Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 30-30)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } : أي أنهم حقيقون بأن يتحسَّر عليهمُ المتحسِّرون ، ويندم على أفعالهم النادمون ، أو هُم متحسَّر عليهم من جهة الملائكة ، وأهل الإيمان من الأنس والجانّ ، أو من جهة الله ، إما على سبيل الإستعارة في فرط انكاره تعالى ، لما فعلوه ، وتعظيمه ما جنَوْه على أنفسهم ، أو باعتبار وقوع الحسرة من بعض عباده المخلصين ، من قبيل ما روي في حديث : " يا موسى مرضت فلم تعدني " ، وكان المريض بعض الصالحين من عباده - تعالى عن النقص والشَّين علوّاً كبيراً - . ويؤيد هذا الوجه قراءة من قرء : " يا حسرتا " لأن المعنى : يا حسرة عليهم ، ثم الوجه في مثل هذا النداء ، إنه عبارة عن إحضارِ صورة في الخيال ، احضاراً قوياً ، حتى كأنها موجودة في العين ، ثم الخطاب معها بالطلب والدعاء ، لأن الحال مما يستدعي حضور مثلها ، فمعنى هذا النداء أن : " يا حسرتا إحضري " فإن هذه الحال ، من الأحوال التي يجب حضورك فيها ، فحقكِ أن تحضري فيها ، وهي حال استهزاء العباد وأهل العناد بالرسل . وقريء : " يا حسرة العباد " بالإضافة اليهم المفيدة للاختصاص بها من توجهها اليهم . وقريء : " يا حسرةَ على العباد " بالهاء أجراءً للوَصْل مجرى الوَقفْ . ثم بيّن سبب الحسرة ، ومنشأ الندامة بقوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ 30 ] : وسبب استهزاء الناقصين من الناس ، والكفرة والمنافقين بالرّسل والأولياء ، وكل من سلك سبيلهم في الاشتهار بذكر الله ، والشتوّق إلى معرفته ، ومعرفة ما ينتمي إليه ، من ملائكته وكتبه ورسله وأوليائه وعباده المكرمين ، والإعراض عما أكَبَّ عليه الناس ، من طلب الجاه والمال ، ومعاشرة الخلق والمداراة معهم ، والخوض في أمورهم والمشاركة في دنياهم . وذلك لأن الرسل ( عليهم السلام ) ومَنْ تابَعَهم ، هم رجال الله البالغون في العقل والبصيرة ، لا يؤثرون على لذة النظر إلى وجه ربهم لذة ، ولا يريدون غير الوصول إلى خدمته وطاعته نعمة وسروراً ، ولا يكدّرون شراب محبة الحق الأول ، برجاء نعيم أو خوف جحيم ، وباقي الناس بمنزلة الأطفال الناقصين عن درجاتهم ، ومراتب نَقْصِهم على حسب جهالاتهم . فإن مثال الخلائق في لذاتهم ما نذكره ، وهو أن الصبي في أول نشوئه وحركته وتمييزه تظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو ، ويكون ذلك عنده ألذ الأشياء لقصور نظره وهمته عن إدراك ما عداه ، والتشوق إليه ، ثم تظهر بعده لذة الزينة ، ولبس الثياب ، وركوب الدواب ، فيستحقر منها اللعب ، ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء ، فيترك بها جميع ما قبله في الوصول إليها ، ثم يظهر بعد هذه الأمور لذة الرياسة والعلوّ والتفاخر والتكاثر ، وهي آخر درجات لذات هذه الدنيا ، وأعلاها وأقواها ، وآخر ما يخرج عن رؤوس السالكين إلى الله . وللإشارة إلى هذه المراتب في اللذات قال تعالى : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ } [ الحديد : 20 ] . ثم يظهر بعد هذه غريزة أخرى ، يدرك بها معرفة الله تعالى ، ومعرفة صفاته وأفعاله ، فيستحقر معها جميع ما قبلها ، فكل متأخر فهو أقوى ، وهذا هو الأخير ، إذ يظهر حب اللعب في سن الصبا ، وحب النساء والزينة في سن البلوغ الحيواني ، وحب الرئاسة والعلوّ والتكاثر في سن العشرين ، وحب العلوم الحقيقية في قرب سن الأربعين - وهي الغاية العليا ، ومرتبة رجال الله هذه المرتبة - . والناس كلهم بالقياس إلى هؤلاء ، في منزل واحد ، هي الدنيا ومحبة ما فيها ، وكما أن الصبيان يضحكون عمن يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرئاسة ويستهزؤون بهم ، فكذلك الرؤساء والمتصدّرون في المجالس ، والمتقلِّدون في المناصب ، يستهزؤون بِمن تَرَك الدنيا وزينتها ورفعتها ، واشتغل بمعرفة الله واشتهر بذكر الله ، والعارفون بالله يقولون : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] . ولهذا ذكر بعض أصحاب القلوب : " أن الإنسان إذا بلغ مرتبته في العلم بالله ، ومحبته بذكر صفاته وأفعاله الغاية العليا ، رماه الناس بالحجارة " . أي يَخْرُج كلامه عن حد عقولهم ، فيرَوْنَ ما يقوله جنوناً . فقصدُ العارفين كلهم لذة معرفة الله تعالى ، ووصله ولقائه فقط ، فهي قرة أعينهم التي لا تعلم ما أخفي لهم من قُرَّةِ أعين ، وهي التي لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلب بشر ، وإذا حصلت لهم لذة معرفة الله ، ومطالعة جمال الحضرة الربوبية ، والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ، تضمحل منهم الرسوم ، وتنقطع عنهم الهموم إلى غير طلب حبيبهم ، فليس لهم عند ذلك التشوق إلى شيء سوى الحق ، سواء كان من باب الدرهم والدينار ، أم من باب الأراضي والعقار ، أم من باب الترفّع والافتخار ، الذي هو أجلّ لذات هذه الدار . والناس إذا شاهدوا منهم ما يخالف أطوارهم وأفعالهم ، من طلب الخمول والإنزواء والاستتار ، وترك التبسّط والتزين والاشتهار ، يعدّونه إما من السحر والمكر ، وإما من السفه والبعث ، فَهُم إما يعاندونه أو يستهزؤون به . { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] ، لأن نظام هذا العالم وتعميره ، لا يتصور إلاّ مِنَ المكبّين على الحسّيات ، الهالكين كالفراش في نيران الشهوات ، المعرضين كالخفافيش عن أنوار الحِكَم والعقليات ، الجاحدين كالكُمْهِ الأضَالِيل لألوانِ المعارف واليقينيات ، المنكرين كالعِنّين للذّات النفوس العاليات وكراماتهم ، والعقول القادسات في مناجاتهم .