاضلة ، وفي عوالِم متفاوتة في القُرب والبُعد منه تعالى ، فربّ مثال بالنسبة إلى مثال آخر كالحقيقة بالنسبة إلى مثال . ألا ترى أنَّ حقيقة جبرائيل حقيقة عقليّة ، وكان جبرائيل قد يتمثّل أحياناً في هذا العالَم بصورة شخص أعرابي ، وكثيراً ما كان متمثّلاً بصورة دُحية الكلبي ، وكان رجُلاً حسَن الوجه ، وقد يتمثّل له ( صلّى الله عليه وآله ) في عالَم آخر بصورة هي بالحقيقة صورته وقد طبّق الخافقين ، وذلك أنّه سأله رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أن يريه نفسه على صورته ، فواعَده ذلك سحَراً ، فطلَع جبرائيل ، فسدّ الأفق إلى المغرب . والمشهور أنّه رآه بصورته الحقيقية مرّتين ، مرّة ما ذكرنا . ومرّة أخرى عند سدرة المنتهى كما دلّ عليه قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } [ النجم : 13 - 15 ] . وكان ما يراه غالباً في صورة الآدمي . فإذا تقرّر هذا نقول : أمّا الذي طلبه موسى ( عليه السلام ) من رؤية الله فهو رؤية لا يمكن تحقّقها إلاّ بالصعق ، والاندكاك ، والموت ، وما يجري مجراه . ولذلك وقع النهي والعقاب لأنّ ذلك لا يمكن بهذا العين البالية الدائرة . فصل في معنى الصاعقة قد اختلفوا في معنى " الصاعقة " : هل هي بمعنى الموت ؟ أو الشيء الذي هو سبب الموت ؟ فالقول الأوّل - وهو أنّها هي الموت - قاله الحسن وقتادة ، محتجّين بقوله تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 68 ] . وحجّة القائل بالثاني ما وقَع في سورة الأعراف : { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } [ الأعراف : 155 ] . وهذا أولى لوجوه : أحدها : قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } لامتناع كونهم ناظرين حين تحقّق الموت . وثانيها : قوله تعالى في حقّ موسى ( عليه السلام ) : { وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] . والاتّفاق حاصل على أنّه لم يمت حينئذٍ ، ولأنّه قال : { فَلَمَّآ أَفَاقَ } [ الأعراف : 143 ] و " الافاقة " تكون عن الغشي - لا عن الموت - . وثالثها : إنّ الصاعقة هي التي توجب الصَّعق ، فلو فرض كون معنى الصعق هو الموت ، فهي سبب الموت . ولا يبعد القول : بأنّهم لما طلَبوا الرؤية ، أخذَهم شِبْه الغشْي والسقوط ، وكانوا ينظرون بعيون قلوبهم جمال الله في عالَم آخر مثالي ، ثمّ بعثهم الله بدعاء موسى ( عليه السلام ) عن هذا الصعق الشبيه بالموت ، ولفظ " الموت " ومرادفه قد يُطلق على مثل هذه الحالة من النوم وغيره ، كما في قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } [ الأنعام : 60 ] . وكقوله تعالى في حق عيسى ( عليه السلام ) : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] وكذا لفظ " البعْث " يطلق على مقابل هذا المعنى ، كقوله تعالى : { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مّسَمًّى } [ الأنعام : 60 ] . وكقوله في أصحاب الكهف : { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } [ الكهف : 12 ] . ثمّ القائلون بأنّ الصاعقة المراد بها هي سبب الموت اختلفوا في أنّها أي شيءٍ كانت هي ؟ فمنهم مَن قال : " إنّها نار وقعت من السماء فأحرقتهم " . ومنهم من قال : " إنّه أرسل الله جنوداً سمعوا بحسيسها ، فخرّوا صعقين ميّتين يوماً وليلة " . ولقائل أن يقول : الإنسان إذا مات قطع تعلُّق النفس عن بدنه وفسد البدن عن صلاحيّة تعلقها . فإذا فرض إحياؤه ، كان ذلك بتعلّق النفس مرّة أخرى ببدن في هذا العالَم . فكان ذلك نسخاً والتناسخ محال ، بخلاف الحشْر فإنّه في عالَم آخر ؟ والجواب : إنّ التناسخ إنّما يلزم لو تعلّقت النفس من بدن إلى آخر مباين في هذا العالَم - كما ذكرت - ولكن البدن إذا كان واحداً ، وكان التعلّق متعدّداً فلا يلزم ذلك . ولعلّ الأبدان - فيما نحن فيه - لم تفسد بالكليّة ، ولم تخرج عن صلوح تعلّق النفس بها . فصل قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم } قال صاحب الكبير : " فإن قلت : هل دخل موسى ( عليه السلام ) في هذا الكلام ؟ قلتُ : لا . لأنه خطاب مشافهة ، فلا يلزم تناوله لموسى ( عليه السلام ) . ولأنّه لو تناوَله أيضاً لوجَب تخصيصه بقوله تعالى : { فَلَمَّآ أَفَاقَ } [ الأعراف : 143 ] لأنّ لفظة " الافاقة " لا تستعمل في الموت " . أقول : قضيّة صعق موسى ( عليه السلام ) غير هذه القضيّة ، فلا يجب هذا التخصيص . ولا يلزم بطلان قول مَن قال كابن قتيبة : " إنّ موسى قد مات " . وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لفظ " الشكر " يتناول جميع الطاعات والتكاليف ، ولهذا قال تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] . فالمراد بعثُكم بعد الموت لتتمكّنوا من فِعْل الطاعات ، والتلافي لما صدَر عنكم من السيّئات . وفي الكبير : " فإن قيل : كيف يجوز أن يكلّفهم الله وقد أماتَهم ، ولو جاز ذلك فلِم لا يجوز أن يكلّف أهل الآخرة إذا بعثَهم بعد الموت ؟ قلنا : الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثمّ الإحياء . وإنّما يمنع من ذلك لأنّه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته ومعرفة ما في الجنّة من اللَّذات وما في النار من الآلام . وبعد العلْم الضروري فلا تكليف ، فإذا كان المانع هو ذاك فلم يمتنع التكليف في حقّهم ، ويكون موتهم ثمّ الإحياء بمنزلة النوم أو الإغماء " .