Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 12-12)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الظرف متعلق بقوله : وله أجر كريم . أو منصوب بتقدير " أذكر " ، تعظيماً لذلك اليوم . فعلى الأول معناه : يصل هذا الأجر الكريم إليهم يوم القيامة ، - وهو يوم يسعى للمؤمنين نورهم بين أيديهم وبأيمانهم إلى الجنة ، فإن الطريق إلى جنّة المقرّبين إنما يكون على الوجه الأول - ، لأنها عقلية واقعة في سلسلة الأسباب المؤدية إلى وجود الإنسان ، يسلكها العالم الربّاني مرتقياً إليها بأنوار المعارف العقلية - وإلى جنّة السعداء على الوجه الثاني - ، لأنها جسمانية واقعة في السلسلة العرضية المعلولية ، فيتوجه إليها أهل النسك والصلاح وأصحاب اليمين ، منعطفاً إليها بنور العبادة وقوة الأعمال الحسنة ، ولهذا المعنى قيل : - اليمين طريق الجنة - . وقد صرح بعض أهل الكشف والعرفان ، بأن البرزخ الذي تكون الأرواح فيها بعد المفارقة من النشأة الدنيوية ، هو غير البرزخ الذي بين الأرواح المجردة والأجسام ، لان تنزلاّت الوجود ومعارجه دورية ، لكنهما يشتركان في كونهما عالماً نورانياً وموطناً ملكوتياً ، فالسعداء مطلقاً يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . وقوله : { بُشْرَاكُمُ } اليوم ؛ بمنزلة حال ، أي : يسعى نورهم حين يقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم : { بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ } ، وهؤلاء الملائكة المبشرون بالجنات مختلفو الدرجات في القرب إليه تعالى حسب تفاوت منازل أهل الجنان في التقديس والخلوص ، مع اتفاقهم في حصول الحقائق وصورها الحسان ، فالجميع { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي : الخلاص عن كل مرهوب ، والظفر بكل محبوب ، فإن كل واحد من أهل الجنان له ما يشتهيه وتصل إليه همّته ، إلاَّ أن الهمم متفاوتة حسب تفاوت الأحوال . قال ابن عباس رضي الله عنه : " هذا النور يكون على الصراط " . وقيل : " في عرصة القيام " . ولا نور هنالك إلاَّ نور الإيمان والطاعة ، وكل يعطى نوراً على قدر علمه ( عمله ) . مكاشفة هذا النور المشار إليه في هذه الآية ، هو نور المعرفة واليقين ، فإن النفس الإنسانية من عالم النور والمعرفة ، لكنها بسبب التعلق بعالم الأجسام الكثيفة صارت ظلمانية محجوبة عن الإدراكات ، فإذا ارتاضت ذاتها بالرياضات الدينية والأعمال الشرعية من الأفكار والأذكار والعبادات ، وخرجت من مرتبة القوى الهيولانية إلى مرتبة الفعلية ، حصل لها العقل المستفاد ، وهو نور يستضيء ويضيء في المعاد ، فصار نوراً على نور . وهذا النور العارض ، إنّما يُقذف في قلب المؤمن من عالم الملكوت ، بسبب اكتساب العقليات واليقينيات عند تصوره الخير الحقيقي ، أو بسبب اكتساب الاعتقادات المحمودة والظنون الحسنة عند تصوّره الخير المظنون . فالأول : نور عقلي يختص بالمقرّبين ، يسعى بين أيديهم ، ويصعد بهم إلى جوار الله وجنّاتِ المعارف العقلية التي قيل في وصفها : " مَا لاَ عَيْن رَأت ولا أُذُن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر " . والنور الآخر : نور يختص بغيرهم من السعداء ، يسعى بأيمانهم ويذهب بهم إلى جنّات جسمانية منورة غاية ما يتصور فيها لهم وفي حقهم من الصفاء والنورية والضياء . واشراق نور كل أحد بقدر قوة معرفته وإيمانه ، ولهذا وقع في الأخبار : " إن أنوار الأخيار والأبرار مختلفة في الإضاءة والآثار " . قال قتادة : " ان المؤمن يضيء له نوره كما بين عَدَن إلى صنعاء ودون ذلك ، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلاَّ موضع قدميه " . وقال عبد الله بن مسعود : " ويؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من نوره مثل الجَبَل ، وأدناهم نوراً نوره على قدر أبهام قدميه فيضيء مرة وينطفئ أخرى فإذا أضاء قدمه مشى وإذا انطفأ قام " . ولما كانت الحركة والإدراك متلازمين لقوله تعالى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] ، فالأول : إشارة إلى قوة التحريك ، والثاني : إشارة إلى قوة الإدراك . ثم لكل إدراك حركة تناسبه ، فمرورهم على الصراط على قدر نور إيمانهم ، ومن كان نوره كالشمس ، كان مروره كطَرْف العين ، ومن كان نوره دون ذلك ، كان مروره على قدره ، فمنهم من يمر كالبَرْق ، ومنهم كالسحاب ، ومنهم كانقضاض الكواكب ، ومنهم من يمر كشدّ الفرس ، والذي أعطي نوراً على أبهام قدمه ، يحبو على وجهه ويديه ورجليه يجرّ يداً ويعلّق أخرى ، ويجرّ رجلاً ويعلّق أخرى ، وتصيب جوانبه النار ، فلا يزال كذلك حتى يخلص ، وبهذا يقاس تفاوت الناس في المعارف . ولذلك جاء في الخبر : " أنه تعالى يُخرج يوم القيامة من النار من في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان ، ونصف مثقال وربع مثقال ، وشعيرة وذرّة " كل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان بحسب قوة اليقين وإشراقه ، وسرعة التفطن والتحدس بحقائقه وأسراره ، وأن هذه المقادير من الإيمان لا تمنع من دخول النار . وقال بعض العلماء في مفهوم هذا الخبر : " إن من إيمانه يزيد على مثقال فإنه لا يدخل النار ، إذ لو دخل لأمر باخراجه أولاً ، وان من في قلبه مثقال ذرّة لا يستحق الخلود في النار وإن دخلها " . وقوله تعالى : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] ، تفضيل للمؤمن العارف على المسلم ، وهو المقلّد مع سلامة قلبه عن النفاق . وأما قوله تعالى : { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] ، فأراد هاهنا " بالذين آمنوا " ؛ الذين صدقوا تقليداً من غير علم برهاني أو كشفي ، وميزهم عن الذين أُوتوا العلم . ويدلّ ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد - وإن لم يكن تصديقه على بصيرة وكشف - . وفسّر ابن عباس قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] قال : يرفع العالم فوق المؤمن بسبعمأة درجة بين كل درجتين منها ما بين السماء والأرض . وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " أكثر أهل الجنة البله . وعِلّيُّون لذوي الألباب " . وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : " فضل العالم على العابد كفضلي على رجل من أصحابي " وفي كتاب الكافي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : " قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر " . فهذه الشواهد يتضح بها تفاوت درجات أهل الجنان بحسب تفاوت قلوبهم في الإشراق والكدورة . وملخص القول : ان اكتساب العلوم الحقة ، وفعل الحسنات في الدنيا ، ينتجان تقرر الأخلاق والمَلَكات ، ورسوخ المعارف والاعتقادات ، والمعرفة إذ اشتدت صارت مشاهدة عند رفع الحُجُب بالموت ، فمشاهدة كل أحد بقدر معرفته ، وهي المراد من النور ، إلاّ أن المعارف اليقينية الدائمة العقلية البرهانية الربانية تورث المشاهدات والمكاشفات العقلية في جنّة الكاملين في العلم ، والمعارف الظنية الخيالية تورث المشاهدات الجسمانية في جنّة أصحاب اليمين ، والصور الحسان التي فيها إنما هي بمنزلة تماثيل وعلامات لما في تلك الجنّات العُلى ، لأن العوالم متطابقة والنشآت متوافقة مع تفاضلها في الشرف والرتبة ، لقوله تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] .