Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 9-9)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقُرئ : " لرؤف " . لمّا حث سبحانه المكلفين على المعرفة بالله وملكوته من جهة ما ركّب فيهم من فطرة العقول ، وقرع أسماعهم من دعوة الرسول ، أخبر بأنه لزمت دعوته وقبولكم إياها لما أيده الله به من المعجزات البينة التي أظهرها على يديه ، أو الآيات الفرقانية خاصّة ، ليخرجكم الله سبحانه بواسطة تلك الآيات من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والمعرفة . أو ليخرجكم الرسول بدعوته ، أو ليخرجكم المنزل بما فيه من الحجج المنيرة والبراهين الواضحة . وإن الله بكم لرؤوف رحيم - ، حيث بعث الرسول ونصب الأدلة ، وهذا يدل على كمال الرأفة والرحمة ، وللاشعار به اقترن الكلام بوجوه من التأكيد : منها الجمع بين لفظين مترادفين ، وقيل : " الرأفة " : النعمة على المضرور ، و " الرحمة " النعمة على المحتاج . قيل : في هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة ، فإنه بيّن أن الغرض في إنزال القرآن الإيمان به . اقول : تحقيق هذا المقام يحتاج إلى طور آخر من اقتناص المعارف غير ما أكبّ عليه علماء الكلام ، لكن يجب على كل عاقل متفكر ، أن يفرّق بين الغاية الأخيرة والمتوسطة ، وكذا بين الغاية بمعنى الداعي وما يسمى بالضروري الذي يلزم الفعل من غير أن يكون داعياً إليه ، كقوله تعالى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . مكاشفة إعلم أن الله تعالى ، كما يُنزل على أشرف رسله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) آياتٍ بينات ليُخرج الناس من ظلمة الغباوة والغواية إلى نور الدراية والهداية ، فما من عبد من عباده المهتدين ، إلاّ ويأتيه من قِبَله تعالى إشارات وتنبيهات ، وتنزل منه على قلبه أنوار متتاليات ليخرج بها من ظلمة الحُجُب الدنيوية إلى نور المعارف الأخروية ، ولكن الناس أكثرهم غافلون عنها لاشتغالهم بما يلهيهم عن ذكر الله ، ويُنسيهم امر الآخرة ، فلا يبعد أن تكون هذه الآية بياناً لأخذ الميثاق المذكور في الآية المتقدمة ، فإن الله سبحانه خلق عباده على فطرة التجرد والنقاء عن علائق الأجرام ، والتقدس والصفاء عن كدورات الآثام ، والتهيؤ لقبول دعوة الحق والإلهام واستعداد الترقي بواسطة العلم والعمل إلى أرفع المنازل في دار السلام ، ثم إذا أنشأهم في هذه الحياة الدنيا ، ربّاهم واكملهم وأعطاهم العقل والتميز ، وبعث إليهم الرسول مؤيداً بالمعجزات ، فلا يزال ينزل على قلوبهم آيات بينات من أنوار معرفته ، ويفتح عليهم أبواباً من فنون رحمته وهدايته ، ليهديهم إلى صراط مستقيم ، ويخرجهم من ظلمات الجحيم إلى أنوار النعيم . وإنما ينسي الناس ذكر مواثيقهم الجِبِلّية مع الحق ، وعهودهم الذاتية مع سكّان ملكوته ، وسائر ما كانوا مفطورين عليه بطهارة ذواتهم المخمرة بيد القدرة أربعين صباحاً ، واستعدادهم للمعرفة واليقين ، تعلقاتُهم بمشاغل الكون لضرورة حياتهم الدنيوية ، ويشغلهم عمّا يرد على قلوبهم من أنوار المعارف باطناً وظاهراً ، ويلهيهم عن ألطاف الحق الواصلة إليهم داخلاً وخارجاً ، ارتكابُهم الخطيئات ، واقترافهم السيئات المبعدة لهم عن جوار الله وقربه ، لان المعاصي تعمي أبصارهم ، وتصمّ أسماعهم عن إدراك أنوار الحق وإلهاماته ، فأعرضوا بها عن ذكر الله وسماع آياته البينات ، واشتغلوا بما يلهيهم به الشيطان عما يلهمهم به الرحمان ، لقوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . وتمام التحقيق في هذا المرام ، أن قلب الإنسان ذو وجهين : وجه إلى عالم الملكوت - وهو عالم المعرفة ، وعالم الآخرة ، وعالم الإلهام - ، ووجه إلى عالم الحس - وهو عالم الجهل وعالم الدنيا وعالم الوسواس - ، ثم إن الخواطر التي ترد على قلبه وتبعثه على الأفعال والحركات إما أن تنبعث من الجَنَبة العالية وتدعوه إلى الخير - كالعبادة والمعرفة - ، أو تنبعث من الجَنَبة السافلة وتدعوه إلى الشر ، - كالمعصية والغفلة - ، فهما خاطران مختلفان ، فافتقر إلى اسمين مختلفين - أيضاً - وهما حادثان ، فاحتاجا إلى سبببين مختلفين ، لان اختلاف المعاليل الحادثة يدل على اختلاف عللها القريبة ، وان كان المؤثر في فيضان الوجود مطلقاً هو الله لبراءته عن شوائب الإمكان والدثور . فسبب الخاطر الداعي إلى الخير ، يسمى في عرف الشريعة " مَلَكا " ، وذلك الخاطر " إلهاماً " ، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى " شيطاناً " ، والخاطر " وسوسة " . والله تعالى خالق كل شيء ، فخلق الملائكة لصفة رحمته ولطفه ، وخلق الشياطين لصفة قهره وغضبه ، وكما أن الجنة أثر من آثار رحمته ونور من أنوار لطفه ورأفته ، فكذلك النار أثر من آثار غضبه وشعلة من شعل قهره ، فالإنسان متى اشتغل بعبادة ربه ومعرفة خالقه ، انخرط في سلك رحمته ودخل في زمرة الملكوتيين ، ومهما اشتغل بالمعاصي والشهوات ومتابعة الهوى والشيطان ، استعد لمقته وغضبه ، وعُدّ من جملة الشياطين ، فالإلهامات من جانب الحق بواسطة المَلَك لعباده الصالحين ، في مقابلة الوساوس من جانب الشيطان . وإنما يسلط الشيطان على قلب ابن آدم بواسطة " الخذلان " الحاصل له من مخالفته الحق ، والعصيان ، وإلاَّ فليس له في ذاته هذا التسلط على الإنسان ، وإنما يدفع كيده عنه بواسطة " التوفيق " الذي يجلبه الإنسان بفعل الطاعة والعبادة ، فإذا زال كيده ودفع وسواسه عن القلب ، استعد لقبول الإلهامات الداعية إلى الخير والنور ، الصارفة له عن الشرور والظلمات ، فأهل الرحمة مآلهم إلى الجنة والنعيم ، وأهل السخط مآلهم إلى النار والجحيم ، وكل جنس يحنّ إلى جنسه ، وكل طائر يطير إلى عشّه الأصلي ومعدنه الفطري ، إما من جهة التوفيق والهداية ، أو من جهة السخط والخذلان ، والكل بمشية الله وقدرته . وقوله سبحانه : هو الذي ينزّل على عبده آيات بينات - يمكن أن يكون إشارة إلى الواردات التي ترد من جانب الرحمن على قلوب السالكين من عباده بواسطة ملائكة الرحمة ، من الإلهامات والمعارف الحقة الواضحة لديهم أنها من جانب الحق . وقوله : { لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ الحديد : 9 ] - ، إشارة إلى ثمرة هذه الألطاف والأنعام في حقهم وفي حق غيرهم ، إذ بها تنتقل النفوس الإنسانية من القوة الهيولانية الظلمانية إلى العقل بالفعل المتنور بأنوار المعرفة والإيمان بالله وآياته واليوم الآخر ، أو من ظلمات الصفات الشيطانية إلى أنوار الأخلاق المَلَكية ، أو الجمع بينهما ليكون بها للعبد الخروج من القوة إلى الفعل بحسب كلتا قوتيه - العلميّة والعملية - . وكما أن الإنسان ، بالتأمل في أسرار معرفة الله وسماع آيات ملكوته ، والتفكر في امر الآخرة يخرج من ظلمات الجهل والنقصان إلى نور المعرفة والكمال ، فكذلك في ارتكاب شهوات الدنيا ، ومتابعة الهوى والشيطان ، يخرج من نور الإدراكات الحسية إلى ظلمات العمى والحرمان عن مشتهيات الدنيا ، لفقد ( لفتور - ن ) الآلات عند الفساد والبطلان ، ويدل عليه قوله تعالى : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] . والله أعلم بأسرار كلامه .