Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 10-10)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ القرّاء سوى ابن عامر : " وكلاً وعد الله " بالنصب على المفعولية لأنه بمنزلة " زيداً وعدتُ خيراً " . وقرأ ابنُ عامر : وكلٌ وعد الله . بالرفع ، محتجاً بأن الفعل إذا تقدم عليه مفعوله لم يُقْوَ عمله فيه قوته إذا تأخر ، والدليل أن من قال : " زيد ضربت " وزيد بحسب المعنى مفعول ضربت ، فإذا تأخر المفعول فوقع بعد الفاعل يتغير إعرابه نصباً ، فكذلك قوله تعالى : { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } يكون على إرادة " الهاء " وحذفها كما يحذف من الصفات والصلات . وأما معناه : فقد حثّ سبحانه على الإنفاق الذي هو من الأعمال الحسنة الجامعة لتكميل الشخص وتهذيبه من ذمائم الأخلاق المنوطة لمحبة الأمر الفاني مع مصلحة النوع ، إذ بالإنفاق ينتشر ما به ينتفع الناس ويصرف في وجوه المصالح كأهبة المجاهدين وغيرها ليستحفظ به الشريعة ، فقال : وما لكم ألاَّ تنفقوا - أي : في أن لا تنفقوا - في سبيل الله - ، أي : أيّ شيء لكم في ترك الإنفاق في طريق الحق والجهاد في سبيله مع كونه خيراً نافعاً لكم ولغيركم ، والحال أن المال في معرض الزوال عمن بيده عن قريب ، إما بهلاك أحدهما ، أو كليهما في نفسه عن الآخر . - ولله ميراث - كل موجود - في السموات والأرض . إذ الكل يفنى وهو يبقى ، فالله يرث كل شيء فيهما من مال وغيره ، فما أقبح للعاقل أن يبخل بمال يكون عارية بيده من غيره ، وسينتقل إليه ، وهو يأمره بالإنفاق الذي فيه صلاح له ولغيره ، فالآية من أعظم الحث وأبلغ البعث على الإنفاق في سبيله . ثم بيّن سبحانه مراتب المنفقين في الفضيلة والأجر ، وتفاوت درجاتهم بحسب الإنفاق في سبيله فقال : - لا يستوى منكم من أنفق - من قبل فتح مكة وشوكة الإسلام ، وكثرة أهله وقوتهم ، وقلة الحاجة إلى القتال ونفقة المقاتلين ، ومن أنفق من بعد الفتح . وحذف لوضوح دلالة الكلام عليه ، وقرئ : " قبلَ الفتح " . أولئك - أي : السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا قبل الفتح وجاهدوا في سبيل الله - أعظم درجة - عنده - من الذين أنفقوا - بعد الفتح ، ثم سوّى بين الجميع في الوعد ومطلق الخير والمثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، مع التفاضل في الرتب والدرجات . والله سبحانه - لكونه عالماً ، لا يخفى عليه شيء من الدقيق والجليل ، خبير بما تعملون من إنفاقكم وجهادكم ، بصير بموازين الأفعال والأعمال ومراتب فضلها بحسب الصعوبة والمشقة ، ودرجات شرفها بحسب النية والبصيرة والإخلاص والسريرة . مُكاشفة واعلم أنه كما تتفاوت درجات المؤمنين بحسب أعمالهم البدنية ، وأفعالهم الظاهرية ، قبل انتشار نور الإسلام وظهور عزه وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، وبعده ، كذلك تتفاوت درجات أهل الله وأولياء معرفته ، بحسب سلوكهم الباطني ، وسفرهم إلى شهود معرفة الله ، ومهاجرتهم عن موطن النفس ابتغاءً لوجه الله ، ومجاهدتهم مع أعداء الله وأولياء الطاغوت تقرباً إلى الحق بحسب معارفهم وعلومهم الاعتقادية الحاصلة قبل المكاشفة ، فإن من كانت اعتقاداته حقة مطابقة لنفس الأمر ، وعمل بموجباتها من الإنفاق والزهد والجهاد في سبيل الله ، قبل كشف الغطاء ومعاينة الحقائق الدينية بالموت الإرادي ، فهو أعظم جلالة وأجلّ مرتبة من الذين زهدوا في الدنيا وجاهدوا مع النفس والهوى بعد ذلك . إذ الإنسان لو لم يكن مؤيداً من قبل الله تعالى بتأييد قدسي ومدد سماوي ، لما كان حاله في ترك المشتهيات ومقاومة القوى النفسانية ومجاهدة الوساوس الشيطانية قبل كشف الغطاء وفتح مملكة البدن من يدي القوى الأمّارة ، كحاله بعد ذلك ، إذ الزهد الحقيقي والورع عن محارم الله ، صعب على الإنسان وقت الاحتجاب ، واما عند ظهور الحقائق معاينةً فليس كذلك . ويحتمل أن يكون في الآية إشارة إلى تفاوت درجات القوى التي للإنسان ، وتفاضل بعضها عن بعض بحسب الصفاء والكدورة ، والقرب من عالم القدس والبعد عنه ، فإن في العالم الصغير الإنساني خلائق مختلفة ، وقوى متعددة ، بعضها مَلَكية شبيهة بضرب من الملائكة ، وبعضها شيطانية شبيهة بضرب من الشياطين ، وبعضها شَهَوية كالبهائم ، وبعضها غَضَبية كالسباع . والجميع خلقت لتكون مطيعة لأمر الله ، مسخّرة للقوة العاقلة ، وهي مكلفة بالمجاهدة مع هذه القوى الجسمية الشهوية ، والغضبية ، والوهمية الفاسقة والظالمة والكافرة ، ودفع معارضتها ومنازعتها مع القوة العقلية التي هي من أولياء الله إذا كملت بالعلم والعمل ، وإنما انبعثت من جانب الله لتسخير قواها وإرجاعها عن متابعة الطاغوت إلى متابعة الحق وعودها بالمجاهدة من عالم الغرور إلى عالم النور ، ومن معدن الكذب إلى مقعد الصدق . والقوة العقلية التي أرسلت وجاءت من عالم الملكوت مبعوثة على عالم البدن وجنوده وقواه مأمورة من قبل الله تعالى بمعاداة الشيطان ومطاردة حزبه وجنوده ، لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ * إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ فاطر : 5 - 6 ] . فالإنسان بالقوة العقلية مأمور باتخاذ الشيطان وحزبه عدواً له ، وبالمناقضة معها والمغالبة عليها ، ولا يمكن الغلبة عليها إلاَّ بتسخير القوى ، وما لا يتم الواجب المطلق إلاَّ به فهو واجب ، وكل واجب مأمور به ولو تَبعاً . فالقوة العقلية مأمورة من قبل الله بتسخير القوى البدنية ، وفتح هذه البلدة المحرّمة التي هي فيها بجنود لم تروها ، من الأخلاق السليمة والصفات الملكية الحاصلة بتأييده سبحانه وإمداده في بعض الآدميين ، وبجنود منقادة لها من عالم الجسم والبدن ، وهي التي ليست مزاحمة للقوة العقلية بعناية الله ولطفه ، لتتسلط على المملكة والجنود ، فتصير القوى في جميع أوامرها وزواجرها طائعات ، ولسلوك سبيل الله مستتبعات بعدما كانت عائقات ، وتلك الأخلاق الحسنة كقوة الذكاء ، وسرعة التفكر ، والجود ، والكرم ، والعزم ، والصبر الجميل ، والتوكل وغيرها مما تتفاوت وتتفاضل في الشرف بحسب أنواعها المختلفة بالحقيقة واشخاصها المختلفة بالمحلّ ، وفي المطاوعة والمتابعة لرئيسها وخليفة الله عليها في أرض البدن ، فلا تزال المطاردة والمقاتلة بين جنود الملائكة وجنود الشياطين قائمة في معركة النفس الإنسانية ، إلى أن تنفتح المملكة الآدمية لأحدهما فيستوطن فيها ويطرد الأخرى ويخرجها عن البلدة بحيث لا يكون لها الدخول فيها إلا اجتيازاً . واكثر النفوس مما قد فتح مملكتها البدنية وسخرها جنود الشيطان وملوكها ، فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطّراح الآخرة ، وقليل منها قد استولت فيها القوة العاقلة على القوى الشيطانية وسخرتها ، فأسلمت وأطاعت كلمة الله وأمره ، وأجابت دعوة الحق وانخرطت مع ساير القوى المسلمة المطيعة طاعة رئيسها المطلق ومخدومها بأمر الحق . والنفس الإنسانية لصفائها ولطافتها صالحة بحسب أصل الفطرة لقبول آثار الملكية والشيطانية لتقلبها في النشآت وتطورها بالأطوار وتلوّنها بالألوان المختلفة ، كالإناء الزجاجي اللطيف الذي يتلون بلون ما فيه . كيف ، ولو لم يكن لها من اللطافة وقبول الأثر ما يقبل كل صورة وينتقش بكل نقش ، لم تقبل آثار الملكية ، ولم تنتقش فيها صور الحقائق الإلهية ، فهي في أول الفطرة تصلح للآثار الحقة والباطلة - صلاحاً متساوياً - ، وإنما يترجح أحد الجانبين على الآخر باتباع الهوى والشهوات ، والإعراض عنها . فإن اتّبع الإنسان مقتضى شهوته وغضبه ، ظهر تسليط الشيطان بواسطة اتّباع الهوى والشهوات بالأوهام والخيالات الفاسدة الكاذبة ، فصارت المملكة إقطاع [ أقطار - ن ] الشيطان ، وصار القلب عشّه ومسكنه ، والهوى مَرْتَعه ومرعاه لمناسبة ما بينهما . وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه ، وقابل بصفوف جنود الملائكة صفوف جنود الشياطين ، فتقابل الصفّان ، وتقاتل الجندان ، وتدافع الحزبان ، فدفع كل من حزب الله ما يقابله من حزب الشيطان ، فبقوة البرهان اليقيني بوجود النشأة الباقية ، عارض الأوهام الكاذبة والظنون الباطلة الداعية إلى الشهوات ، والركون إلى زخارف الدنيا ، والإخلاد إلى أرض البدن ، والاقتصار على هذه النشأة الزائلة ، وبقوة الصبر عارض الهوى ، وبقوة الخوف عن سوء العاقبة عارض الأمْن من مَكْر الله ، وبقوة الرجاء عارض القنوط من رحمة الله ، وبالعزيمة طرد الكسل . وهكذا يدفع بكل جند من جنود الرحمن جنداً يقابله من جنود الشيطان ، حتى ينفتح للقوة العاقلة أول بيت وُضع للناس للذي ببكّة الصدر ، وأول معبد ومسجد وضع للقلب الحقيقي بمكة الصدر المعنوي الذي هو مزدحم القوى المتوجهة إليه ، وهذا هو المسجد الحرامُ دخولهُ على القوى المشركة الطبيعية الدهرية لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } [ التوبة : 28 ] خطاباً للقوة الدرّاكة ، { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ } [ التوبة : 28 ] من القوى الطبيعية ، { نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] لمباشرتها الأرجاس البدنية والقاذورات بالإحالة والهضم والنقل من موضع إلى موضع { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } [ التوبة : 28 ] وهو معبد ( مسجد ) القلب المتنور بنور المعرفة والإخلاص ، { بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] ، أي : عام الفتح وزمانه { وَإِنْ خِفْتُمْ } [ التوبة : 28 ] من منعها عن الدخول فيه { عَيْلَةً } [ التوبة : 28 ] من عدم الفعل الغاذية وغيرها ، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] بأن يحصل لكم التقوّت بالمعرفة والاستغراق في شهوده بحيث لم يبق لكم كثير حاجة إلى فعل هذه القوى كما يحصل لأهل الله . ولقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [ التوبة : 17 ] لكونهم جسمانية ، والتجرد شرط الإيمان والمعرفة { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 17 - 18 ] بالمعرفة والعبودية { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ } [ التوبة : 18 ] أي ذكر الله { وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ } [ التوبة : 18 ] أي من الأجساد التي في تصرفه فيزكيها بتحليلها بالرياضات والعبادات في سبيل المعرفة { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } [ التوبة : 18 ] لكونه عالماً به ، وإنما يخشى الله من عباده العلماء { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } [ التوبة : 18 ] إلى طريق الآخرة وعالم القدس { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ التوبة : 19 ] اللَّتان هما فعل الغاذية والنامية ، إذ القوى الطائفة بكعبة البيت الحرام في مسجد الصدر ، إنما تتقوّت من فعل الغاذية ، وجسمية هذا المسجد إنما يتعمر بفعل النامية { كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [ التوبة : 19 ] وهي القوة العقلية { وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 19 ] بمعارضتها ومصادمتها للواهمة ووساوسها الشيطانية { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ التوبة : 19 ] { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } [ التوبة : 20 ] من موطن الجسمية إلى عالم التجرد والملكوت ، { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } [ التوبة : 20 ] من المواد البدنية والقوى المحمولة لها ، { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 20 - 22 ] . وكما أنه قد يستعين المجاهدون في مجاهدة طائفة من الكفّار بطائفة أخرى منهم ، كذلك في مجاهدة النفس يقع نظيره ، كما يدفع الإنسان ثورة ( سَوْرَةَ ) الشهوة بالغضب ، فإن بالغضب تنكسر الشهوة ، كما ينهزم الخنزير من النمر ، فالحكيم تارة يكسر شَرَه هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه ، ومرة يدفع ضراوة هذا الكلب بتسليط الخنزير عليه ، ليجعل الكلَّ مقهوراً تحت سياسته ، منخرطاً في سلك عباد الله المسلمين ، ويظهر العدل في مملكة البدن ، ويجري الكل على الصراط المستقيم . إذا تحقق ما ذكرناه فنقول : إن القوة العاقلة - التي هي خليفة الله في مملكة البدن - إذا غلبت بجنودها الذين هم من حزب الله ، - كالمعرفة والتقوى والذكاء والصبر وغيرها - ، على القوة الوهمية وجنودها وخدّامها الذين هم من جنود الشيطان في أول الأمر ، وزمان الجاهلية الأولى ، وصارت مسلمة بيدها مقهورة تحتها ، إذا جاء نصر الله والفتح إياها ، ودخلت سائر القوى في دين الله - الذي هو طريق معرفة الحق والعمل بمقتضاها - أفواجاً ، عند هذا الفتح المعنوي الذي هو عبارة عن مشاهدة حقائق هذه الأشياء كما هي ، فبعض هذه القوى منذ صحبت القوة العاقلة قبل حصول الكشف والشهود ، كانت مطيعة لأمر الله ، خادمة للقوة العاقلة ، مؤتمرة بأوامرها ، منتهية بنواهيها ، منفقة لمادتها البدنية ومحللة لرطوباتها الدماغية الحاملة لها في طريق التفكر في آيات الله وسبيل ملكوته ، والمجاهدة مع كفرة الأوهام الكاذبة الفاسدة . وبعضها كانت عاصية إياها بعد ، متمردة عن أوامرها ونواهيها . فكل قوة أسلمت وأطاعت أمر الله ، وأنفقت في طريق المعرفة ما تحمله من المواد الجسمية ، وجاهدت في سبيل الله ، وعارضت الكفرة والظلمة والفسقة تقرّباً إلى طاعة الحق قبل الولادة المعنوية والولاة الحقيقية ، فهي أعظم أجراً وأجلّ رتبة من سائر القوى ، وأقربها إلى أفق المجرّدات النورية ، وكل من هذه الجنود والقوى له استحقاق الحسنى من عند الله ، والمثوبة ، إذا أسلمت وصارت مسخّرة للقوة العاقلة ، ثابتة في طاعتها لأمر الله ، ومشايعتها إياها في السلوك إليه تعالى ، واستنارتها بنور المعرفة واهتدائها بهداها . فإن قلت : هذه القوى الجسمانية قائمة بهذه المادة العنصرية ، فهي داثرة هالكة غير باقية بعد خراب البدن ، فأنّى تكون لها المثوبة والسعادة ؟ قلت : هذه القوى البدنية الداثرة - ادراكية كانت الحواس ، أو تحريكية - كالشهوة والغضب ، كلها آثار وظلال للقوى والمشاعر التي هي في ذات القوة العاقلة ، فإن لها في ذاتها بصراً وسمعاً وذوقاً وشمّاً ولمساً - من دون الحاجة إلى البدن - ، وكذا لها في ذاتها محبة وقهراً وقبضاً وبسطاً ، ويداً معنوية ، وجارحة روحانية ، وهذه بمنزلة المعلومات والآثار لتلك ، وكما إن الحواس البدنية كلها ترجع إلى حاسة واحدة - هي الحس المشترك - ، فجميع حواس النفس ترجع إلى قوة واحدة - هي قوتها النظرية التي تشاهد بها المعقولات ، وتتصرف فيها ، وتحضرها عند العقل بقدرتها التي لها في ذاتها من دون البدن - . ألا ترى أن الإنسان في حالة النوم - والتي هي شبيهة لحالة الموت في تعطّل الحواسّ البدنية - ، يبصر ويسمع ويذوق ويلمس ويتحرك ، مع أن حواسه الظاهرة وكثيراً من قواها العلمية معطلة عن الإدراك والأفاعيل ؟ . فللنفس الإنسانية قوى وخدم في ذاتها ، وجنود معنوية وآلات روحانية باقية معها في النشأة الأخروية . وكما أن لها في الدنيا صوراً وأشكالاً وهيآت تناسبها ، فكذلك تحشر يوم القيامة وتظهر بصور وهيآت مناسبة لصفاتها وأعمالها ، حين يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .