Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 55-55)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد مرّ في تفسيرنا لآية الكرسي ، أن أصحاب النار بالأصالة هي النفس والشيطان ، لأنهما ظلمانيتان بجوهريهما ، حاصلتان من سنخ الطبيعة النارية الكدرة الدخانية من عالم الأجرام السفلية ، وأن أصحاب الجنة بالأصالة هي الروح والملائكة ، لأنهما نورانيتان بجوهرهما ، حاصلتان من سنخ الحقيقة النورية اللطيفة من عالم الأنوار العلوية . وأما القلب الإنساني فهو ذو وجهين : وجه إلى النفس ووجه إلى الروح ، إنما ينقلب إلى أحد من هذين القبيلين بمزاولة أحوال ( أعمال - ن ) تناسبه ، فيصير أما من أصحاب الجنة - وهم أصحاب اليمين - ، وإما من أصحاب النار - وهم أصحاب الشمال - . والجنة موطن أهل السعادة ومصعدهم في جهة العلو ، كما أن النار موطن أهل الشقاوة ومهبطهم في جهة السفل . والتنكير في قوله : " في شُغُل " ، مُشْعر بأن شغلهم شغل لا يوصف بحد من جهة المشغول فيه والمشغول عنه جميعاً : أما المشغول فيه ، فما ظنك بشغل من وصل إلى دار الكرامة ، ومنزل المصطفَيْن الأبرار ، ومنبع الخيرات الحِسان ، فاز بالنعيم الدائم ، ووصل إلى الحق القائم ، ووقع في ملاذّ وسعادات لا يكتنه وصفها ولا يحاط بنعمتها ، مع كرامة وتعظيم وشرف مقيم . وأما المشغول عنه ، فما ظنك بشغل من تخلّص من هموم الدنيا وأحزانها ، وأمراضها وآلامها ، وهجوم آفاتها وأهوالها من مشاق التكليف ومضائق التقوى والخشية ، ومرارة الصبر طول العمر عن اللذات والمرغوبات ، وتخطي الأهوال والأخطار والموت عن مأنوساتها بالاختيار والإضطرار ، ومفارقة الأحبة والإخوان ، ومهاجرة الأولاد والأقران ، ومقاسات المحن من الحسّاد والأعداء ، ومشاهدة أوضاع الفجرة والفسّاق ، وسوء عقائدهم ، وقبح أعمالهم ، وغدرهم ومكرهم ، وترفّع حال الجهّال وتصدّر الأرذال ، إلى غير ذلك من مكاره هذه النشأة الدنيوية وشدائدها ، وآفاتها ونقائصها ، وآلامها ومحنها ، وأمراضها وأوجاعها - وبالجملة شرورها التي لا ينفك عنها إنسان ، فكيف المؤمن الغريب في هذه الدار المشحونة بالآفات والأخطار ، الطافحة بشرور الأشرار ، ثم مرارة الموت وكربه ، وزهوق الروح وتعبه ، ووحشة القبر وخطره ، وقيام الساعة وهولها ، والمناقشة في الحساب ، ومعاينة ما لقي العصاة من العذاب . وعن ابن عباس : " في افتضاض الأبكار " . لا يبعد أن يكون المراد منه كشف الحقائق العلمية ، وشهود المعارف العقلية - كشفاً وشهوداً لا يمكن البلوغ والوصول إلى نيله إلى تلك الغاية إلاّ في الدار الآخرة - . وعنه أيضاً : " في ضرب الأوتار " . وليس ببعيد أيضاً أن يكون المراد منه سماع نغمات الأبرار ، بل الاتصال بنفوس الضاربين الأوتار والأدوار ، المحركين لأشواق الدائرات في عشق جمال الأبد على الفلك الدوّار ، والواهبين سوانح اللذّات الدائمات على الرقّاصين في ملاحظة جمال السرمد على بساط الرحمة ( بمشاغل - ن ) الأنوار . وعن ابن كيسان : " في التزاور " ، وعن بعضهم : " في ضيافة الله " ، وعن الحسن : " شغلهم عما فيه أهل النار بما هم فيه " ، وعن الكلبي : " في شغل عن أهاليهم من أهل النار ، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم لئلا يدخل عليهم تنقيص في نعيمهم " . واللفظ جاء بضمتين ، وفتحتين ، وضمة وسكون ، وفتحة وسكون . و " الفاكه " : المتنعم والمتلذذ ، وكذا " الفكه " ومنه : " الفاكهة " لأنها ما يتلذذ به ، وكذا " الفكاهة " وهي المزاحة ، وقريء " فكهون " بغير ألف ، وهو بكسر الكاف وضمها ، كقولهم : " رجل حدِث وحدُث " أي كثير الحديث ، " ونطِس ونطُس " للمبالغ في الشيء ، والباقون بالألف في كل القرآن ، إلاّ أن حفص وافق أبا جعفر في المطفّفين : { ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } [ المطففين : 31 ] وقرئ : " فاكهين " و " فكهين " على أنه حال ، والظرف مستقر . بصيرة أخروية " الشُغل " كثيراً ما يطلق ويراد منه الصنعة والكسب ، وقد تحقق لنا بأرصاد روحانية وأنظار دقيقة كشفية ، أن النفس الإنسانية إذا استكملت ذاتها بالعلم والتقوى ، وتجردت عن غشاوة العالم الأدنى ، وتشبّهت بأخلاق الله ، وطارت بأجنحة الكروبيّين ، ووصلت إلى عالمها ، وبلغت إلى فطرتها الأولى ، أصبحت مخترعة للصور الغيبية المستورة عن الحواس ، فاعلة للأشكال الحسنة الجنانية الخارجة عن إدراك أهل الظن والقياس ، لكونها شديدة الشبه عند الاستكمال والتجرد عن هذا العالم بالمبدء الفعّال في الصفات والأفعال ، كالحديدة الحامية المجاورة للنار ، الفاعلة فعلها من الإنارة والاشعال وسائر الآثار . فما ظنك بنفوس كريمة تنورت بنور الله ، وتلبّست بلباس الهيبة والعظمة والنور ، وتسربلت بسربال الكرامة والسرور ، في صيرورتها واهبة الحياة لما تصورتها صورة أخروية ، معطية الوجود والشروق لما أنشأتها نشأة ثانوية ، لكونها واقعة في أفق العظمة والإشراق ، مستوطنة في دار كرامة الله العزيز الخلاّق ، وجنة رحمته التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ولكل أحد من أهل الله في الجنة ما تشتهيه ، كما قال : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ } [ فصّلت : 31 ] ، وسيأتي بعد هذه الآية بأدنى فاصلة قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [ يس : 57 ] ، إشارة إلى هذا المعنى . فانظر كيف جعل الله النفس الإنسانية ذات اقتدار على إنشاء الصور المطهرة في الدار الآخرة ، المرتفعة عن أدناس عالم الحواس ، لقيامها خاضعة خاشعة بين يدي الحق رب العالمين ، خلاّق صور الأشياء بالإبداع والتكوين ، مفيض القوة والقدرة على المخلصين الصابرين ، رب الطَّوْل والحَوْل على الوافدين ، القارعين باب الرحمة والجود ، العاكفين في جانب الحق ينبوع الوجود . فإذا تحققت هذا فاعلم أن معنى قوله : { أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } ؛ إنهم مشغولون بعمارة الجنة حيث ما يشاؤون ، وهم قائمون بإنشاء الصور البهيّة النقيّة الحسان ، اللاتي لم يطمثهنّ أنس قبلهم ولا جان ، لصيرورتهم من جملة إخوان التقديس لا يشغلهم شأن عن شأن ، وسيأتي زيادة كشف لهذا المعنى . وإنما خصص هذه الحالة لليوم الآخر ، وإن كان لبعض المتجردين عن جلباب البشرية أن تخترع نفوسهم صوراً يشاهدونها في صقع من عالم الملكوت ، لأن تمام الإقتدار إنما يتيسّر لهم عند قيام الساعة في دار القرار ، وأما التي يخترعونها ويشاهدونها قبل ذلك ، فهي غير ثابتة لهم دائماً ، بل في بعض الأحايين على وجه شَبَحي مثاليّ ، ليس في غاية الإشراق والإنارة لشوائب آفات الدنيا ومنقصاتها .