Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 77-77)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما أشار إلى مخاصمة أعداء الدين لسيد المرسلين ، وتكذيبهم إياه في ما أتى به من الآيات البيّنات ، وما أنذر به من أمور الآخرة والقيامة والبعث والحشر ، وذكر ما يتسلّى به الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فأراد أن يشير إلى تقبيح إنكارهم للحق ، ومخاصمتهم للرسول ، وتكذيبهم للبعث بأبلغ وجه وأشنع صورة ، وأول دليل على غيّهم وضلالهم ، وتمادي كفرهم وإصرارهم ، وأعدل شاهد على جحودهم للنعم والأيادي ، وعقوقهم بر المنعم عليهم وإحسانه ، وتغلغلهم في الخسة والدناءة ، وتوغلهم في المذلة والرداءة ، حيث قرر ذلك بأن عنصرهم الذي خلقهم منه أخسّ شيء وأمهنه ، وهو النطفة القذرة المذِرة المنتنة ، الخارجة من الأحليل - الذي هو قناة النجاسة - . ولقد كرر الله ذكر النطفة التي منها بدء خلقة الإنسان في مواضع كثيرة من القرآن ، ليتفكر أنه من أي شيء خلقه الله ، ولئلا ينسى ذاته ويغفل عن شكر منعمه وخالقه المعبود ، الذي خلقه من أوهن مادة وأنجس طينة ، وشرّفه بكسوة هذا الوجود ، وصوره في أحسن صورة وتقويم ، فقال : { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 17 - 22 ] . وقال في موضع آخر : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } [ الروم : 20 ] وقال أيضاً : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ } [ القيامة : 37 ] إلى غير ذلك من الآيات . فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ، ليس بمجرد سماع لفظها ترك التفكر في معناها ، بل لينظر الإنسان إلى النطفة التي منها بدء خلقه ، فيعلم أنها مادة قذرة لو تُركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وتفتتّت ، وتفكر في أنها كيف أخرجها ربها رب الأرباب من بين الصلب والترائب ، ولولا عنايته وَجُوده في حق هذا المولود ، فمن الذي أخرجها ونقلها في أطوارها ، ثم في أنه كيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما ، بل كيف جمع بين الأجداد والجدات وألقى المحبة بينهم والألفة في قلوبهم ، وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى هذا الإجتماع . ثم كيف استخرج النطفة عن الرجل بحركة الوقاع ، وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعها في الرحم ، ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بدم الحيض وغذاه حتى نما وتربّى وكبر ، وكيف جعل النطفة - وهي بيضاء - علقةً حمراء ، ثم كيف جعلها مضغة ، ثم كيف قسّم أجزاء النطفة - وهي متشابهة ومتساوية - إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ، ثم كيف ركّب من اللحم والعظم والأعصاب والعروق وغيرها من الأعضاء الظاهرة المتشكلة بأشكال مختلفة ، فدوّر الرأس ، وشق السمع والبصر وسائر المنافذ ، ثم مدّ اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع ، وقسّم الأصابع بالأنامل ، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء ، كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مشخص لعمل معين ، ثم كيف قسّم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام : فركّب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لفائدة معينة بحيث لو فقدت طبقة منها أو زالت عن موضعها وَوَصْفِها لعطلت العين . فلو ذهبنا نَصِف في آحاد هذه الأعضاء وأقسامها ، وأقسام أقسامها ، وفوائدها وغاياتها ، لانقضت الأعمار دون وصف عشر عشير من الأعشار . فقد عجب الله تعالى من حال من كان أوله وأصله على هذه المهانة والخسة ، ثم يتصدى لمخاصمة من ربّاه وأنماه وأعطاه كسوة بعد كسوة ، وصورة غبّ صورة ، وحرسه عن الآفات ، وصانه عن المفسدات والمهلكات ، وأخرجه من ظلمات ثلاث إلى فضاء العالم ورزقه من الطيبات ، ورقّاه من طور إلى طور ومن حال إلى حال ، إلى أن كمل عقله وصار مكملاً ، فيتصدى لمخاصمة الجبار ويبرز المجادلة للعزيز القهار ، راكباً متن الباطل ، متلبساً لباس اللجاج والعناد ، ذاهباً طريق الجاهلية الأولى ، ناكصاً على عقبيه ، راجعاً إلى المنزل الأدنى . فهذا غاية شدة السفاهة والقباحة ، ونهاية الخسة والوقاحة ، حيث خاصم مثل هذا الخسيس الأدنى لمثل ذلك العلي الأعلى ، بعد سبق هذه العطايا المتوافرة والنِعم المتكاثرة ، في أمر الهداية إلى طريق السعادة ، وإنذار رسول مبلّغ مرسل من قبله من أعلى علّيين إلى هذا الذليل المهين ، الواقع في أسفل السافلين ، ليهديه ويرشده هذا الناصح ويهذّبه ويخلصه من مهوى الشياطين ، ويُنَجّيه من عذاب أليم ، ويعرج به إلى الدرجات العلى في جوار رب العالمين ، فيكذّب رسوله ويؤذيه ويستهزئ به ، ويمده في طغيانه وجهله وعناده واستكباره وإنكاره ليوم الدين . فما أعجب هذا الطغيان ! وما أشنع هذا الكفران ! وما أنزل صاحبه في مهوى الخسة والهوان ! وما أبعده من رحمة الغفور الرحمان ! . نكتة فرقانية في كرامة نَبوية ومما يخطر بالبال في سياق هذه الآية واتصالها بما سبق ، إنه قد سلّى سبحانه في الآية السابقة لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) من مخاصمة أعدائه ، وتكذيبهم إياه ، واعلانهم مخاصمته ، وإضمارهم معاداته ، بأنّا نعلم ذلك ، ومن علم بما يصل إلى حبيبه من خصمائه وأعدائه من الأذى والجفاء - ظاهرة وباطنة ، إعلاناً وأسراراً - وهو قادر على مجازاتهم وتعذيبهم وإيلامهم ، فمعلوم ثابت أنه يجازيهم بأبلغ الجزاء ويعاقبهم بأشد العقاب . ثم ما اكتفى بهذه التسلية العظيمة التي جرت بها عادة المحبيّن في تسلية محبوبيهم من خصومة الأعادي ، حتى جعل خصوم الحبيب خصومه ، وأخذ موبخاً لهم في هذه الخصومة ، مقبحاً لهم بأبلغ وجه وآكده ، فإن قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ } ، إنما وقع موقع الأمر العجيب في الرّكاكة والقبح إذا كانت خصومته مقيسة إلى من خلقه من أصله الخسيس ، وربّاه وقوّاه إلى أن صار رجلاً مميزاً منطقياً ، فإذا هو بعد ما كان ماءاً مهيناً صار خصيماً مبيناً - يفعل الخصومة مع خالقه وربه - . فإذا كانت خصومته في أمر المعاد مع خالقه الذي خلقه من أخس المواد ، وشرّفه على جملة المكوّنات من الحيوان والنبات والجماد ، وكان مبتدء الكلام في مخاصمتهم وتكذيبهم للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد دلّ السياق على أن الخصومة مع الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، هي بعينها الخصومة مع الله ، وكان على وزان قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ونظائر ذلك .