Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 15-15)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمّا ظهر من الآية السابقة كون الشقاوة الأبدية متسببة عن الكفر الذي هو ضرب من الجهل بالله وآياته واليوم الآخر ، وعن النقصان الذي يحصل من فعل المعاصي وترك الطاعات ، أراد أن يشير إلى أن أيّ مرتبة من المعرفة تحصل منه السعادة العلمية ، ويتخلص به من الشقاوة التي بأزائها ، وأيّ مرتبة من العمل الصالح توجب الفوز بنعيم الجنان ، والنجاة من عذاب النيران . ولمّا كان الإيمان اسماً جامعاً لمجموع هذين المعنيين ، ذكر للمؤمن خواصٌ ثلاثة علمية قلبية ، وخواص ثلاثة عملية بدنية ، ليبيّن أن مجرد كلمة الشهادة من غير معرفة برهانية أو كشفية لا توجب الخلاص من الشقاوة الذاتية العلمية ، ومجرد الأعمال البدنية من غير تهذيب الباطن وتصفية القلب ، لا توجب النجاة من العذاب الأليم . فالأولى من الصفات العلمية : كون العبد بكثرة مزاولة المعارف الإلهية ، بحيث إذا ذكّر بآيات الله ، أي المعارف المذكورة في القرآن ، أو أُفيد بالحقائق الإيمانية ، أو وُعِظ بتقوى الله والزهد الحقيقي ، تذكّر بها واتعظ بمواعظها واعتبر بأمثالها ، وفهم دثور الدنيا وفنائها ، خاضعاً لآيات الله ، للين قلبه وصفاء فطرته ، ساجداً فانياً فيها ، نازلاً مما كان قبل ذلك من نشأته الحيوانية ، وعما يعتقده من حوله وقوته وقدرته ، وهذا أخصّ خواص المؤمن الذي لا يوجد لغيره ، كما أفصح الله عنه بقوله : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [ الأنفال : 2 ] . لأن هذه خاصية علمية لا توجد إلاَّ في العارفين بالله وآياته ، وهي أساس الدين ، وأصل سائر الحسنات . والثانية : منها : ان يكون العبد مُسَبّحاً مقدّساً ربه ، حامداً له ، وهو عبارة عن تجريد ذاته عن صفات الأجسام ، واتصافه بصفات الملائكة ، وتشبهه وتخلّقه بأخلاق الله ، فذلك هو تسبيح المؤمنين حقاً ، كما صرح به بعض أئمة العلم والعرفان . ووجه ذلك : ان كثرة مزاولة الفعل ، والرسوخ في الاتّصاف بصفة على الكمال ، يؤدي بصاحبه إلى صيرورته من حقيقة ذلك الفعل وجنس تلك الصفة ، أوَ لاَ ترى أن كثرة تسخّن الحديد بمجاورة النار بواسطة النفاخات ، تؤدي به إلى أن يكتسي صورة النارية ويفعل فعلها ، فلا تتعجب من صيرورة المؤمن الحقيقي مفارقا محضاً كالملائكة المقرّبين الذين شأنهم التسبيح والتقديس ، لأن دأب العرفاء والحكماء تجريد الحقائق عن الزوائد والمشخّصات ، وتنقيح المقاصد عن الفضول والحشويات ، والتفرقة بين الذاتي والعرضي في كل باب ، كيف والتعقل ليس معناه في مصطلح القوم إلاَّ هذا التجريد والتوحيد ، فبكثرة فعل التجريد والتوحيد الواقعتين منهم دائماً ، بلغوا إلى مرتبة التجرد عن الخلائق ، والتوحيد عن الغواشي البدنية ، حتى عرفوا وشاهدوا تنزيه الباري وتوحيده وحمدوه حق حمده . والثالثة : انهم لا يستكبرون عن سماع آياته ، كما يستكبر عنه من يصرّ مستكبراً كأنَّ في أذنيه وقراً ، لأنه لا يبلغ إلى مقام الإيمان إلاَّ بسماع العلوم والآيات ، ونحوه قوله تعالى : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ } [ الإسراء : 107 - 108 ] ، ولا يتكبرون أيضاً على أحد بظهور صفات النفس والأنانية ، وذلك لفنائهم ذاتاً وصفة ، واستغراقهم في شهود ذاته تعالى وصفاته ، كيف والوجود مقصور عندهم على ذاته تعالى وصفاته وأفعاله ، فعلى من يتكبّرون ؟ وأما خواصهم الثلاثة العملية فهي التي ذكرها الله في قوله سبحانه : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ السجدة : 16 ] .