Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 7-7)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لأن الإيمانَ عبارة عن صيرورة النفس ، بحيث يعرفُ الله وملائكتَه وكتبَه ورسلَه واليومَ الآخر ، ويعملُ بمقتضاه ، ويسلك بمؤداه ، وينهى النفس عما يهواه ، ويعبد الله كأنه يراه ، وهذا مما لا يتيسر الا لنفس زكية ، وقلب لطيف قابل لتصوير الحقائق ، واكثر الناس غَلَبَتْ عليهم الجسميّةُ والكثافةُ ، والنفاقُ والشيطنةُ ، وكلاهما حجاب ، إلا أن الاولَ ، من باب النقص الواقع بسبب التجسّم في أول الفطرة ، والثاني من باب المَرَضِ المزمِنِ الطاري . فاذا تقرر ذلك ، فاعلَمْ أن القول قوله : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] وهو عبارة عن حكمه القضائي ، وتقديره الازلي ، بأن نظام هذا العالم وعمارته ، وقوامه ، ووجود العلماء المهتدين ، وعبوديتهم ، لا ينتظم ولا يصلح ، الا بأن يكون في العالم نفوس غِلاظ وقلوب قاسية ، وشياطين أنسية مكّارة بحسب ما غلب عليهم من طاعة الشهوة والغضب ، وخدمةِ الهوى ، والتردي إلى أسفل دَرْكِ جحيمِ الدنيا : { وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] . فيتوجّهون بتلك الدواعي والاغراض الخسيسة ، الى عمارة الدنيا ، والسعي في طلبها ، والإخلاد اليها ، والعمل لأجلِها ، من الزراعة والعمارة ، وإخراج القنوات ، وتحصيل المزروعات ، وصنعة المكاسب الدنيّة ، والصنائع الكثيفة ، كالحِجَامة والكَنْسِ والحِياكةِ وغير ذلك ، وسبيل عمارة الدنيا ، غيرُ سبيل عمارة الآخرة ، من تلطيفِ السر بالتقوى ، وتنويرِ الروح بالعلم والهدى ، ألا ترى الى قوله تعالى في الحديث القدسي : " إني جعلتُ معصية آدمَ سبباً لِعِمارة العالَم " وفي الحديث : " ان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " . وقد اوردنا هذه المعاني والدلائل في تفسير سورة السجدة ، عند قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] . ومن تأمل في وضع الدنيا وأسبابها ، علم أن التعيّش لا يتصور إلاّ بأن يكون أكثر الناس غليظي الطبائع ، دنيّي الهمم ، بعيدين عن تذكّر الدار الآخرة ، وعالم الملكوت ، كما دلَّت عليه آيات كثيرة في هذا الباب كقوله : { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] وقوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] وكقوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [ الأعراف : 179 ] الآية . وكقوله : { وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ النحل : 83 ] . وكقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ المؤمنون : 70 ] . وقوله : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } [ يونس : 60 ] . وكلُ مَن توجَّه بقلبه إلى الدنيا ، سهَّل الله له طريقَها ، ومن توجَّهُ سِرُّهُ إلى الآخرة وعالم الملكوت ، سهَّل الله له سبيلَها ، وكلٌ ميسَّر لِمَا خُلِق له ، ومآلُ طالبِ الدنيا إلى الجحيم ، ومآلُ طالبِ الآخرة إلى النعيم ، من كان لله كان الله له ، ومن كان للدنيا كانت الدنيا سبيله ومبتغاه ومولاه : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [ النساء : 115 ] .