Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 21-21)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اختلف المفسّرون في ما هو المراد من العذاب الأدنى ، فقيل : هو المصائب والمِحَن في الأنفس والأموال ، - عن أُبَيّ بن كعب وابن عباس وابي العالية والحسن - . وقيل : هو الأسر والقتل يوم بدر ، - عن ابن مسعود وقتادة والسدي - . وقيل : ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين بمكة ، حتى أكلوا الجيف والكلاب - عن مقاتل - . وقيل : هو الحدود - عن عكرمة وابن عباس - . وقيل : هو عذاب القبر - عن مجاهد - . وروي أيضاً عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) . والأكثر في الرواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( عليهما السلام ) : إن العذاب الأدنى الدّابة والدجّال . وأما العذاب الأكبر ، فهو عذاب الآخرة بالإتفاق . { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } : أي ليرجعوا إلى الحق ويتوبوا من الكفر . وقيل : ليرجع الآخرون عن أن يذنبوا مثل ذنوبهم . وقيل : لعلهم يرجعون ، أي يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه ، كقوله تعالى : { فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً } [ السجدة : 12 ] . والظاهر أن هذا الوجه ناظر إلى كلام من وجّه حمل العذاب الأدنى بعذاب القبر - كما نُقل عن مجاهد - ، وهو ليس بشيء ، لأنه يلزم تعليل فعل الله تعالى بأمر عبثي لا فائدة فيه ، فإن إرادة الرجوع منهم إلى الدنيا بعد القيامة ، إرادة أمر مستحيل الوقوع كما مر ، فلا يجوز أن تكون إذاقة العذاب إيّاهم من الله ، معللةً بتلك الإرادة الوهمية الجزافية ، اللَّهمَّ إلاَّ أن يقال : نفس تلك الإرادة نوع من الألم والعذاب فيهم - وهو كما ترى - . ولا يبعد أن يراد من العذاب الأدنى نفس البقاء في الدنيا والبشرية ، فإن البشرية كلها عذاب ، وهو منشأ عذاب القبر ، بل القبر الحقيقي هو الكون في حفرة هذا القالب الدنيوي ، وهو موت الروح وعذابه . وسئل بعض الأكابر عن العذاب في القبر ، فقال : القبر كله عذاب ، إلاَّ أنه قبر متحرك ، كما قيل : @ در حبس جرخ كور روانست اين تنم . @@ وفي الحديث عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي فلينظر إليّ " . مشكاة فيها مصباح إن مفهوم الترجّي المستفاد من لفظ : " لعلهم " ها هنا وفي مواضع كثيرة من القرآن ، مما استصعب القوم استناده إلى الله تعالى ، لكونه يستعمل فيما لا قطع لوجوده من الاحتمالات المرجوّة الوقوع ، والله محيط بالأشياء من غير احتجاب وخفاء عليه ، وأيضاً " لعل " من الله إرادة ، وإرادة الله إذا تعلقت بشيء كان ثابتاً ولم يمتنع تحققه ، وتوبتهم مستحيلة الوقوع ، وإلاّ لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر ، ولم أجد في كلام أحد من الناظرين في الكلام ، والباحثين في علم الكلام ، ما به يطمئن القلب ويسكن الروع ، وكنت منتظراً حتى يأتي الله بأمر كان مفعولاً [ أمّا المذكور في أقوالهم فوجوه : أحدها : إن الترجي راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى كقوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [ طه : 44 ] ، أي : إذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره . وثانيها : إن من ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطّنون انفسهم على إنجازها على أن يقولوا : " عسى ولعلّ " وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب . وثالثها : أنه جاء على طريق الإطماع دون التحقق ، لئلاَّ يتكل العباد مثل : { تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ التحريم : 8 ] . ورابعها : أنه وقع " لعل " موقع المجاز لا الحقيقة ، لأن الله عز وجل خلق عباده ليستعبدهم بالتكليف ، وركّب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلل في إقدارهم وتمكنهم ، وهداهم النجدين ، وأراد منهم أن يتّقوا ويتوبوا إليه ليرجّح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان ، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل ، ونظيره قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] . وقيل : " لعل " بمعنى " كي " ، ووجّه بأنها للإطماع ، والإطماع من الكريم يجري مجرى المختار . وخامسها : ما قال القفّال ، وهو أن في " لعل " معنى التكرير والتأكيد ، إذ اللام للابتداء ، نحو " لقد " ، ولقولهم " علّك " أي تفعل كذا ، و " علّ " يفيد التكرير ، ومنه العلّ بعد النهل ، فقول القائل : " إفعل كذا لعلك تظفر بحاجتك " معناه : إفعل فإن فعلك يؤكد طلبك ويقويك ] . وأما ما ألهمني الله به وقذف في قلبي من نوره ، هو أن لعلم الله تعالى وإرادته مراتب متفاوتة في النزول ، فكما أن لعلمه مرتبة كمالية هي نفس ذاته بذاته ، إذ بذاته يعلم جميع الأشياء الكليّة والجزئية ، وهذا العلم ليس متكثراً بل علم واحد إجمالي ، هو واجب بالذات ، وهو مرآة كل الحقائق ومجلّي جميع الرقائق ، وبعد ذلك مرتبة تفصيل المعقولات الكليّة ، وهو مرتبة القضاء الإلهي ، وهي مفاتيح الغيب ، لقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] ، وهو أيضاً خزائن الرحمة لقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } [ الحجر : 21 ] ، ثم بعده مرتبة الجزئيات والشخصيات المقدّرة بأوقاتها وأزمنتها المثبتة بهيآتها في كتاب لا يجلّيها لوقتها إلاَّ هو ، وهذه المرتبة " عالم القَدر " لقوله : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] ، وهذا هو " كتاب المحو والإثبات " ، كما أن السابق : " اللوح المحفوظ " لقوله : { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [ الرعد : 39 ] . وبعد ذلك مرتبة وجودات المعلومات في موادها الخارجية الجزئية المكتوبة بمداد الهيولى التي تسمى " بالبحر المسجور " ، و " الكتاب المبين " ، كما أشير في قوله : { لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } [ الكهف : 109 ] - الآية . وفي قوله : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] . وهاتان المرتبتان قابلتان للتغيير ، وبهاتين الأخيرتين يتضح ( يسترجع - خ ) عروض التغير في علمه تعالى بالحوادث من حيث هو معلوم ، لا بما هو علم ، وإن كانا أمراً واحداً بالذات ، وهذا مما لا يعلمه إلاَّ المحققون المُحِقّون ، المتحققون بالشهود . فكذلك الحكم في مراتب إرادته ، فإن علمه تعالى بالأشياء بعينه إرادته ، بمعنى مراديته ، لما ثبت بالبرهان والكشف من أن صفاته الكمالية كلها بعينه حقيقة واحدة ، وبمعنى واحد بلا اختلاف حيثيات ولا تعدد جهات إلاَّ بمجرد التعبير . فإذا علمت هذا ، اتّضح لك حق الإيضاح من مشكاة هذا المصباح ، كيفية نسبة هذه المفهومات التجددية والمعاني الامتحانية الاختيارية ، التي بإزاء بعض الألفاظ الواردة في القرآن ، المتكررة ذكرها كهذا اللفظ ، وكلفظ " الابتلاء " في قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ } [ البقرة : 155 ] وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ } [ محمد : 31 ] ، وقوله { وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] . وكلفظ " الدعاء " ، و " التعجب " ، و " الاستفهام " ، كقوله : { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] . وقوله : { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [ التوبة : 30 ] . وأمثال هذه ونظائرها كثيرة في القرآن ، فافهم واغتنم وتثبّت فيها ، ولا تكن من الخابطين ، ولا تتصرف في كتاب الله بإخراجها عن معانيها الأصلية من غير ضرورة داعية ، واحملها على الحقيقة ، ولا تنكر ما لم تسمعه من أحد ولم تبلغك بالنقول ولا وصل إليك من العقول ، ولا تنحصر العلوم فيما سمعته أو فهمته ، فإن لله لطائف رحمة في قلوب عباده ، وكمال بدائع صنع في أراضي بلاده ، فلا تتعجب من هبوب رياح رحمته ، ونزول أمطار عنايته ورأفته على من يشاء ، وهو رؤوف رحيم ، واتلُ قوله : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] .