Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 74-75)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر لمعة من شواهد إلهيته ، ودلائل توحيده وعظمته وقدرته ، الموجبة للإهتداء إلى طريق معرفته وعبوديته وشكر نعمته ، أشار إلى سقوط درجة النازلين إلى مهوى الهوى والهوان ، الهابطين في مهبط الخزي والخسران ، وهم الذين اتخذوا من دونه آلهة يعبدونها لكي ينصرونهم ويدفعوا عنهم عذاب الله ، وبيّن فساد جهلهم الذي هو أصل كفرهم وشركهم بأن هذه الآلهة التي اعتقدوها واتخذوها آلهة وعبدوها ليتقوا ( ليتقربوا ) بها ، ويعتضدوا بمكانها ، لا يقتدر شيء منها على نصرهم ، ولا يستطيع الذب عنهم ، بل الأمر على عكس ما قدّروا وتصوروا ، حيث هؤلاء من خدّام آلهتهم محضرون مُعَدّون لخدمتها يخدمونها ويذُبّون عنها ويغضبون لها كالجنود والأعوان . وبهذا جرى حكم الله وقضاؤه باستيلاء الدواعي الباطلة على نفوس هؤلاء البطالين الجهلة ، لمصلحة قدرية وحكمة قضائية تعلّقت بطاعتهم وخدمتهم لهذه الأصنام ، وعبوديتهم لهذه التماثيل المنصوبة من الأجسام أو الأصنام أو غيرها ، لِتَشارُك الجهالة وموت القلب ، واتّفاق الجنسيّة والظلمة والخسة والدناءة . وعن بعضهم : معناه : اتخذوهم لينصرونهم عند الله ويشفعوا لهم ، والأمر خلاف ما توهموا ، حيث هم يوم القيامة جند مُعَدّون لهم ، مُحضرون لعذابهم ، لأنهم يُجعلون وقوداً للنار . وعن الجبائي : أن معنى قوله تعالى : { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } : إن هذه الآلهة معهم في النار مُحضرون ، لأن كل حزب مع ما عبدته من الأوثان في النار ، فلا الجند يدفعون عنها الإحراق ، ولا هي تدفع عنهم العذاب . وهذا كما قال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] . مكاشفة قرآنية اعلم ، هداك الله طريق معرفته وعبوديّته ، إن كل من أحب شيئاً محبة نفسانية ، أو اعتقد معبوداً حصر الإلهية فيه من المعتقدات المخالفة لما هو الحق في ذاته ، فهو بالحقيقة مشرك عابد للصنم - سواء كان صنمه صورة موهومة أو شبحاً محسوساً - وقد مرّ أنه لا يعتقد معتقد من المحجوبين الذين جعلوا الآله منحصراً في صورة معتقدهم فقط ، إلاّ بما جعل في نفسه وتصوره بوهمه ، فإن الإله من حيث ذاته منّزه عن التعيّن والتقيد ، وبحسب أسمائه وصفاته له ظهورات في صور مختلفة ، فكل من أحب غير الله كحب الله ، فلم يكن أهلاً لمحبة الله مخلصاً ، بل طردته العزة والغيرة الإلهية إلى محبة الأنداد ، واتخاذ ما هو دون الله ، سواء كانت الأهل والأولاد والأحجار والأجساد . وتحقيق ذلك : أن كل محبة لشيء فهو عبودية له ، والمحبة نوعان : محبة هي من صفات النفس الإنسانية ، - وهي من هوى النفس الأمّارة بالسوء - ، ومحبة هي من صفات الحق - وهي محبة المعرفة والحكمة - ، كما في قوله تعالى : ( كنتُ كنزاً مخفياً ، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف ) فكما أن محبوب الحق كونه معروفاً ، فمحبوب أهل الله كونهم عارفين له ، كما أشار إليه قوله : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] فمن وكل إلى محبته النفسانية تعلقت محبته بما يلائم هوى النفس وشهواتها - من الأصنام وغيرها - . فكما أن الكفار بعضهم يحبون اللاّتَ ويعبدونها ، وبعضهم يحبّون العُزَّى ويعبدونها ، كذلك أهل الدنيا ، بعضهم يحبون الأموال ويعبدونها ، وبعضهم يحبون الأولاد ويعبدونها ، كما قال تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ } [ البقرة : 165 ] ولقد حذر الله تعالى الخلق عن فتنة هذه الأشياء وأعلمهم عداوتها بقوله : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] وبقوله : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } [ التغابن : 14 ] يعني : فاحذروا عن محبتهم ، لأنها عدو لكم يمنعكم عن محبة الله ، - وهو الحبيب الحقيقي والمقصود الأصلي - وإنهم العدو . فمن أحب الله ، ينظر إلى ما سواه من حيث ما هو سواه بنظر العداوة ، كما كان حال الخليل ( عليه السلام ) فقال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 77 ] . ومن كان في الأزل أهلاً لمحبة الله وعبوديته ، فما وكل إلى المحبة النفسانية الشيطانية ، بل جذبته العناية الأزلية وَنَظَمَتْهُ في سلك الكناية من قول " يحبهم " فيتجلى لهم بصفة المحبة ، فانعكست تلك المحبة لمرائى قلوبهم ، فبتلك المحبة يحبونه ، فلا تتعلق تلك المحبة بغير الله ، لأنها فائضة من عالم الوحدة فلا تقبل الشركة ، كما قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } [ البقرة : 165 ] ولو أحب غيره لأحبه من حيث كونه ولياً له ، نبياً مبعوثاً من حضرته ، أو كتاباً نازلاً من عنده ، أو أمةً قانتاً لله . ولأن الأعداء - كأهل الدنيا - أحبوا الأنداد بمحبة فانية نفسانية ، والأحباء أحبوا الله بمحبة باقية أزلية ، فلا محالة ، لمّا تقطعت بالموت عنهم هذه الأسباب ، ورأوا مبادئ العذاب ، يتبرء أهل هذه المحبة الفانية بعضهم عن بعض ، كما قال تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } [ البقرة : 166 ] ويكون حاصل أمرهم الفرقة والعداوة والتبرّي ، كقوله { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ] وقوله : { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] . إذا تحققتَ ما ذكرناه ، وفهمتَ ما مهدناه فاعلم أن المراد من قوله : { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } ، هو اتخاذ ما سوى الله للمحبة النفسانية التي ترجع إلى عبادة الصور الوهمية ، إذ من أحب غير الله فهو لا يزال يعبده ويخدمه ويتوسل إليه ، ويتحرى الطريق إلى وصلته ، والتقرب منه والاتحاد به ، ويتصور أن الوصول إليه يستلزم النصرة له ، ويدخل السرور في قلبه ، ويوجب له اللذة الوافرة والسكون والراحة والطمأنينة . وهذا حال أكثر الناس في المستلذات الحسية ، مثل الأهل ، والمال ، والولد ، والجاه ، والرفعة ، والإشتهار ، والصيّت ، والتقرّب من الملوك والسلاطين ، وهكذا حال من يتولى الشياطين ، ويحب أهل الملل الباطلة وأصحاب الأديان الفاسدة ، وكذا كل من يعتقد شيخاً وإماماً تعصباً وافتخاراً لا من جهة المحبة الإيمانية والمحبة الإلهية ، وطلب الإهتداء بالله ، وتحصيل المعرفة واليقين ، فإن الجميع متخذون من دون الله آلهة عابدون إياها ، لاغترارهم بظنونهم الفاسدة أن هذه الآلهة الباطلة ينصرونهم من دون الله . وذلك لجهلهم بالمعارف الحقة ، وإعراضهم عن ذكر الله والتدبّر في آياته وأفعاله ، كما في قوله تعالى : { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ } [ الأنبياء : 42 - 44 ] ومن عرف الله وعرف صفاته وأفعاله ، ونظر إلى الأشياء بنظر التوحيد الافعالي ، يقول لهؤلاء المتخذين غير الله مخدومين معبودين : { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ } [ الأنبياء : 67 ] ، ويعلم أن لا هادي ولا معطي إلاّ الله ، وأن لا يستطيع أحد نصره إلاّ الله ، ولا يشفع له شفاعة إلاّ بإذن الله ، كما قال تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } وكقوله : { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] . وأما قوله : { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } فيحتمل أن يراد به أن عبدة الهوى وأحبّاء الشهوة والدنيا ، يتخذون الأهل والأولاد والأحفاد والعبيد والخدّام أحباءَ من دون الله بمحبة فانية نفسانية ، ويعتقدون أن هذه خدام لهم ، وجنود وأعوان ينصرونهم - وهذا حال كل من طلب الدنيا وذهل عن الآخرة ونسي ذكر الله - . ولا يعلم المسكين المسخّر للشيطان المسحور بسحر الدنيا ، أن الشيطان اللعين سخرّ عقله واستخدمه ، وجعله رهين الشهوات وعرضة البليّات والآفات ، وصيّره دائماً مشغوفاً بتحصيل الأسباب وطلب المناصب والمهمات ، وجمع الذخائر والأموال ، ومشغولاً بالسعي والكد والتعب والقيل والقال ، ومعارضة الأعداء والحسّاد ، والمجادلة مع الخصماء والأنداد ، وارتكاب المخاطر والأهوال ، وقطع المفاوز والبوادي البعيدة ، وركوب البحار المهلكة ، حتى يهلكه في أيّ واد أراد ، ويجعله جسراً يعبر به أهل الشهوات في طلب المراد وطريقاً إلى جهنم وبئس المهاد . ومن نظر بعين الحقيقة ، يعلم أن لا حاصل له في هذه المحن الشديدة ، ولا طائل تحت هذه المساعي الكثيرة ، ولا فيما يتعلق به ، إلاّ أنه صار بحسب التقدير وسيلة لأن ينتظم أحوال شهوات جماعة ارتبطت شهواتهم بسعي هذا الأحمق السفيه ، وانتظمت أرزاقهم بكدّه وارتباطه ، فعلى التحقيق هو من جملة خدّام القوى الشهوية والغضبية لهذه المسميات بالأهل والعبيد ، والخدم والجنود ، لا أنهم عبيده وخدمه وجنوده ، إلاَّ أن هذا الأحمق وكثير من الحمقى - الذين عقولهم في هذه المرتبة - يزعمون أن أمثالهم ومن هو في مرتبتهم مخاديم والمتعلقون بهم أتباعهم وجنودهم . ولما كان هذا من الأغلاط الفاحشة الشائعة بين الأنام ، أراد الله أن يكشف عنه وأزاحه عن الأوهام فقال : { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } ، وسبب ذلك ، أن هذا العالم عالم الانتكاس والإنعكاس ، يرى فيه الخادم مخدوماً والفقير غنياً ، والنار نوراً والظل حروراً ، والقبيح حسناً ، والحسن قبيحاً ، والموت حياة والحياة مماتاً ، والذلة لذة ، والناظرون بعين الشهود والمعرفة يرون بواطن الأمور ، ويشاهدون اشتغال الخلق بطلب ما هو سبب النكال والوبال ، ويتعجبون من شغفهم بصحبة المؤذيات ، وسعيهم في خدمة العقارب والحيّات ، وتسميتهم لها من الحظوظ واللذات ، وطاعتهم للكلاب والذئاب ، وعدّهم لها من جملة الأصحاب والأحباب ، ويشاهدون عجائب عديدة وغرائب كثيرة : منها : أن رجلاً يعيش في قعر بئر مظلم في مزبلة ، عليها سماد طرية ، وجيف منتة ، يأكل الدم والصديد والقاذورات ، ويشرب الحميم والزقوم ، وأكثر طعامه من غِسلين ، وشرابه من أبوال الحيوانات ، ويعاشر امرأة قبيحة منتنة ركيكة مريضة ، عليها أوجاع وجراحات لا تحصى ، ويتغنى الرجل في جلود غير مدبوغة بألحان غير موزونة ، يصف بها حسن امرأته ، وهو بنفسه يضرب الدف ويرقص فرحاً ويسأل الله أن يثبته على هذه الحالة أبداً . ومنها : أن رجلاً ضعيفاً عاجزاً به أمراض وجراحات ومحن لا تحصى ، في خربة من المغارة ( المفازة ) المنقوشة ، يدعي أن تلك الخربة عمارات ، وتلك الجراحات راحات ، وتلك النقوش والصور خدمه وحشمه ، وهو ملك عظيم قدير يفعل ما يشاء ، وبيده ملكوت الأشياء وعنده حقائق الأنباء . فانتبه يا نائم ، واستقم يا هائم ، واعتصم بحبل الله المتين ليصعدك من مهوى عالم الشياطين - العارفين بعلم السيمياء ، القادرين على إراءة الأشياء لا على ما هي عليها - ، لعلك تنجو من عذاب أليم ، وتصل إلى الرضوان والنعيم .