Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 25-25)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" الفَصْل " : هو ما يميز به الشيء عن غيره بحسب تجوهر ذاته وقوام حقيقته ، وكثيراً ما يطلق الفصل على بمدئه القريب ، كالنفس الحيوانية للحسّاس ، والنفس الناطقة للناطق ، فإنهما مبدآن قريبان لهذين الفصلين المنطقيين المحمولين بوجه ، وبوجه آخر هما عين هذين إذا أخذ كل منهما لا بشرط شيء من التقييد والإطلاق ، وربما يطلق على المبدأ العالي لحقيقة الشيء وتحصّله وتميّزه ، فإن الصور النوعية عند طائفة ، هي الفصول المنوعات للحقائق الجرمانية ، وعند طائفة أخرى ، تطلق الصور على المفارقات النورية والجواهر العقلية الواقعة في عالم الصور المفارقة ، كما هو عند أفلاطون الإلهي ، والرواقيين ، وأئمتهم الأقدمين كسقراط وفيثاغورس وأنباذقلس وأغاثاذيمون ، وعند طائفة أخرى ، هم أعلى مرتبة وأدق مسلكاً ( وأمتن ) دليلاً وأجلّ ذوقاً وأوثق برهاناً وأرفع نظراً ، وهم الحكماء الإيمانيون ، والأفاضل الربّانيون كأبي يزيد البسطامي ، وسهل التستري ، والجُنيد البغدادي ، ومحي الدين الأعرابي وتابعيهم ، أن أسماء الله تعالى بعينها مبادئ الفصول الذاتية للحقائق الإمكانية ، وما يحاذيها من الصور المجرّدة في عالم العقول ، أو الصور الحسية في عالم الجسم مستهلكة التأثير والأثر تحت سطوع الأنوار الإلهية والأسماء الربوبية ، استهلاك النور الضعيف في النور الأقهر القوي ، واضمحلال وجود السافل تحت وجود العالي . فإذا علمت هذا ، وتذكرت ما ادّعيناه فيما سبق ، من أن الإنسان بحسب الباطن والنشأة الأخروية أنواع كثيرة حسب كثرة الأخلاق المتخالفة ، والصفات الغالبة الراسخة المتنوعة ، أيقنت معنى كون " يوم القيامة " " يوم القضاء " " ويوم الفصل بين الخلائق " ، فالله يقضي بينهم يوم القيامة بحسب ظهور مظاهر أسمائه ومجالي شؤونه ، ويفصل بينهم بالحق ، ويميز المحق من المبطل في ما يختلف فيه من الأديان والمذاهب ، وقد مر منّا نقل آيات دالة على أن أنواع الإنسان كثيرة بحسب النشأة الآخرة ، وظهور هذه الكثرة في حقائق الإنسان ، إنما يتوقف على قيام الساعة ، لقوله تعالى : { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] . تذكرة الدنيا دار اشتباه ومغالطة ، متشابك فيها الحق والباطل ، ويتعانق فيها الخير والشر ، والنور والظلمة ، ويتقابل المتخاصمان ، والآخرة دار الفصل والتفريق ، يتفرق المختلفان ، { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، ويتميز المتشابهان ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وينفصل الخصمان ، ويحق الحق ويبطل الباطل { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] ، وليحق الحق ويبطل الباطل ، والآخرة دار جمع أيضاً ، ولا منافاة بين هذا الفصل وذاك الجمع ، بل هذا يوجب ذاك كما في قوله تعالى : { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ } [ المرسلات : 38 ] . و " الحَشْر " أيضاً بمعنى الجمع : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] . وحَشْر الخلائق على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم وملكاتهم ، فلقوم على سبيل الوفد : { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [ مريم : 85 ] ، ولقوم على وجه التعذيب : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ } [ فصّلت : 19 ] ، وبالجملة ، يحشر كل أحد إلى ما يتوجه إليه باطنه ويعمل لأجله ظاهره ويحبه بقلبه ويشتاقه بجنانه : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] ، { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ } [ مريم : 68 ] ، وفي الخبر عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " لو أحبَّ أحدكم حجراً لحُشِر معه " . تذكرة أخرى إعلم أن عجائب عالم الآخرة عظيمة ، وأشخاصه وأنواعه كثيرة ، وكل ما يوجد في هذا العالم من الحيوانات يوجد نظيره في الآخرة ، مع أنواع أُخر لم تعهد في الدنيا ، وما سوى الإنسان لا ينتقل من هذه الدار إلى تلك الدار ، وإنما نشأت جميع الخلائق يوم القيامة من ماهية الإنسان وعقله الهيولاني . ووجه ذلك : إن تكرر الأفاعيل والانفعالات البدنية يوجب حدوث الأخلاق والمَلَكات النفسانية ، وكل صفة ومَلَكة تغلب على باطن الإنسان تتصور في الآخرة بصورة تناسبها ، ولا شك أن أفاعيل الأشقياء المدبِرين بحسب هممهم القاصرة عن ارتقاء عالم المَلَكوت ، النازلين بحسب دواعيهم الخسيسة في البرازخ الحيوانية بالأعمال الشهوية والغضبية والوهمية البهيمية والسبعية والشيطانية ، فلا جرم تكون تصوراتهم مقصورة على أغراض حيوانية أو شيطانية تغلب على نفوسهم ، ويُحشرون على صور تلك الحيوانات والشياطين في دار الآخرة ، كما في قوله : { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ] . وقوله : { لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ } [ مريم : 68 ] . وقوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . وفي الحديث : " يُحشر الناس على نيّاتهم " ، " يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير " ، وهكذا الناس يتصورون بصورهم الحقيقية الأخروية التي تقتضي ملكاتهم وأخلاقهم على أهل الكشف وأصحاب الشهود ، الذين غلب على باطنهم سلطان الآخرة ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .