Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 17-17)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي لا تعلم نفس من النفوس - لا مَلَك مُقَرّب ولا نبي مرسل - ما ادّخر الله لأولئك الموصوفين بالأوصاف المذكورة وأخفاه لهم عن جميع خلائقه ، لا يعلمه إلاَّ هو مما يقرّ بِهِ عيونهم من جمال الذات ولقاء نور الأنوار ، فيجدون من اللذة والسرور ما لا يبلغ كنهه ولا يمكن وصفه ، كما في الحديث الرباني : " أعددت لعبادي الصالحين مَا لاَ عَيْنٌ رأت ولا أذُنٌ سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر " ، جزاءاً بما كانوا يعملون من الأعمال القلبية والتأملات القدسية ، المستلزمة للأعمال البدنية على وفق أحكام التجليات وشروق الإفاضات . إشراق فرقاني إعلم أن أسعد الخلق في الآخرة أقواهم حباً لله ، وأشدهم شوقاً للقائه ، فإن معنى الآخرة القدوم على الله ودرك سعادة لقائه ، وما أعظم نعيم المحب المستهتر إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه ، وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير مزاحم ومكدر ومنغص ورقيب وخوف الانقطاع ، إلاَّ أن هذا النعيم على قدر الحب واستيلائه وشدته ، وان لم ينفك عن أصل المحبة مؤمن ، كما لا ينفك عباده عن أصل المعرفة ، وإلاَّ لم يكن المؤمن مؤمناً - هذا خلف - . وإنما يحصل ذلك بشيئين : أحدهما : قطع العلائق وإخراج حب الدنيا وما فيها من القلب ، فبقدر ما يشغل القلب بغير الله ، ينقص منه حب الله ، ويفرغ إناء قلبه عن ذكر الله بقدر اشتغاله بغيره ، لأن قلب كل أحد واحد : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الأحزاب : 4 ] . والكفر ؛ عبارة عن امتلاء القلب بمحبة الباطل ، وكل ما سوى الله باطل دون وجهه الكريم ، والمحب التام المحبة لله ، ومن امتلأ قلبه من محبته ، وإليه الإشارة بقوله { قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } [ الأنعام : 91 ] ، بل هو معنى قول : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ الصافات : 35 ] على التحقيق ، أي لا معبود ولا محبوب سواه ، ولذلك قال : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] ، وفي الحديث عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " أبغضُ الهٍ عُبِدَ في الأرض الهوى " ، ولذلك قال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " من قال لا إله إلاَّ الله مخلصاً وجبت له الجنة " ، ومعنى الإخلاص : أن يخلص قلبه لله ، فلا يبقى فيه شركة لغير الله ، ومَن هذا حاله فالدنيا سجنه ، لأنها مانعة له عن مشاهدة محبوبه ، وموته خلاصه من السجن وقدومه على محبوبه . والسبب الثاني لقوة المحبة ، قوة المعرفة لله تعالى واتساعها واستيلاؤها على القلب ، وذلك بعد تظهيره من الشواغل ، وهي بمنزلة وضع البذر في الأرض بعد تطهيرها من الحشيش ، فيتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة ، وهي الكلمة الطيبة التي ضرب الله لها مثلاً في قوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } [ إبراهيم : 24 ] وإليه الإشارة بقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] ، فهي المعرفة ، نعم ، والعمل الصالح يرفعه ويحركه ، ولذلك قال : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] ، لأن العمل الصالح كالحامل ( كالخادم - ن ) له ، وإنما فائدة العمل كله في تطهير القلب أولاً من الدنيا ، ثم في إدامة طهارته ، وأصل الطهارة والصفاء لكونه أمراً عدمياً لا يراد لنفسه ، بل لهذه المعرفة ، وكذا العلم المتعلق بكيفية العمل يراد للعمل ، فالعلم هو الأول والآخر . تتمّة الواصلون إلى هذه النعمة العظيمة ، ينقسمون إلى الأقوياء والضعفاء ، فالسابقون الأولون هم الذين درجتهم درجة العقول القادسة والملائكة المهيمة ، أول معرفتهم لله تعالى وبه يعرفون غيره ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصّلت : 53 ] ، وبقوله : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] . ومنه نظر بعضهم حيث قيل له : بِمَ عرفتَ ربك ؟ فقال : عرفت ربي بربي ، ولولا ربي ما عرفت ربي . واللاحقون التالون هم الذين درجتهم درجة النفوس الكلية والملائكة المدبّرة ، فيكون أول معرفتهم بالأفعال ، ثم يترقّون منه إلى صفات الله ، ثم إلى ذاته ، فالله سبحانه غاية أفكارهم كما أن الله فاعل أفكار الأولين ، والى هؤلاء الإشارة بقوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصّلت : 53 ] ، وبقوله : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 185 ] . وبقوله : { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ يونس : 101 ] ، وبقوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ المُلك : 3 - 4 ] - الآية - . وهذا الطريق هو الأسهل على الأكثرين ، وهو الأوسع على السالكين ، ولهذا وقعت دعوة القرآن إليه أكثر ، والأمر بالتدبر والتفكر في بدائع الفطرة ، والاعتبار والنظر في آيات الآفاق والأنفس خارج عن الحصر ، إذ النجاة من العذاب الدائم موقوف على حب الله تعالى ، وعدم الاشتراك فيه ، وهو متوقف على المعرفة ، فطلبه واجب ، لكونه مقدمة أمر واجب هو الخلاص من العقاب الدائم ، وما لا يتم واجب المطلق إلاَّ به فهو واجب ، فطلب المعرفة والعلم بالله فريضة على كل مسلم ومسلمة . إيضاح تفصيلي لك أن تقول : إن كلا الطريقين وعر وصعب ، فاوضح منهما ما يستعان به على تحصيل المعرفة والتوصل بها إلى المحبة . فاعلم أن الطريق الأعلى ، والمشرب الأصفى عن شَوْب الإشراك ، هو الاستشهاد بالحق على سائر الخلق كما هو الواقع ، فإن وجود الموجودات رشح وتَبَع لوجوده ، فينبغي أن يكون المعلوم المشهود على وفق الواقع الموجود ، إلاّ أنه غامض دقيق ، والكلام فيه خارج عن فهم أكثر الخلائق ، فلا فائدة في إيراده في الكتاب والتعاليم . وأما الطريق الأسهل الأدنى ، فأكثره غير خارج عن حد الأفهام ، وإنما قصرت عنه أفهام الأكثرين لإعراضهم عن التدبر في الآيات ، واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس . والمشتغلون بهذا الطريق الأسهل ، إمّا أن يكون نظرهم في ما يقبل الفساد والتغير والحركة والزمان ، وموضوع علمهم الأجسام الطبيعية والفلكية والعنصرية من الحيثية المذكورة ، وبحثهم عن معرفة أنواعها وعوارضها الذاتية بالبرهان المستفاد من العلة القريبة ، كالمادة والصورة في الإدراك التصديقي أو بالحد المستفاد من الجنس والفصل في الإدراك التصوري ، فيسمى علمهم علما طبيعياً ، وهم الحكماء الطبيعيون الذين يصلون إلى معرفة الله تعالى ، والاعتقاد بوجود ذاته وصفاته وأفعاله عن طريق الحركة وعوارضها ، وبهذا الطريق سلك الخليل ( عليه السلام ) على ما حكى الله عنه بقوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] الآية . وإن كان نظرهم في حقائق الممكنات مطلقاً ، ومباديها وغاياتها الثابتة الخارجة عن الحركة والزمان ، وموضوعُ علمهم الموجودُ المفارق عن المادة ولواحقها في الوجود والتعقل جميعاً ، وبحثهم عن إثبات أنواعه وعوارضه بالبرهان الضروري الأزلي الدائم ، المستفاد من فاعل الوجود وغايته ، وبالحد المستفاد منهما أيضاً ، إذ الصورة في المفارقات غير مفتقرة إلى علّة مقارنة ، بل إنما يتقوّم ذاته وماهيته مما يتقوّم به وجوده ، لِمَا تقرر هناك أن " لِمَ هو " و " ما هو " في البسائط المفارقة شيء واحد ، فيكون معرفتهم هذه علماً الهياً ، وهم الحكماء الإلهيون ، لأن غاية معرفتهم وحكمتهم هي الوصول إلى الحق الأول ومجاوريه من الملكوت الأعلى . بل غاية هذين العلمين جميعا وثمرتهما ، معرفة الباري جلّت أسماؤه ، إلاّ أن في الأدْوَن منهما حصلت بتوسط معرفة النفس التي هي مرقاة معرفة الرب ، كما في الحديث المشهور ، وفي الأعلى من غير توسطها . وأما الطريقة التي هي فوق تينك الطريقتين ، فهي التوصل إلى معرفة ذاته تعالى بذاته ، وذلك بأن ينظر أولاً إلى نور الوجود المنتشر في أهوية ماهيات الممكنات المنبسط على سطوح هياكل الممكنات ، ثم يعرف من حقيقته المطلقة التي هي أجلىٰ من كل متصور وأول كل تصور ، تقدمه على كل شيء له ماهية غير الوجود ، حتى يتكشف له ما نفس حقيقة الوجود المحض ، المجرد عن كل موضوع ومحلّ ، والمستغني عن كل سبب فاعلي أو غائي ، كالماهيات ، أو مقوّم فصلي كالأنواع ، أو مقسم كالأجناس ، أو مشخّص كالكلي مطلقا ، أو صوري كالمواد ، أو مادي كالصور والأعراض ، أو الجميع كالأجسام ، لأن كلاًّ من هذه الأمور ، تسقط أوليته وتقدمه فيعلم أنه بسيط الحقيقة من كل الوجوه ، غني عمّا سواه ، مفتقر إليه ما سواه دفعاً للدور والتسلسل . فيعلم من هذا أن صفاته الكمالية عين ذاته ، والجميع أمر واحد ، فلا تكثّر [ في ] الواجب بالذات ، فيكون الباري أحديّ الذات والصفات جميعاً ، فتكون خالقيته بما هو ذاته ووجوده . فإذا علم ذاته وصفاته على هذا الوجه ، وعلم أن ذاته وصفاته [ واحد ] يعلم أفعاله ، وأنها نهج واحد مستمر لقوله : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] . فيعلم أن أول ما صدر يجب أن يكون جوهراً قدسياً ، ثم جوهراً آخر كذلك إلى ما شاء الله من سلسلة الملائكة المقدسين ، وبتوسط أولئك المقربين سلسلة أخرى من النفوس المجردة ضرباً من التجرد ، وضرباً من التعلق بالأجرام الدوّارة شوقاً وطرباً إلى لقاء الله ، لورود الإشراقات العقلية المتتالية على ذواتهم ، لكل منها بواسطة علة مفارقة قريبة مختصة ، وذلك لاختلاف الحركات والآثار الدالّة على اختلاف الوسائل لئلاَّ تنثلم وحدة الباري جلّ مجده . وبالجملة ينتقل من كل عال إلى سافل ، ويعرف من خاصية كل فاعل كيفية فعله وأثره ، إلى أن يستقصي الموجودات ويحيط بالعالم الموجود بنور مبدع الوجود ، وهذه طريقة الصدّيقين الذين يعرفون بنور الحق ما سواه ، ولا يستدلون على نور الوجود بهذا الظلام ، ولا على صباح الفطرة بليالي هذه الأجسام . تتمّة ثم إن قوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، قد حسم عرق أطماع المتمنين ، وقلع باب اغترارات المعطّلين القاعدين عن تحصيل العلم والعرفان ، ظناً منهم أنَّ مجرَّد دعوى الإيمان ، أو التشبث بأئمة هذا المذهب ، أو صورة الأعمال الظاهرة ، يؤدي إلى نعيم الجنان ، أو رضوان من العزيز الرحمان ، من غير معرفة السبب المجازي ، ومن غير تحقق الوجه الذي يؤدي العمل به إلى حصول الثمرة الأخروية التي بَذْرُها المعرفة الثابتة في القلب أولاً ، وهذه الأعمال بمنزلة السقي لها . إذ التحقيق : أن وجود الاعتقادات الإيمانية والمعارف الإلهية ، إذا قوي في الباطن ، واشتد رسوخها في القلب ، تؤدي بصاحبها إلى صورة النعيم الأخروي ، بل هذه ستصير هي إذا رسخت في الباطن ، كما أن الميل إلى اللذّات الحسية والاعتقاد بوجودها وركون النفس إليها والإخلاد إلى عالمها ، إذا تكررت ورسخت في الباطن ، تنجر إلى عذاب الجحيم كما أشرنا إليه سابقاً . وفي القرآن آيات كثيرة دالة على ثبوت هذا الإنجرار ، كقوله تعالى في سورة الأعراف : { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] . وكقوله تعالى في سورة يس : { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ يس : 54 ] ، وفي سورة النجم : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ * وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [ النجم : 39 - 42 ] . وكما في قوله تعالى : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [ الأنعام : 139 ] وقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] . وقوله : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 54 ] . وقوله في سورة الشورى : { تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } [ الشورى : 22 ] . إلى غير ذلك من الآيات . ومما يدل أيضاً على أن السعادة الأخروية والقرب عند الله والوصول إلى الخير الحقيقي منوطة بالحكمة والمعرفة ، والله الهادي والموفّق لهما ، وأن الصارف للإنسان عن طلبها والباعث على الإعراض عنها والرضاء بالجهل ، هو الشيطان اللعين الباعث لطلب الجاه والدنيا والشهرة عند الناس ، والخوف من زوال الثروة والعزة قوله سبحانه : { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ البقرة : 268 - 269 ] . وكما أن السّعادة الأخروية منوطة بالحكمة ، فكذلك التوغّل في الدنيا والتوسع في لذاتها وشهواتها ، مرتبطة بنسيان الحكمة وترك التدبر في الآيات ، وفهم المعارف والبينات ، لقوله : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 44 ] الآية ، وأما قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ ٱلْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ الأنعام : 49 ] فهو إشارة إلى عاقبة هذه اللذّات الدنيوية ، فالإعراض عن الحكمة والمعرفة ، والتكذيب بالآيات البينات ، مما يفتح على النفس أبواب التنعمات في الدنيا ، وحقيقة هذه الشهوات ليست في القيامة إلاّ صورة النار والحسرة والندامة ، والدنيا ها هنا متاع قليل ، وفي الآخرة عذاب شديد ، وذلك قوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ } [ البقرة : 126 ] . وقس على ذلك أيضاً قوله : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } [ طه : 124 ] فإن المراد من تلك المعيشة الضنك ما هي بحسب النشأة الآخرة ، ولهذا عقبه بقوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [ طه : 124 - 126 ] . والعاقل ينبغي أن يرجع إلى ذاته ويتأمل في نفسه ، ويطرد عن باطنه التعصب والعناد والاستكبار ، والسكر الحاصل له بجاه مستحقر ، واشتغال بعلوم جزئية ، فتنحصر عنده الآيات الدالة على حقيقة القرآن ووصفه ، وماهية الرسول المنزل إليه كتابُ الله ونعته ، بحسب ما هو الداخل في قوام كل منهما ، غير الأوصاف الخارجة عن ملاك الأمر فيهما ، فيرى هل يجد فيها دلالة على فضلهما وشرفهما إلاّ من جهة مزية علمية ، وفضيلة حِكَمية ، لهما على سائر الكتب وسائر الناس ، لا أظن عاقلاً في مرية من هذا . وهي كقوله تعالى في نعت القرآن : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15 - 16 ] . وكقوله في نعت الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الجمعة : 2 ] . وقال سبحانه في صفة أهل الإيمان : { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] . ومما يدلّ على أن العلماء بالله ورسوله أهلُ الإيمان خاصة قوله تعالى : { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [ سبأ : 6 ] . وقوله : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ الرعد : 19 ] . كذلك من تصفّح كلام الله وحديثَ رسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وكلماتِ الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، يعرف أن رأس الشقاوة كلها هو الكفر بالله وصفاته وأفعاله واليوم الآخر ، وليس الكفر إلاَّ ضَرْبٌ من الجهل المضادّ للحكمة ، كقوله سبحانه : { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } [ الأعراف : 147 ] . ومما يدل على أن الجهل والنسيان منشأ العذاب في الآخرة قوله تعالى : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } [ النحل : 108 - 109 ] . وكقوله تعالى في مذمّة أهل الجحود : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 21 - 23 ] . وقوله سبحانه في مذمّة المعرضين عن الحِكمة : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 57 ] . وقد جعل الله سبحانه الرجس على النفوس الجاهلة الغير العارفة بحقائق الإيمان في قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ يونس : 100 ] والسر فيه : أن من لم يبلغ إلى درجة تصير نفسه عقلاً بالفعل ، ولم يرد إلاَّ ما يدركه الحواس ، فهو متعلق الوجود بالأجساد الدنيوية وأرجاسها الشَهَوية والغضبية ، مثل الكلب والخنزير ، والدنيا دار النجاسة ، وطلابها الأرجاس والأنجاس لقوله ( عليه السلام ) : " الدنيا جيفة وطلابها كلاب " وفي الحديث : " الدنيا ملعونة وملعون ما فيها " . والآيات الدالة على أن منشأ العذاب في الآخرة هو الجهل والإعراض عن تعلم الحكمة والمعرفة ، كثيرة لا تحصى ، إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين .