Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 54-54)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لأنه يوم ايفاء الحقوق وجزاء الأعمال على وجه الحق والعدل في الثواب والعقاب ، إذ لا حكم لأحد غير الواحد القهار ، لارتفاع الأسباب العَرَضية والعلل الإتفاقية ، وانعدام أسباب الجور والظلم ، من جهالة الحكّام وعجزهم عن امضاء الأحكام على التمام ، وتدليس المتحاكمين وابدائهم الشبه والأوهام ، ولانتفاء القواسر والموانع ، وانسلاب التزاحم والتصادم والتضايق ، وغير ذلك من الأمور التي هي من باب ضروريات الأكوان الدنيوية ، والقوابل المادية المركّبة من العناصر المتضادات والأركان المتفاسدات الموجبة للتغالب والتفاسد في الموجودات المتغيرة الأحوال ، المتخالفة الأغراض والآمال . وأما الدار الآخرة ، فالمؤثر هناك أسباب عالية بإذن ربهم ، وعمّال مؤتمرة بأمر موجدهم ، لا يعصون الله ما أَمَرَهُم ويفعلون ما يؤمرون ، والمتأثر نفوس وأرواح إنسانية بحسب ضمائرهم ونياتهم ، مجردة عن الأغشية واللبوسات ، ووساوس النفس وسوء العادات . وبالجملة ، الظلم إذا وقع ، فإنما يقع من الشخص على نفسه ، أو من غيره عليه ، وكلاهما مستحيلان يوم الآخرة . أما استحالة الثاني فيه : فإن المؤثر في الشيء هناك ليس إلاّ ما هو علة ذاتية لذلك الشيء ، لارتفاع الأسباب العَرَضية والمبادئ القسرية ، وعدم تزاحم الأمور وتصادم الأسباب الاتفاقية ، وتضايق الوجود فيه ، والعلة الذاتية للشيء مقوم لوجوده ومحصل لذاته وملائم لطبعه { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] . وأما استحالة الشق الأول ، فلأن ما يصل إلى أحد في الدار الآخرة ليس إلاّ حاصل ما فعله في الدنيا ، لأنها دار الثواب والجزاء بلا عمل ، كما أن الدنيا دار العمل بلا جزاء ، فإن وقع ظلم من أحد على نفسه ، فقد وقع في الدنيا لا في العقبى ، ولهذا قال بعض الكبراء : " ليس الخوف من سوء العاقبة ، إنما الخوف من سوء السابقة " ، " الشقي شقي في بطن أمه " أي في الدنيا . فقد ثبت قوله تعالى : { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } ، أي لا ينقص من له حق من حقه من الثواب ، ولا يفعل به إلاّ بما يستحقه من العقاب ، إذ الأمور جارية على مقتضى الحق والحساب ، معمولة على قانون العدالة والصواب ، وذلك قوله تعالى : { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . بصيرة قَلْبِية إن قوله تعالى : { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } ، مما يشعر بانحصار تحقق الظلم والشر في هذه الدنيا الفانية ، وأما الواصل إلى الأشقياء من عذاب النار وشدائدها ، فإنما هو نتيجة أعمالهم في الدنيا ، وظلمهم على نفوسهم فيها ، لقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 33 ] أي بما سبق منهم في الدنيا ، وليس يتصور ظلم مُستأنف في الآخرة على أنفسهم ولا على غيرهم . والسبب اللمي لاختصاص وقوع الظلم والشر في الدنيا دون الآخرة - مع أن الإله والمؤثر فيهما جميعاً واحد حق يفعل ما يشاء ويختار ما يريد من غير مدافع أو مشارك - هو ما وقعت الإشارة إليه من أنها " دار الحَرَكات والاستعدادات " لأنها واقعة في آخر الدرجات من الوجود ، في أسفل الدركات من مراتب الخير والجود ، وبعد مرتبتها في النزول والخسة ، ليس إلاّ العدم المحض ، والبطلان ، بل وجودها في مرتبة العدم . إلاّ أنها بحسب نسخها وجوهرها الهيولي ، مما لها قوة وجود أشياء كثيرة ، ولها استعداد للصور الحسية والنفسية والروحانية ، بحسب امتزاجات وقعت بين عناصرها المتضادة ، التي كل منها لا يتحرك عن مواضعها الطبيعية إلاّ بأسباب سماوية منبعثة لأغراض علوية ، ومقاصد عقلية مترتبة على أشواقها الكلية ، وحركاتها الدورية ، حسب قضاء الله ومشيئته المقتضية نشوء الكائنات من الحيوان والنبات بعناصرها المتضادة وموادها المتفاسدة . ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع الحيوان ، وكان له استعداد الارتقاء إلى رتبة الشرف والكمال ، واحتمال البقاء والدوام في نشأة أخرى هي نشأة التمام ، ويوم قيام الخلائق بين يدي الحق العلاّم ، ولا يمكن استكماله إلى هذه الغاية إلاّ بأسباب أخرى خارجية اتفاقية من التأديب والتهذيب ، والهداية والارشاد ، والوعد والإيعاد ، منبعثة من جانب المبدء الجواد ، بإنزال الملائكة والكتب والرسل للإمداد ، والهداية إلى يوم المعاد ورب المعاد . ولا يتعيش وجوده الدنيوي أيضاً إلاّ بتعاون وقع من بني نوعه وجنسه ، وتمدن واجتماع ومعاملات وحكومة وسياسات وحدود وجرائم وقعت من سلطان قاهر له أو عليه . وهذه جملة من الأسباب لا تنعقد إلاّ ويلزمها نقائص وآفات ، وتصادم شرور وظلامات ، فقد قضى الله بوجود هذه الشرور في هذه الدنيا لكونها لازمة لخيرات جمة ، وهي أسباب سياقة عباده إلى رضوانه ، فعلم " أن الظلم في الدنيا مَقْضي ، والعدل مَرْضي " ، وأما الآخرة التي هي دار المتقين ، ففيها عدل بلا جور ، وخير بلا شر . ولهذا قال تعالى في حق حبيبه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] . وقال حكاية عن دعاء خليله : { وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [ الشعراء : 83 ] وقال وليه وأخو رسوله ( عليهما السلام ) عند ضربة شهد فيها ربه : " فُزْتُ وربِ الكعبة " ، وذلك لأن الدنيا مشحونة بالآفات والمِحن والظلم والجور على أولياء الله وأحبائه . ويحكى عن بعض من يعتقد هذا الرأي ، أنه لقي أخاً من أهل زمانه ، فقال له : كيف أصبحت يا أخي في هذه الدنيا ؟ . قال : بخير ، نرجو خيراً من هذه الدنيا - إن سلمنا من آفاتها وبليّاتها انشاء الله - ، فكيف أنت وكيف حالك ؟ . فقال : كيف حال من يصبح في دار غربة أسيراً وفقيراً لا يقدر على جرّ منفعة ولا يرجو دفع مضرّة ؟ قال أخوه : كيف ذلك ؟ قال : لانّا قد أصبحنا في الدنيا معذبين في صورة المُنَّعمين ، مجبورين في صورة المختارين ، مغرورين في صورة المغبوطين ، أحراراً كراماً في صورة عبيد مُهانين ، مسلطاً علينا خمسة حكام يسوموننا سوء العذاب ، ينفذون علينا أحكامهم شئنا أو أبينا . قال له أخوه : أخبرني من هؤلاء الحكام ؟ قال نعم : أوّلهم هذا الفلك الدوار الذي نحن في جوفه محبوسين ، وكواكبه هذه السيّارة التي لا تزال تدور علينا لا تهدأ ولا تسكن ، تارة تجيئنا بالليل وظلمته ، وتارة بالنهار وهاجرته ، وتارة بالصيف وحرارته ، وتارة بالشتاء وبرودته ، وتارة بالرياح العاصفة ، وتارة بالغيوم الغاشية والأمطار والبروق الخاطفة ، وتارة بالصواعق الزاجرة ، والزلازل المهلكة ، والأخاويف الموحشة ، والخسوفات والكسوفات والعلامات المظلمة ، وتارة بالجدب والغلاء ، وتارة بالموت والوباء ، وتارة بالحروب والفتن والبلاء ، وتارة بالهموم والأحزان ، ليس منها خلاص ، ولا من سهامها مناص إلاّ بالموت . وأما الآخر ، فهو هذه الطبيعة وأمورها المركوزة في الجبلّة ، من حرارة الجوع ، ولهب العطش ، ونار الشبق ، وحريق الشهوات ، والآلام والأمراض والأسقام ، وكثرة الحاجات ، ليس لها شغل إلاّ طلب الحيلة لجر منفعة أو لدفع مضرة عن هذه الأجساد المستحيلة ، التي لا تقف على حالة واحدة طرفة عين ، فنفوسنا في جهد وبلاء ، وكد وعناء ، وبؤس وشقاء ، ليس لنا راحة منها إلاّ بالممات . فهذا اثنان . وأما الثالث : فهو هذا الناموس الأكبر ، وأحكامه وحدوده ، وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، وزجره وتهديده وتوبيخه ، وألم الجوع عند الصيام وتعب الأبدان عند القيام ، ومجاهدة النفس عند اخراج الزكوات ، وتعب الأسفار عند قضاء الحج ، ومشقة الأبدان عند المهاجرة ، وجراحتها بالسيف والسنان عند المجاهدة ومحاربة أهل الكفر والعدوان ، إلى غير ذلك من آلام ترك اللذات والراحات ، وشدائد اجتناب الشهوات والمحرمات . وأما الرابع : فهذا السلطان الجائر المالك للرقاب قهراً وجوراً والمستعبد للعباد جبراً وكرهاً ، فان قمنا بخدمته وواجب طاعته فما نقاسي من الجهد والبلوي أكثر من أن يحصى ، من تعب الأجساد ، وهموم النفوس ، وعناء الأرواح ، وتضييع العمر في خدمته ، وسخط الباري يوم القيامة وعذاب الآخرة ، والحجاب عن الله في طاعته ، وإن فررنا من سلطانه فلا عيش لنا إلاّ نكداً ، لافتقارنا في الدنيا إلى التعاون والتمدن والسياسة والرياسة . فهذه أربعة . وأما الخامس : فهو شدة الحاجة إلى مواد خارجيّة ، وأغذية بدنية لا قوام لهذا الهيكل إلاّ بها ، من المأكول والمشروب ، واللباس والمسكن ، والمنكوح والمركوب ، وما لا بد منه في قوام هذه الحياة الدنيا ، وما نقاسي من الجهد والبلوى في طلبها ليلاً ونهاراً ، في تعلّم الصنائع الشاقّة ، والتجارات المتعبة ، والمكاسب المكّدة من الحرث والزرع والبيع والشراء والمناقشة في الحسابات والمكايسة في المعاملات ، والحرص والشره في جميع الأموال وحفظها من اللصوص وحراستها من الآفات العارضة ، ومكابرة القطّاع ، ومنازعة أهل الجور والظلم ، فهذه حالنا وأكثر أبناء جنسنا في هذه الدار . وأما من يريد المقام في الدنيا ، ويتمنّى الخلود فيها مع هذه الآفات والشدائد ، فهو إما غير مؤمن بالآخرة ، ولا مصدق بالمعاد ، ولا متصور للوجود إلاّ هكذا ، أو يتوهم أن بعد الموت عدماً صرفاً أو شراً محضاً ، وعلى الحالين يئس من الآخرة ، كما يئس الكفّار من أصحاب القبور . وأما من تصوّر كيفية الدار الآخرة ، وتحقق أمر المعاد وعرف فضلها وشرفها ، وسرور أهلها ، ولذات السعداء ونعيمهم وملكهم ، فأي عذر له في التمني للخلود في الدنيا ، والإخلاد إلى الأرض ، وطلب الرفعة والرياسة فيها ، إلاّ خللاً وسفهاً في عقله ، أو فساداً في اعتقاده وإيمانه ، كأكثر من نراه من المنتسبين إلى الإيمان ، { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] . حكمة قرآنية هذه الآية ونظائرها كقوله : { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 90 ] وقوله : { لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } [ النجم : 39 - 40 ] وقوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] وغيرها ، نصوص جليّة وبراهين واضحة ، على أن الثواب والعقاب في دار الآخرة إنما يكونان بنفس الأعمال والأخلاق الحسنة والسيئة ، لا بشيء آخر يترتب عليها ، فالملذ والمؤلم ، والنعمة والنقمة ، والجنة والنار في دار القرار ، هي نفس صور الأعمال والآثار ، كما دلّ عليه قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إنما هي أعمالكم تُرَدّ عليكم " ، وقوله : " إن الجنة قيعان وإن غراسها سبحان الله " وكذا قوله تعالى : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 54 ] وقد مر تحقيق هذا المطلب في سلف القول . فالعقوبات الإلهية الواصلة إلى المجرمين ، كما أنها ليست من باب الانتقام الواقع عليهم من منتقم منفصل مبائن يوقع الآلام والشدائد عليهم ، ويوصل المكاره والمحن إليهم ، فكذلك ليست الآلام والمكاره أموراً خارجة عن ذاتهم وصفاتهم مترتبة عليها ، بل الأعمال القبيحة الواقعة منهم في الدنيا بواسطة ما في ضمائرهم ونيّاتهم ، صارت ملكة راسخة في نفوسهم ، وانحرفت بسببها فطرتهم الأصلية ، توجب لهم تصورات باطلة ، وأفكاراً مؤلمة موحشة موجودة بوجود أخروي يناسبها ، فَتَطَّلع على أفئدتهم ما كان مستكنّاً فيها . ولو تيسّر للشقي الفاجر أن يشاهد باطنه في الدنيا بنور البصيرة ، ليراه مشحوناً بأصناف السباع والشياطين ، وأنواع الوحوش والهوام ، مثّل لغضبه وشهوته وحقده وحسده وعجبه ورياه ومكره وحيلته ، وهي التي لا تزال تفترسه وتنهشه ، إلاّ أنه محجوب عن مشاهدتها ، فإذا رفع هذا الحجاب ، وانكشف الغطاء ، ووضع في قبره ، عاينها وقد تمثلت بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها . وأول ما يقع بصر أحدهم على صورة عمله - المطابقة إياه - ، يرى بعينه العقارب والحيات قد أحدقت به ، وإنما هي صفاته الحاضرة الآن قد انكشفت له صورتها ، فيقول : { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ] ، ويريد أن يهرب عنها ، وأنّى يتصور لأحد أن يهرب عن نفسه ولازم نفسه ! . وعلى هذا القياس ، حكم الأعمال الحسنة الواقعة من أهل السعادة الأخروية المصورة في القيامة بصورة ملذة حسان ، من حور وغلمان ، وجنة ورضوان ، فإن حقيقة تلك الصور هي موجودة معه مختفية في باطنه ، وإنما تصير حاضرة مشهودة له يوم القيامة بواسطة رفع الحجاب ، لقوله تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] .