Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 45-45)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وإذا قيل للمشركين والفجّار ، المنافقين المغترِّين بعقولهم القاصرة ، وفطانتهم المبترة : اتقوا ما بَيْنَ أيديكم من أمر الآخرة ، فاعملوا لها ، واحذروا عقوبتها وعذاب نيرانها ، وما خَلْفَكُم من أمر الدنيا ، فأحذروها ولا تغترّوا بظاهر زينتها وَرَوْنقها وَتَزْويقها ، وذلك كما في قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [ سبأ : 9 ] . لعلَّكم تُرحمون : أي لتكونوا على رجاء رحمة من الله ، لأن من خاصيّة الإتّقاء استجلاب الرحمة الالهية . وعن مجاهد : اتقوا ما مضى من الذنوب ، وما يأتي من الذنوب ، أراد به : اتقوا عذاب الله بالتوبة للماضي ، والإجتناب للمستقبل . وعن قتادة : اتقوا العذاب المُنْزَل على الأمم الماضية ، وما خلفَكم من عذاب الآخرة . وروى الحلبي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : " معناه اتقوا ما بينَ أيديكم من الذنوب ، وما خلفَكم من العقوبة " . وسيأتي لك لهذا الوجه زيادة تحقيق وتطبيق . وأما جواب " إذا " فهو محذوف ، دلَّ عليه قوله : { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ يس : 46 ] تقدير الكلام : إذا قيل لهم اتقوا أعْرَضوا عن التأمل في الحُجَج والبيِّنات ، وعن التفكر في أمور الآخرة ، عن مأخذ العلوم اليقينيّة دون ظواهر النقول والحكايات . مكاشفة قلبية إعلم أن المعلوم المكشوف عند أهل الله ، أن تكرار الأفاعيل والأعمال ، يوجب حدوث الأخلاق والمَلَكَات ، وهي مما سيظهر في النشأة الآخرة بصورة تُنَاسِبُها ، فما هو سبب إيلام الأشقياء في العقبى ، من الحيّات والعقارب والنيران والحميم ، والزَّقُوم ، فهو بعينه موجود في سرّ قلبه ، ومكنون باطنه ، وإن لم تشاهده هذه العين وهذه الحواس ، لأنها ينحصر إدراكها ، بملاحظة الظواهر في صورها الدنيوية ، وأما إدراكها بحقائقها وصورها الباطنية ، فإنما تختص بذلك مشاعر باطنية ومدارك أخروية . فما وَرَدَ الأمر باتقائه في قوله : { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } ، يرجع إلى أمر واحد ، تارةً يكون في الدنيا بطور يناسب ظهوره في هذه النشأة ، من صورة شهية مُلِذَّة تتلذذ به الحواس ، ويشتاق له الوَهْم الحيواني والتخيّل البهيمي ، وتارة يكون في الآخرة ، بطور يناسب ظهوره فيها ، من صورة مؤلمة موحشة مؤذية : تتألم بها نفوس الأشقياء ، ويستوحش منها كلٌ من المشتغلين بها ها هنا ، قائلاً عند كشف الغطاء ورفع الحجاب وحلول العذاب : { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ] . فبالحقيقة ، ما يكون في الآخرة سبب إيلام المعذَّبين ، ومنشأ عقوبة الفاسقين ، هو معهم ها هنا ، وفي إهابهم من العقائد الباطلة والنيّات الفاسدة والأغراض النفسانية والدواعي الحيوانية ، من حب المال والجاه والكِبْر ، والفَخْر والحسد ، والرُّعونَة والمكر ، والحيلة والرياء ، وطلب الشُّهرة ومَيْل الرياسة ، وغير ذلك من الأمور ، التي تندرج جميعها تحت حب الدنيا ، التي هي رأس كل خطيئة . وهو " التنيّن " الذي يَتَوَلَّد منه للمحب للدنيا ، المعرض عن طلب الآخرة ، تسع وتسعون حيّة ، لكل حيّة تسعة وتسعون رأساً ، ينهشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم القيامة ، كما ورد في الحديث في باب عذاب الكافر في قبره ، فهذا التنيّن متمكِّن من صميم فؤاد الكفّار والمنافقين ، ينهشهم ويلحسهم ، لكن لا يُدْرِكونَ إيلام لَدْغه ولَسْعه ، وإيحاش هيئته وشكله ، لسُكْر نفوسهم بمسكرات الدنيا ، ونوم غفلتهم بمرقّدات الهوى ، واشتغالهم بمزَخْرَفات هذه الأدنى . وأهل الآخرة لصحة معرفتهم ، وقوة بصيرتهم ، يشاهدون إيلام هذه المشتهيات ، وَيتَّقون سميّةَ هذه الحيّات ، المكنونة تحت نقوشها المُزَخْرَفات ، المستورة عن إدراك المُكِبيّن على طلب اللّّذات ، وتحصيل المألوفات الحسِّيات ، المعرِضينَ عما أعد الله لعباده الصالحين ، من إدراك الحقائق المعقولات ، والمعارف الالهيات ، مِمّا لا عينٌ رأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ . تعليم فُرقاني فيه سر ربَّاني هل تعلم ما النكتة في التعبير عن الصُّور الواقعة في الدنيا ، التي هي دار المتغيِّرات والمتجدِّدات ، ودار الزراعة والحراسة ، بـ " مَا خَلْفَكُمْ " ، وفي التعبير عن أمور الآخرة التي هي دار الباقيات الثابتات ، ودار الثمرة والجزاء بـ " ما بينَ أيديكم " . النكتة فيه ، أن نَفْسَ الإنسان من جملة المكوِّنات لها ، توجُّه طبيعي إلى عالم الآخرة وعالم البقاء ، فهي منذ خُلِقَت مجبولة بحسب الفطرة ، على أن تسافر من منزل إلى منزل ، وتتخطى من مرتبة إلى مرتبة ، ومن حالة إلى حالة ، ومن طَوْر إلى طَوْر ، حتى تنتهي إلى آخر منزل من منازل الدنيا ، وأول منزل من منازل الآخرة ، ولكل إنسان ، سواء كان من السعداء أو الأشقياء ، درجة معيَّنة في الآخرة ، ومقام من الجنة والنار يقف عنده - هو آخر سَيْره ومنتهى سَفَره - إذ السلوك منقطع هناك ، فالمنازل والدرجات هناك ، بحسب مراتب السير ها هنا ، كمالاً ونقصاً . فإذا تقرر هذا فنقول : ما مِن منزل من المنازل الدنيوية ، ونشأة من النشآت الصورية ، إلاّ وتتجاوزه النفوس وتتخطاه ، وتجعله خَلْفَ ظهرها ، وما من منزل من منازل الآخرة ، إلاّ وتستقبله نفس من النفوس ، وتجعله نصْب عينها ، ويكون حاضراً بين يديها ، فكل نفس من النفوس البشرية ، لها جادة معلومة عند الله تسير فيها ، بحسب ما يَسَّر الله لها ، فإن كانت بحسب ما تَقَرَّر في القضاء السابق ، أنها من جملة الأشقياء ، فهي أبداً تتقوَّى في تجوهرها ، وتشتد في صورة طينتها ، وتتطور في أطوار شقاوتها ودرجات بُعْدِها من رحمة ربها ، إلى أن بَلَغَتْ غايةَ أشُدِّها الباطني . وإن كانت بحسب التقدير من السعداء ، فلا تزال تتقوى روحها بالأغذية الروحانية العلمية ، والأشربة العملية ، فتترقى من طور إلى طور في سعادتها ، وسَلْكِ سبيل سيرها ، ودرجاتِ قربها من الرحمان ، إلى أن بلغت أشدَّها العقلي . ورُشْدَها المعنوي ، فإذا رُفعَ الحجاب ، وكُشِفَ الغطاء ، كانت كل واحدة منها في مرتبتها التي بلغت إليها طرفةَ عَيْن . وإنما الغرض الأصلي من إرسال الرسل وإنزال الكتب ، الاعلامُ والتأكيد لأهل الهداية ، وزيادة التشويق والترغيب والإنذار والترهيب لهم ، وإبلاغ الحجة على أهل الشقاوة والجحود ، وزيادة الإبعاد والطرد والحجاب فيهم ، فإن التعليم والإرشاد لا يوجب لأهل النقمة إلاّ غيّاً وضلالاً ، كما أن الماء الصافي ، لا يزيد في الجِيفَة إلاّ تَعْفيناً وإفساداً ، كقوله تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [ البقرة : 26 ] وكقوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] . فقوله : " اتَّقوا " : خطاب للمشركين أو لجميع المكلَّفين ، إلاّ أن السامع لهذا الكلام ، والمطيع له ، من عَرَفَ نهاية حال الواغلين في الشهوات ، ووخامةَ عاقبة المتلذِّذين بهذه المزخرفات ، وأما الجُهَّال والمنافقون ، فشأْنهم الإعراض عن سماع هذه الآيات ، والإستهزاء بِمَن أتى بالحجج والبيّنات ، كما دلَّت عليه هذه الآية وما يتلوها كنايةً وتصريحاً . وقوله : " ما بينَ أيديكم " : إشارة إلى الصورة المؤلِمة التي يشاهدها الأشقياء في القبر والقيامة ، وعند البعث والحَشْر ، وعند الصراط والسِّياق إلى الجحيم . وقوله : " وما خَلَفكم " : إشارة إلى الأعمال والأفعال القبيحة ، المؤدِّية إلى المَلَكات والأخلاق الردية في عالم القلب الإنساني ، المنكوس إلى السُّفْل ، المنتجة في عالم الآخرة إلى الصورة المؤلمة الموحشة المعذبة ، من النيران والجحيم وسلاسلها وأغلالها ، وحميمها وزقّومها ، وعقاربها وحيّاتها ، ووهداتها .