Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 18-18)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكلمة " مَن " في الموضعين مفرد لفظاً مجموع معنى ، فبالاعتبار الأول أورد : " كان مؤمناً " و " كان فاسقاً " محمولين على اللفظ ، وأورد : " لا يستوون " حملاً على المفهوم كما يدل عليه قوله : " أما الذين آمنوا " ، " وأما الذين فسقوا " ، ومثله قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } [ محمد : 16 ] . والمراد " بالفاسق " هنا : الكافر ، لخروجه عن الإيمان ، لما في الآية التالية من ذكر عدم الخروج والتكذيب . قال ابن أبي ليلى : نزلت في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ورجل من قريش . وقال غيره نزلت هذه الآية إلى قوله : " لعلهم يرجعون " فيه ( عليه السلام ) والوليد بن عقبة ، فالمؤمن علي ( عليه السلام ) والفاسق الوليد ، وذلك أنه قال لعلي ( عليه السلام ) : " أنا أَبْسَطُ منك لساناً وأَحَدُّ منك سِناناً " فقال ( عليه السلام ) : " ليس كما تقول يا فاسق " . قال قتادة : " لا والله ما استويا ، لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة " . مكاشفة إنه لما علم مما سبق غاية خسّة الكافر والفاسق ، بحيث تنزل درجتهم عن درجة الأنعام والبهائم لقوله : { وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ السجدة : 14 ] ، وغاية درجة المؤمن بحيث يعلو ويفوق على كثير من خلقه تعالى ، حتى ضروب من ملائكة الله لقوله تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] ، فيتوهم ها هنا للنفوس الغير المتدربة في العلوم الدقيقة والأنظار اللطيفة العميقة ، أن أفراد الإنسان لمّا كانت متساوية الحقيقة ، فيمتنع أن يصير بعضهم أعلى علّيين ، وبعضهم أسفل سافلين . والجواب : بأن هذا التفاوت إنما يكون بالعوارض الغريبة التي لا مدخلية لها في تقوّم شيء من الافراد غير منجّح ( صحيح - ن ) ، ولا تقبله الطبائع السليمة ، كيف والسبب الاتفاقي لا يكون دائمياً ولا أكثرياً ، فلا بد أن يكون علة خلود المؤمن في الجنة ، وعلة خلود الكافر في النار ، أمراً داخلاً في تجوهر العبد وحقيقته وذاته ، بل الحق الحقيق بالتصديق ، إن الإنسان بحسب النشأة الأخروية أنواع مختلفة حسب اختلاف الأخلاق والملكات الراسخة في باطنه ، وستظهر في القيامة بصورها المناسبة لمعانيها المتخالفة الحقائق . وممن تفطن بهذا المطلب المنكشف بنور القرآن ، واحد من الفلاسفة المعروف بفرفوريوس ، القائل باتحاد العاقل والمعقول ، لكن لم يبلغ نظره إلى مرتبة البالغين من رجال هذا الدين المتين ، الذي هو صراط السالكين إلى عالم الحق واليقين ، فالله سبحانه رفع نقاب الاختفاء ، وكشف غطاء الامتراء عن المحجة البيضاء ، وبيّن ها هنا نفي المماثلة بين المؤمن والكافر في الذات والحقيقة ، وسلب المساواة بين العارف والمنكر في درجة الماهية ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] . وفي القرآن آيات كثيرة دالّة على أن الإنسان بحسب النشأة الباطنية ، متخالف النوع متبائن الحقيقة والصورة ، سيّما التخالف بين المؤمن والكافر ، والعالم والجاهل ، مثل قوله تعالى : { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] . وكقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ * إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [ البيّنة : 6 - 7 ] . وقوله تعالى : { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ القلم : 35 - 36 ] . ومن الشواهد الدالة على هذا المطلب قوله سبحانه في حق المؤمنين : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] . وفي حق الكافرين : { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257 ] . وكذا قوله في حق المؤمنين : { أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } [ البلد : 18 ] وفي حق الكافرين { أَصْحَابُ ٱلْمَشْئَمَةِ } [ البلد : 19 ] ، تنبيه بليغ على إثبات ما ادّعيناه . ومما يدل أيضاً في الحديث قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " يُحشر الناس على صور نيّاتهم " وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : " يُحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير " . ولولا مخافة الإطناب ، لأوردتُ ها هنا برهاناً تفصيليا على هذا المطلب ممّا ألهمني الله به ، نبيِّن منه كون الإنسان متخالف الماهية في الباطن بحسب ما يخرج عقله الهيولاني من القوة إلى الفعل ، وإن كان نوعاً واحداً في الظاهر بحسب ما تخرج مادته الجسمانية من القوة إلى الفعل ، ويتبيّن أن نفسه الناطقة صورة الصور في هذا العالم ومادة المواد في عالم آخر ، إن هذا لبلاغاً لقوم عابدين .