Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 64-64)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إن في هذه الآية نصّاً على أن الكفر - أي الجهل بحقيقة الساعة واليوم الآخر - هو منشأ صلي جهنم والإحتراق بنارها ، وذلك لما مرّ من أن الجهل بوجود الآخرة يوجب الأقدام على ترك الطاعات ، والإجتراء على المعاصي ، والتقاعد عن الخروج من دار المعصية ومعدن الآفة ، والإخلاد إلى الأرض والإغترار بظواهر الآثار ، وتسويف التوبة والإعتماد على الشفاعة ، كما حكى الله عنهم بقوله : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] والجهل بأن شرط تحقق الشفاعة حصول المناسبة ، فلا يتصور بدونها كما أشير إليه بقوله تعالى : { لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [ طه : 109 ] وقوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] . وها هنا دقيقة لأهل القرآن الذين هم أهل الله وأهل العرفان ، وهي أنه لما تقرر عندهم ببصائرهم الشهودية ، وارصادهم وآلاتهم الروحانيّة ، إن الدنيا وأحكامها ، مرآة للآخرة وأحكامها ، ولما كان الناس يوم القيامة أصنافاً ثلاثة لقوله تعالى : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } [ الواقعة : 7 - 8 ] إلى قوله { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 11 ] ولقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ } [ فاطر : 32 ] فكذلك الموجودون منهم في الدنيا على ثلاثة أقسام ، كل قسم منها مرآة ومثال لما يؤول إليه عاقبة أمره ، وأحواله وأحكامه الحاضرة مثال لأحواله وأحكامه الغائبة . فالمتوطنون فيها ، المُكبّون على شهواتها ، أمثلة أصحاب الشمال الواقفون على النار من الأشرار والأشقياء المردودون الجهّال الضلاّل المقيدين بالسلاسل والأغلال ، وانكبابهم على شهواتها مثال احتراق أهل النار لحرقاتها . والمتعبدون الزاهدون من أهل السعادة والصلاح هم مثل أصحاب اليمين وأهل النجاة . وأما العلماء الراسخون السالكون إلى الله ، والأحرار المرتفعون عن الخسائس الدنيّة ، المعرضين عن لذّاتها الحيوانيّة ، فهم المقربون إلى الله تعالى ، المارون على الصراط كالبرق الخاطف ، من غير أن يصل إليهم أثر حرّها وضرّها ، كما قال واحد من أهل بيت النبي ( عليه وعليهم الصلاة والسلام ) لما سئل عن قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] " جزناها وهي خامدة " ، وقوله تعالى عقيب ذلك : { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } [ مريم : 72 ] إشارة إلى أهل النجاة والسعادة ، وقوله : { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 72 ] إشارة إلى أهل النكال والشقاوة . ومن نظر إلى حال كل فرقة بعين الاستبصار والإعتبار ، ورجع إلى عالم الانصاف من الجور والاعتساف ، انكشف عليه أن التضاد متحقق بين أهل التوحيد وأصحاب الشمال ، حيث إن أحواله وأفعاله على ضد أحوال هؤلاء وأفعالهم ، ويظهر له يقيناً أن الجماعة المتشبّهين بالعلماء - المكبيّن على الدنيا وأغراض النفس والهوى - بمعزل عن درجة أهليّة أهل العلم والتوحيد ، وهم بمراحل عن أهل الله ورضوانه بعيد ، فهم في واد وأهل دين الله في واد . فهؤلاء أهل التضادّ والعناد ، كما أن أولئك أهل التوحيد والحرية والتفريد ، وذلك لتقيّدهم بعالم الحركات والتغيّرات ، من الأجسام المتضادة الصور والمواد ، المتقلبة في أحوالها ، كالحدوث والزوال والكون والفساد ، والحياة والموت ، والنوم واليقظة ، والصحة والمرض ، والقدرة والعجز ، واللذة والألم ، والراحة والتعب ، والشهوة والغضب ، وذلك لتقيّدهم بذواتهم المستحيلة ، وهوياتهم الكائنة الفاسدة ، وعلومهم الجزئية المتغيّرة ، بحيث لم يرتقوا عن خصوصيات هوياتهم ، ولم يخرجوا قدماً عن عتبة باب أبدانهم العنصرية بنفوسهم الوهميّة . وإذ لا نجاة لشخص من نفسه وشخصه ، فكيف لوازمه وحالاته ، فهم محترقون بنار الانقلابات وحرقة الشهوات { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [ النساء : 56 ] وأي عذاب أشد من أن يكون متعذباً من نفسه ، معاقباً بمعصية هي ذاته ووجوده ؟ كما قيل : " وجودك ذَنْبٌ لا يُقاس به ذنب " فلا جَرَمَ يكونون أبداً في الجحيم بين أمور متضادة كالسموم والزمهرير يترددون في الهاوية بين طرفي التضاد ، لما بيّنا فيما مرّ ، أن الهاوية من سنخ هذه الدار يبرز يوم القيامة على الأشرار : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 91 ] كما برزت اليوم على الأخيار ، لقوله : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } [ النازعات : 36 ] فمن كان يتعذب تارة بأحد الضدين وتارة بالآخر : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] . @ برهوا برشود بسوزندش برزمين بكَذرد بدوزندش دوزخ نقد مفسدان اين است نسيه خود صد هزار جندين است @@ وأحوال أهل الجنة والأبرار ، تعاكس أحوال أهل النار والأشرار بوجه ، حيث إن هؤلاء لمّا كانوا أول الأمر خارجين عن قيد الشرع ، مسرحين عن عقال العقل ، غير مرتاضين بل سائمين في أرض الشهوات ، خالعي عذار الشرع وزمام العقل ، فلا جَرَمَ يقيّدون في الآخرة بقيود السلاسل والأغلال ، يعذبون بفنون العذاب والنكال ، محتجبون بأنواع الحجب ، مترددون في أسفل دركات الجحيم { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ الحج : 22 ] . وأما الأبرار ، فلهم الإرتقاء من كمال إلى كمال ، لهم من فوقهم غُرَف ومن تحتهم غُرف ، وهم المتخلّصون من عذاب أهل التضاد ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .