Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 42-42)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وَخَلَقْنا لهم ، من مثل الفُلْكِ مطلقاً ما يركبون من الإبل التي هي سفائن البر ، وعلى الوجه الأول معناه : وخلقنا لهم من مثل ذلك الفلك المشحون وصورته من السفن والزوارق ، التي عُمِلت بعد سفينة نوح ( عليه السلام ) ، ما يركبون فيها كما ركب فيه . انظر كيف روعِيَتْ المناسبة اللفظية والمعنوية أولاً بين لفظي " الفلك " ، و " الفلك " في الآيتين القرينتين . أما المناسبة اللفظية فهي ظاهرة ، أما المناسبة المعنوية فمنها ما نقلناه أوَّلاً في تفسير الفَلَك - بفتحتين - ، ومنها ما ذكرناه ثانياً في تفسير الفُلْك - بالضم - . ومنها : أنه لا بُدَّ لحركة كل منهما ، بل لحركة كل من الثلاثة من محرك نفساني ذي إدراك ونُطْق ، أما في الأخيرين فظاهر مشهور للعامة ، وأما في الفَلَك بمعنى السماء ، فهو أيضاً مبيَّن مكشوف للخاصة . ومنها : أنه لا بُدَّ لِحَرَكَة كلٍ منها إلى محرك ملاصق هو طبيعة أو صورة ، فيحتاج كل منهما إلى المُحَرِّكين المباشِرين للتحريك : أحدهما : المحرّك المدبِّر المفارِق - من نَفْس فَلَكي أو إنساني - وثانيهما : المحرك المباشر من طبيعة طائعة مجبورة ، أو كارهة مقسورة . ومنها : أنها تحتاج فوق المحرِّكَين المذكورَيْن ، إلى محرِّك آخر مباين مفارق ، هو من رياح رحمة الله ، وبوارق ألطافه الخاصة والعامة ، العقلية والحسية ، فإن النفوس الفَلَكيَّة ، كما بُرْهِنَ في الحكمة ، لا تُحَرِّك الأفلاك حركة دائمة إلاّ بإمداد العقول القادسة ، التي هي بوارق لطف الله ، وجهات جوده ورحمته ، بتجَدُّدِ اشراقاتها ، وتوارُدِ رياح رَحَمَاتها ، كما في قوله : { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } [ الرعد : 12 ] . وكذا النفوس الإنسانية ، التي هي عمّال السفائن ، لا تنفع دقائق حِيَلِها وتدابيرها ، في جَرْي السفن من دون هبوب الرياح من رحمة الله المالكة لجهات حركاتها ، كما قال : { هُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] وكذا الحال في " فَلَكَة المغزل " فاعْرِفْه . ثم انظر كيف تحققت المشابهة ثانياً ، بين " الفُلْك المشحون " و " ما يركبون " ، أي : مراكب البحار ، ومراكب البراري في الشكل والهيئة ، ثم الخِلْقَة والطبيعة ، ثم القوائم والأعمدة ، ثم الجَرْيُ والحركة ، ثم الآلات من الطناب والحبال والأعصاب وغير ذلك ، مما يحتاج بيانه إلى التفصيل ، ويؤدي ذكره إلى التطويل ، فاقْضِ العَجَبَ حامداً لله ، مثنياً عليه في خلقه تعالى هذه المخلوقات العجيبة ، والعظيمة المنافع ، ثم في إخباره تعالى عنها ، وعن منافعها بأوْجَزِ عِبَارَة وأنور إشارة . تلويح تأويلي واْعلَمْ أصْلَحَكَ الله ، أن مثلك في هذه الدار ، وبحر الهيولى الموّاجة بما فيها من الصُّوَرِ والآثار ، مثل السفينة في البحر ، المُحْكَمَة الآلة ، المُتْقَنَة الأداة خَلَقَها الله بِحِكُمَتِه ، وسخَّرها لك بعنايته ، وأجْراها برياح عنايته ، فإنها لا يتهيأ لها السير إلاّ بِهُبُوبِ الرياح المحرِّكة إياها إلى الجهات ، فإذا سكنت الريح ، وقفت السفينة عن ذلك الجَرْي ، ولا ينقص شيء من آلاتها إلاّ ذهابُ الرياح ، كذلك جسد الإنسان إذا فارقته النفس وانقطعت عنه الإفاضة ، لا يُتهيأ له تلك الحركة ، ولم يُعْدَم من الله ولا ذهب من أعضائه شيء ، إلاّ ذهابُ الريح وانقطاع الفَيْضِ عنه فقط . ومعلوم بالبرهان ، أن الريح ليس من جوهر السفينة ولا السفينة حاملة لها ، بل هي محرِّكة لها ، ولا تقدر السفينة ومَنْ عليها على استرجاع الريح بعد ذهابها ، بحيلة يعملونها أو صنعة يصنعونها ، كذلك الروح الذي من أمر ربه ، ليس من جوهر الجسم ولا الجسم حامل للروح ، ولا يقدر أحد من العالَم على استرجاع النفس إذا فارقت . فإذا تَحَقَّقَ ذلك ، وَثَبَتَ أن جسمك كسفينة مُعَدَّة لهبوب الرياح بها ، وورودها عليها ، عُلِمَ أن هلاك السفينة إذا هلكت من أحد الحالين : إما بفساد جُرْمِها ، وانحلال تركيبها فيدخلها الماء ، ويكون ذلك سبباً لغرقها وهلاك من فيها إن غفلوا عنها ، ولم يتداركوا بالإصلاح لها والتفقد لحالها ، كهلاك البدن من غَلَبةِ أحَدِ العناصر ، ودخول الرطوبة المعفّنة في البدن من بحر الهيولى ، من تهاون صاحبه به وغفلته عنه ، فلا تبقى الروح معه إذا فسد مزاجه ، وتعطّل نظامه ، وتَعَوَّجَتْ نِسْبته ، وضَعُفَتْ آلته ، كما لا تبقى الريح للسفينة ، والريح موجودة في هبوبها غير معدودة ، كما أن الروح باقية ببقاء علَّتها في انعقاد معادها . وأما القسم الثاني : فهو أن يكون هلاك السفينة بقوة الريح العاصفة الهابّة الواردة منها على السفينة ، ما ليس في وسع آلتها حملُها ولا القدرة عليها ، فتضعف الآلة وتكسر السفينة ، فإن كان من فيها عارفين بعلم السباحة ، اطمأنت نفوسهم ، ورضوا بقضاء الله فيهم ، وَوَعَظَ بعضهم بعضاً ، فنجوا عن ذلك من الهلاك في البحر . كذلك حال الحكماء العارفين بأحوال المبدء والمعاد ، والكاملين في العلم والعمل ، الناجين من غرق بحر الهيولى ، العالمين بِعلم السباحة ، بل الطيران في جوّ عالم القدس ، بجناحي المعرفة والتقوى . فإذا علمت هذا فنقول لك : " الذرية " في قوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } [ يس : 41 ] إشارة إلى الروح الإنسانية ، و " الفلكِ المشحون " إشارة إلى البدن المخلوق كالسفينة ، لأجل استكمال النفس وإخلاصها من هذه الدار ، ومنزل الأشرار ، لكونها في أول الفطرة أمراً ضعيفاً شبيهاً بالعدم ، وعقلاً هيولانياً يكون كمالاته بالقوة ، فيحتاج كالطفل إلى ما يكون له بمنزلة المهد . فَكَوْنُه " مشحوناً " ، إشارة إلى كون البدن مملوءاً بالقوى المدركة والمُحَرِّكة ، التي هي بمنزلة سكّان السفينة وعمّالها ، ولكلٍّ منهم عمل خاص ، وآلة مخصوصة لجريان السفينة . وقوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } إشارة إلى البدن المثالي البرزخي ، الذي تتعلق به النفس ، وتَرْكَبُ عليه ، ما دامت تكون في عالم البرزخ عند القبر قبل البعث ، كما ذهب إليه الأقدمون من الحكماء ، ومال إليه كثير من الإسلاميين ، ودلَّ عليه الكتابُ والسُّنة ، وأيّدته الإمارات والشواهد ، كانذارات النبوة والرؤيا الصالحة في حكايات الموتى وغيرهما ، مما يؤدي بيانه إلى التطويل ، وموعد ذكره مقام أَلْيَقُ من هذا في التنزيل . تنبيه عِرْفاني هذه الدنيا الفانية المهلكة ، الداثرة الملهية ، هي بعينها طريق إلى الآخرة في حق مَن عَرَفَها ، وعَرَفَ درجاتِ العبد إلى الله سبحانه ، إذ يعرف بنور البصيرة ، أنها منزل من منازل السائرين إلى الله ، وهي كجزيرة في البحر ، أُعِدَّ فيها العَلَفُ والزاد وأسباب السفر إلى المقصود ، فمن تَزَوَّدَ منها لآخرته ، واقتصر منها على قدر الضرورة ، فقد ربحت تجارته ، وفاز بنعيم الآخرة ، ومَن عَرَّجَ عليها ، واشتغل بلذّاتها ، هَلَكَ وخسر خسراناً مبيناً . ومثال ذلك ، الخلق فيها ، كَمَثَل قوم رَكِبوا في سفينة ، فانتهت السفينة بهم إلى جزيرة ، فأَمَرَهُم الملاّح بالخروج لقضاء الحوائج ، وخّوفهم المقام واستعجال السفينة فتفرقوا فيها ، فبادر بعضهم ، وقضى حاجته ورجع إلى السفينة ، فوجد مكاناً خالياً واسعاً . ووقف بعضهم ينظر في أزهار الجزيرة وأنوارها ، وطرائف أحجارها وأصنافها ، وعجائب غياضها ونَغَمَات طيورها ، فرجع إلى السفينة فلم يجد إلاّ مكاناً ضيِّقاً . وأكبّ بعضهم على تلك الأصداف والأحجار ، وأعجبه حُسْنُها ، فلم يسمح لنفسه إلاّ بأن يستصحب شيئاً منها ، فلم يجدْ في السفينة إلاّ مكاناً ضيِّقاً ، وزادته الأحجار ثقلاً على ثقل ، وضيقاً على ضيق ، فلم يقدر على رميها ، ولم يجد لها مكاناً فحملها على عنقه وهو ينوء تحت أعبائه . وَوَلج بعضهم الغياض ، ونسي المركب ، واشتغل بالتفرّج على تلك الأزهار ، والتناول من تلك الثمار ، وهو في تفرّجه غير خال من خوف السِّباع ، والحذر من السَقَطَات والظلمات ، فلما رجع إلى السفينة لم يصادفها ، فبقي على الساحل فافترسته السباع ومزَّقته الهَوَامّ . فهذه صورة أهل الدنيا بالإضافة إلى الدنيا ، وأصنافهم بالنسبة إلى العُقْبى ، فتأمَّلْهَا واستخرج وجه الموازنة إن كنت ذا بصيرة ، والمطابقة بين هذه الآية والآية الآتية من قوله : { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [ يس : 43 - 44 ] :