Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 20-20)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا الرجل ، هو " حبيب بن إسرائيل النجّار " ، وكان في سابق الزمان ينحت الأصنام ، وهو كناية عن اشتغاله سابقاً بالإعتقادات الجزئية ، والصور الخيالية والوهمية ، التي يتصور وجودها في الخيال بتصرف القوة المتفكّرة ، وهي التي من شأنها تصوير الحقائق في كسوة الحكاية الخيالية ، وإنكار العقائد الحقة الإلهية ، إلاّ في صور المحسوسات ، فصاحب العقيدة الوهمية ، لقصور علمه ما يعتقده إلهاً ، وليس إلهه ومعبوده - على حسب اعتقاده - إلاّ ما يوجده بوهمه ، ويصوِّره بقوته المتصرّفة ، فهو الذي ينحت صَنماً ، ويعتقده إلهاً ، ويتخذه معبوداً ، كما في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] . وأكثرُ الناس - إلاّ مَنْ أيّده الله بالتقديس الأتَمّ ، والتنزيه الأكمَل - عابدون لأصنام العقائد الجزئية ، ومعتقدون للصوَر الوهمية ، حتى أن عبدة الأصنام الخارجية ، الحَجَرية والخشبية والمعدنية ، إنما عبدوها لإعتقادهم معنى الالوهية في تلك الأجساد ، من الجماد وغيره ، فَهُم أيضاً بالحقيقة ، قد عبدوا معتقداتهم ، وما حصل في أوهامهم ، فالهوى معبودهم جميعاً أوّلاً وبالذات ، والصنم الخارجي معبود لهم بالعرض ، فعلى هذا ، غير الموحّد العارف ، لهم جميعاً اشتراكٌ في الإشراك ، واتفاقٌ في طلب الهوى وعبادة غير الحق وما سوّى . وَمَا مِن مؤمن ، إلاّ وَلَهُ عُبورٌ عن هذه الإعتقادات الجزئية ، فَورودُ الصُّوَرِ الوهمية ، أو الأصنام الخيالية ، لا عَلَى وجه الإذعان ، بل على مسلك التفتيش وتصوير الاحتمالات البعيدة ، لِيُقامَ على نَفيِها البُرهان ، كما وقع للخليل - على نبينا وآله وعليه السلام - من العبور على آلهة عبدة الكواكب ، لزيادة الكشف واليقين ، في تنزيه الحق الأول عن مماثلتها ، ولإقامة البرهان ، على فسادَ تَوَهُّم المحجوبين ، وإخراج تلك الصور ، التي هي إله سائر المعتقدِين ، من المشركين والمعطّلين ، من أن تستأهل اعتقاد الألِوهيَّة فيها ، فإنه يوجب العذاب الأليم ، ويستدعي عقوبة الاحتجاب من الله ، والتَّردِّي إلى أسفل دَرْك الجحيم . فقد ظهر أن أهل البصيرة الإلهية ، يَعْبُرونَ عنها في أسرع زمان ، مِن غير أن يتضرروا بها ، كما قال واحد من أهل البيت ( عليهم السلام ) : " جزناها وهي خادمة " ، وإليه الإشارة في قوله سبحانه : { إِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 71 - 72 ] . فكان حبيب النجّار ، من جملة أهل البصيرة ، الذين نوَّرَ الله بواطنهم بِكَشْف الحقائق ، والارتقاء من عالم الوهم والخيال ، إلى عالم التقديس بنور المعرفة والحال ، وهو أحد السبّاق الثلاثة ، المذكورة في قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " سبّاق الأمم ثلاثة ، لم يكفروا بالله طرفةَ عَيْن : علي بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون " وفي تفسير الثعلبي بزيادة قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " وَعَليٌّ أفضلُهم " . وهم ممن آمن برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تُبَّعٌ الأكبر وَوَرَقَة بْنُ نَوفَل وغيرهما ، وهذه إحدى خصائص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إذ لم يؤمن احد بنبي غيره إلاّ بَعْدَ ظهوره ، وفيه سرُّ قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " كنتُ نبيّا ، وآدم بين الماء والطين " . وها هنا سر آخر ، وهو أنه قَدْ وَرَدَ في الحديث عنه ( عليه السلام ) : " إن لكل شيء قلباً ، وقلب القرآن يس " فلعل ذلك لما قد ذكر الله فيها " حبيب " ، المشهور " بصاحب يس " ، وَوَصفَه بما يدل على قربه ومنزلته عند الله ، من التوحيد والكرامة والنصيحة لقومه ، وهو ممن آمن بنبينا قبل بعثه بستمائة سنة ، ففي ذلك آية عظيمة لنبوته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكونه حبيب الله ، الذي آمن به حبيبٌ قبل ظهوره هذا . وقيل : كان في غار يعبد الله ، فلمّا بَلَغَه خبرُ الرسل ، أتاهم ، وأظهر دينه لهم ، وقاوَلَ الكفرة الجحدة ، فقالوا : " وأنت تخالف ديننا ؟ " فوثبوا عليه فقتلوه ، وقيل : توطّئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه ، وقيل : رَجَموه وهو يقول : " اللهم اهدِ قومي " ، وقبره في سوق انطاكية ، فلما قُتِل ، غضب الله عليهم ، وأُهلِكوا بصيحة جبرئيل ( عليه السلام ) . ويفهم أيضاً من قوله تعالى : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ } ، أنه ممن كان مستوحشاً عن الخلق ، مؤثِراً للعزلة والخلوة . وقيل : كان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، وكان قد آمن بالرسل عند ورود اثنين منهم القرية ، كما نقلنا من قصتهما ، وسبب إيمانه برسالتهما ، فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهمّوا بقتلهم ، جاء يعدو ويشتد ، قال : " يا قوم اتبِعوا المرسلين ، الذين أرسلهم الله إليكم ، وأقِرّوا برسالتهم " . وعن ابن عباس : أنه كان به زَمانة وجذام فأبرأوه ، فآمن بهم ، وقيل أنه إنما علِم بنبوَّتهم لأنهم لمّا دَعوه قال : " أتأخذون على ذلك أجراً ؟ " قالوا : " لا " ويؤيده قوله تعالى : { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [ يس : 21 ] :