Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 43-44)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إنْ نَشَأْ نُهْلِكْهُم في البحر إذا حملناهم في السفن ، ونغرقهم بتهييج الرياح القَهْرِية والأمواج والإضطرابات ، من آثار الغضب الإلهي ، للفجّار والأشرار ، الذين لا صلاح لوجودهم في هذه الدار . { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } أيْ لا مُغِيثَ لهم ، أو لا إغاثة لهم ، كما يقال : " أتاهم الصَّريخُ " . { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } أي لا يَنْجون من الموت والهلاك " إلاّ رحمةً منّا " بأن نخلصهم في الحال من الأهوال والغرق والموت إلى وقت الآجال ، وموعد الإنفصال والإتصال ، ونُمَتِّعهم قليلاً ثم نَضْطَرُّهم إلى النار ، إن كانوا من الفسقة والفجّار ، لما في وجودهم مدةً في الدنيا مصلحة لغيرهم في عمارة هذه الدار ، أو نمتّعهم متاعاً حسناً إلى حين الأجل ، لاستكمالهم مدةً في العلم والعمل ، وَصَرْفهم نعم الله ، فيهم في العبادة والطاعة برهة من الزمان شكراً لله عزّ وجلّ ، لا في هواء النفس وشهواتها مع الحرس وطول الأمل ، وقرأ الحسن : نغرقهم . حكمةٌ قرآنية تَتَجَلَّى بها عِنايةٌ رَحْمانِيَّة اعلم أن الحكماء والمتكلمين اختلفوا في حكمة تَعَلُّق النفس بهذا البدن المركّب من العناصر المختلفة ، وركوبها في هذه السفينة الجارية في بحر الطبيعة بأمر الله مدة من الزمان ، بمقتضى المشيّة ، وتشعبّوا القول فيها ، وما بلغ إلينا من أكابر العلماء ، واطّلعنا بمطالعة زُبُر القدماء من الحكماء ، وألهَمَنا الله بحسب متابعتنا طريقة الأنبياء والأولياء ، هو أن لكل نفس من النفوس ، مرتبةً من الفِعليَّة والكمال في الوجود ، ونصيبها اللائق بحالها من خزائن الرحمة والجود ، ولا يمكن الزيادة عليه حسب ما جبل عليه وفطر ، بحسب هُوِيَّتها الشخصيّة من جهة الفاطر الودود ، وهو لسان عبادتها وتسبيحها للحق المعبود . وسبب تعلُّقها بالبدن ، استخراج ما في مكمن ذاتها ، ومخزن هُويَّتها من القوة إلى الفعل والتحصيل ، واستكمال جوهرها بالكمال اللائق بحالها من تكرار الأفاعيل ، وهذه المرتبة من الكمال الإضافي الوجودي ، المختص بواحد واحد من أفراد النفوس ، غير ما يمكن حصوله لطبيعة هذا النوع الإنساني ، الذي هو الغاية القصوى في الكمال ، ولطبقة خاصة من أفاضل أفراده المقرَّبين من الحق المتعال ، ولا ينافي أيضاً ما ذكرناه ، شقاوة أكثر الناس من الكفّار والجهّال وأصحاب الشمال ، وحرمانهم وطردهم وبُعْدِهم من رحمة الله ، المختصة بحال الكاملين في المعرفة والحال ، المقرَّبين والسعداء المرتفعين عن مهابط الأرذال . وَلِما سبق وثبت في صدر هذه الآية ، أن " الذريّة " إشارة إلى الأرواح الإنسانية ، و " الفُلْك المشحون " إلى البدن المملوء من القوى والمشاعر الحسيّة ، وقوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ يس : 42 ] إشارة إلى البدن الأخروي البرزخي المثالي ، فنقول : إن النفوس المتعلقة بهذه الأبدان العنصرية ، الراكبة على السفن الجارية في بحر عالم الطبيعة ، منقسمة إلى أقسام ثلاثة : المغرِقون في بحر اللّذات ، المحترِقون بنار الشهوات ، فلا صريخَ لهم من أبناء عالم القدس وَسُكّان الجبروت ، ولا هم يُنْقَذونَ من قيود العالم الأدنى ، ومنزل الأبالِسة والشياطين ، المردودين إلى أسفل السافلين ، تحطمهم نيران جهنم الآخرة ، التي يُقال لها : هل امتلأتِ ؟ فتقول هل مِنْ مَزيد ؟ ويعذبهم الله العذاب الأكبر ، بما لديهم من مؤذِيات الأخلاق الرديّة ، ومؤلِمات المَلَكَات المُردِيَة . ومنهم المرحومون لسلامة فطرتهم ، وقصور معاصيهم ، وضعف علائقهم الجسمانية ، فهم من أهل الرحمة والشفاعة ، سواء صَفَتْ نفوسهم عن الأخلاق الرديَّة والأمراض النفسانية ، أو كانوا ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وذلك لضعف عوائقهم ، وقلّة علائقهم ، فنجوا من العذاب المهين ، بشفاعة الشافعين . ومنهم المقرَّبون من أهل الكمال العلمي ، فلهم الحظ الأوفى ، والمنزلة العظمى ، سواء بقوا في الحساب مدة ، وتعوقوا في بعض المنازل بسبب تقصيرهم في بعض الأعمال ، أو بشؤم اقترانهم بجنس سوء من القوى المتأبيّة عن طاعة الروح في حق الله ، المتعصيّة في الأفعال . فقوله : { إِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } إشارة إلى القسم الأول يدل عليه مطابقة ، وهم مثل الهالكين في البحر من التجّار ، والخاسرين في سعيهم وتجارتهم { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] وهو أيضاً إشارة إلى القسم الثاني ، دال عليه التزاماً ، لأن رفع المركّب من الشيئين ، قد يكون برفع أحد جزئيه ، فتحقق عند هذا قسم آخر ، وهو الذي لا صريخَ له من مُعَلَّم أو مرشد يتعلم منه طريق الهداية ، ويسلك به سبيل النجاة ، إلاّ أنه ينقذ وينجو من الهلاك بمجرد سلامة ذاته عن الوِزْر والوَبَال ، لقلة الأحمال والأثقال ، وهو بازاء من ينجو من الغرق عند انكسار السفينة في البحر ، بيدٍ صفرٍ من رأس المال والربح فيحتاج إلى صَدَقَة الغير ، وشفاعة من يشفع له من أهل الأرباح ، ويسعى لأجله ما يتقّوت به باطنه ويكسو به ظاهره . وقوله : { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } إشارة إلى القسم الثالث من المقرّبين ، حيث أمهَلَهُم الله في الدنيا لأجل استكمالهم بالعلم والعمل ، وسلوكهم سبيل الحق وعالم القدس في سفينة البدن ، حتى فازوا بنعيم الأزل ، ووصلوا إلى رضوان الله سبحانه ، ومشاهدة صفاته وآياته قبل انقضاء الأجل ، وهم بازاء الرابحين بتجارتهم في سفر البحر ، والواصلين سالمين غانمين إلى منزلهم المعهود مع الأهل والولد ، واجدين غايةَ سفرهم وسَعْيهِم من المال الذي بذلوا فيه غاية المجهود .