Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 23-24)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ حمزة والكسائي ويونس عن يعقوب : لِمَا صبروا - بكسر اللام - ، والباقون بفتح اللام وتشديد الميم ، فعلى الأول " ما " مصدرية ، والجار متعلق " بجعلنا " أي : جعلنا منهم أئمة لصبرهم ، وعلى الثاني " لما " للمُجازاة ، وحذف الجزاء لإغناء الفعل المتقدم عنه . و " الكتاب " للجنس ، والضمير في " لقائه " : إما لموسى ( عليه السلام ) ، أي من لقائك موسى ليلة الإسراء . أو يوم القيامة . أو للكتاب ، أي : من لقاء موسى الكتاب ، يعني : إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ، ولقيّناه مثل ما لقيناك من الوحي ، فلا تكن في شك من لقائك مثل لقائه كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [ يونس : 94 ] . ومثل قوله : " من لقائه " ، قوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] . وقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] . وقيل : " من لقائه " معناه : من لقاء موسى إيّاك في الآخرة . وقيل : معناه فلا تكن - يا محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) - في مرية من لقاء موسى الكتاب ، أي : من تلقيه بالرضاء والقبول - عن الزجّاج - . وقيل معناه : فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى الأذى - عن الحسن . والضمير في " جعلناه " ، إمّا للكتاب ، لما في التوراة من الأحكام وبيان الحلال والحرام ، أي : وجعلنا موسى هادياً لبني إسرائيل - عن قتادة - ، أو وجعلنا الكتاب هادياً لهم - عن الحسن - ، وجعلنا منهم أئمة يهدون الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه لما صبروا عليه من مشاق التكليف وتثبتهم على اليقين ، كما نجعلنَّ من أمتك أمه يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين ، وتثبتوا عليه من اليقين - . وعن الحسن : صبروا عن الدنيا . ونقل في الكشاف : إنما جعل الله التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل ( عليه السلام ) . وهذا النقل أيضاً يدل على أن الغالب فيها الأحكام العملية التي يتطرق إليها النسخ والتغيير ، دون المعارف والربوبيات المحفوظة عنها . مكاشفات سريّة ونفثات رُوْعِيَّة إعلم أن الفرق بين القرآن المجيد وسائر كتب الله المنزلة على الأنبياء ، بأن القرآن كلام الله وكتابه جميعاً ، وغيره كتاب فقط ، وكلام الله أشرف من كتابه بوجوه : أولها : إن كلامه تعالى قوله ، وكتابه فعله ، والقول أقرب إلى القائل من الكتاب إلى الكاتب ، فكلام الله أشرف من كتابه . وثانيها : إن الكلام والقول من عالم الأمر : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، والكتاب من عالم الخلق ، وعالم الأمر كله علوم عقلية وحقائق معنوية ، بخلاف عالم الخلق ، لأن العلوم والمعاني زائدة فيه على صحائف مداركها وألواح مشاعرها . وثالثها : إن كلام الله نزل على قلب الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وسره ، وكتاب الله نزلت صورة ألفاظه على ألواح وقراطيس . ورابعها : إن تَلَقّي الكلام وتعلّمه بأنّ تتجلى حقيقته وينور معناه على قلب من يشاء من عباده ، لقوله تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] ، ومن علّمه الله تعالى القرآن بهذا التعليم ، كان ذلك عليه من الله فضلاً عظيماً ، كما قال لحبيبه بعد تعليمه : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] . فتلقيه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بالقرآن من حيث هو قرآن بأن يتخلق به ، إذ كان القرآن خُلُقَه ، كما هو المروي عن بعض أزواجه حين سُئلت عن خلقه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، فإن الله يقول : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] ، قالت : " كان خُلُقُهُ القرآن " . وأما تَلَقّي الكتاب وتعلّمه فبالدراسة والقراءة والتلاوة ، فالأنبياء ( عليهم السلام ) يتدارسون الكُتُب لقوله تعالى { كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } [ سبأ : 44 ] . وخامسها : إن تنزيل القرآن على قلب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ومكاشفة أسراره منه ، وتجلّي أنواره له ، أمر بينه وبينَ الله لا يطّلع عليه مَلَك مقرّب ولا نبي مُرسل ، وأما إنزال الكتب على سائر الأنبياء فهو مما يقرؤه كل قارئ . وسادسها : إن سائر الكتب يستوي في هداها الأنبياء ولأمم ، لقوله في هذه الآية : { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } ، وقوله : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] . وأما القرآن من حيث هو كلام ، فالرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) مخصوص بالهداية به عند تجلّي أنواره في التنزيل على قلبه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كما قال : { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] ، وقال : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] ، أي خصصك بهداه وعلمه . وسابعها : إن الكتب المنزلة عليهم كانت تصرف فيهم ، بأن يكون الكتاب مع أحدهم نوراً من الله يجيء به إلى قومه ليكون هدى لهم ، كما قال : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى } [ الأنعام : 91 ] ، وأما تنزيل القرآن على قلب الخاتم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، فكان تصرفه فيه بأن جعله نوراً من الله ، يجيء ذلك النور إلى الأمة ومعه القرآن ، كما قال تعالى : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ } - وهو محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) - { وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] . وثامنها : قد فرّق الله بين ما شرف النبي الخاتم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بإنزال الكلام على قلبه ، وبين ما شرفوا به من إنزال الكتاب ، فقال تعالى تشريفاً لموسى ( ع ) : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } [ الأعراف : 145 ] . وقال تعالى تشريفاً لنبيّنا ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 10 ] . وانظر وتدبّر كيف قال : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] . فشتّان بين نبي تشرّف بكتابه الموعظة له في الألواح ، وبين نبي تشرّفت أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم . وتاسعها : إن من خصائص إنزال القرآن بما هو كلام الله ، أنه متى نزل على قلب أحد صار خاشعاً متصدعاً من خشية الله لقوله سبحانه : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [ الحشر : 21 ] ، ولمّا نزل على قلب الرسول صار قلبه خاشعاً خاضعاً من خشية الله ، حتى قال كما هو المروي عنه : " أنا أَعْلَمُكُم بالله وأخْشاكُم منه " . وأما إنزال الكتب فليس من لوازمه الخضوع والخشوع والتخلّق بأخلاق الله ، ولذا قيل : لو كانت التوراة أنزلت على قلب موسى ( عليه السلام ) لا في الألواح ، لعلّه ما ألقى الألواح في حال الغضب ، وما احتاج إلى صحبة الخضر ( عليه السلام ) ، لتعلّمه العلم كما حكى الله تعالى عنه بقوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ الكهف : 66 - 67 ] .