Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 19-20)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ } : نوع من الجنان ، كل منها غاية ما يمكن لطائفة من الناس أن يبلغ إليها بقوة الإيمان والعمل الصالح ، لأن صيغة الجمع تدل على أنها مراتب متفاوتة ، قال جل عزّه : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } [ النجم : 13 - 15 ] . وقيل : سميت بذلك ، لما روي عن ابن عباس ، قال : تأوي إليها أرواح الشهداء ، وقيل : هي عن يمين العرش ، وقرأ : { جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ } - على الإفراد - . و " النزل " عطاء النازل ، ثم عمم . والمعنى : لما فارق الحق سبحانه في الآية السابقة بين المؤمن والكافر في الحقيقة والمرتبة ، ونفى عنهما المساواة ، أراد أن ينبه على ذلك بتفصيل دواعي كل واحدة من هاتين الطائفتين عن الأخرى ، والفرق بين أعراضهما وغاية قصودهما ونهاية توجههما ، لأنه تباين المأوى الطبيعي ، يدل على تباين الطبيعة المقتضية ، فإن لكل طبيعة حيزاً طبيعياً ، ولكل من الطيور مأوى خاصاً ، والتعبير عن مقام كل من القبيلتين بالمأوى ، تنبيه بليغ لمن وفّق لإدراك الإشارات القرآنية والآيات الإلهية . على أن السعيد مفطور على أن يعمل عمل أهل الجنة ، والشقي مفطور على أن يعمل أعمال أهل النار ، وهما طالبان بالاختيار لما قدّر لهما في دار القرار . وأما قوله في حق الكفار : { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ - من غم - أُعِيدُواْ فِيهَا } : فهو نعي لهم ، وبيان لكيفية تردّيهم إلى عالم البوار ، فإن أحد الداعيين المقتضيين إذا كان جِبِلياً والآخر عرضياً اتّفاقياً ، فلا محالة يغلب الأول على الثاني بالأخرة ، أوَ لاَ ترى أن عمَّال الدنيا وأهل الحرف والمتوغلين في الشواغل الحسية ، كلما بلغوا إلى صحبة الخائضين في العلوم ، واستطابوا حالتهم ، واستنشقوا روائحهم ، وتهوّسوا الوصول إلى مرتبتهم ، والخروج من ظلمة الجهالة وضيق النقص وخسة الرذالة إلى نور العلم وفسحة الكمال وشرف العرفان ، غلبت عليهم شِقوتهم ، وقويت فيهم جواذب الطبيعة السفلية ، وأهبطهم ثقل الأوزار والأثقال والتعلقات مثل السلاسل والأغلال ، حتى توصلهم إلى أسفل درك الجحيم ، لاستيلاء الميل السفلي عليهم ، وقهر الملكوت الأرضي بسبب رسوخ الهيآت الذميمة . والآياتُ الدالة على أن أهل الحجاب الكلّي ، والمتوغلين في الحسِّيات ، اضطروا إلى التردي والتقلب في النار كثيرة ، منها قوله تعالى : { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ } [ البقرة : 167 ] . وقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] . وقوله : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ } [ المائدة : 37 ] . وقوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 41 ] . وقوله : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [ البقرة : 126 ] . والسبب العقلي فيه ، إن الجحيم الأخروي من جنس هذه الدار ، فكل من غلبت عليه جهة الحس والمحسوسات ، ولم يصدّق بوجود عالم آخر ضميراً واعتقاداً ، وإن أَقَرَّ به قولاً ولساناً ، وليس له ربتة الوصول إلى حقائق الإيمان ، ولا العمل بمقتضاه والسلوك على وفق مؤدّاه ، ولا يخرج طير روحه أبداً من قفص هذا العالم ، فمآله إلى الجحيم وله عذاب مقيم .