Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 25-25)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أقسم سبحانه أنه أرسل الرسل المبعوثين منه - وهم الملائكة والأنبياء عليهم التقديس والتسليم - بالحجج والمعجزات الباهرة ، وأنزل معهم الوحي والميزان . والأول للهداية إلى العلوم والتعليمات ، والثاني للإرشاد إلى الأعمال والمعاملات ، ولهذا عقّبه بقوله : ليقومَ الناس بالقسط - أي : في معاملتهم بالعدل . روي أن جبرائيل ( عليه السلام ) نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : " مُرْ قَوْمَكَ يَزِنُوا به " . وعن ابن زيد والجبائي . ومقاتل بن سليمان معناه : وأنزلنا معهم من السماء الميزان ذا الكفّتين يوزن به - وفيه سر - . وعن قتادة ومقاتل بن حيان : معناه أنزلنا صفة الميزان ، أي أمرنا الناس بالعدل ، كقوله : { ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ } [ الشورى : 17 ] . وأنزلنا الحديد - الذي يتخذ منه آلات الحروب للذبّ عن بيضة الإسلام ، ولبأس أهل الفساد ومنفعة الناس ، إذ ما من منفعة به الناس ديناً ودنياً إلاَّ والحديد آلتها كالكتابة والزراعة وغيرهما . روى ابن عمر عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : " إن الله - عز وجل - أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد والماء والنار والملح " . ومعنى الإنزال عند أهل المعنى : الإنشاء منها ، لأن الحوادث الكونية إنما تخلق من الله بتوسط الأسباب الفاعلة السماوية ، والمواد القابلة الأرضية ، فمعنى قوله : أنزلنا الحديد : أنشأناه وأحدثناه ، كقوله : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] . وعلى هذا المعنى أيضاً يُحمل أمثال قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } [ الفرقان : 48 ] فإن السموات ليست حياضاً وغدراناً للمياه ولا اصطبلاً للدواب ، وإلى شبه هذا ذهب مقاتل فقال : " معناه : بأمرنا كان الحديد " . وقال قطرب : معنى " أنزلنا " ها هنا " هيّأنا " من النُزل ، وهو ما يُهيّأ للضيف ، أي : أنعمنا بالحديد وهيأنا ، لكم . وقيل : " نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة " . وروي : ومعه المرّ والمسحاة . وقوله : ليعلم الله من ينصره ورسوله - ، معطوف على قوله : ليقوم الناس بالقسط - أي : ليعاملوا بالعدل ، وليعلم الله نصرة من ينصره ورسلَه باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح . ويحتمل أن يكون معطوفاً على محذوف دلّ عليه ما قبله ، فإنه حال متضمن تعليلاً ، واللام صلة لمحذوف ، أي : أنزله ليعلم الله - . وقوله : بالغيب - حال من المستكنّ في : " ينصره " ، أي : ينصره ورسله غائباً عنهم بمجرد العلم الواقع بالنظر والاستدلال من غير مشاهدة حسيّة ، كما قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه . ان الله قوي - ، على إهلاك من أراد إهلاكه ، - عزيز - ، منيع لا يفتقر إلى نصرة ، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به في العاجل ، ويستوجبوا الثواب بامتثال الأمر به في الآجل ، وليجمعوا بين الرحمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة . مكاشفة هذه الآية - كنظائرها - مشتملة على إشارات إلى فوائد نفيسة من علم المبدأ والمعاد ، وتنبيهات على فوائد شريفة من معرفة سلوك طريق الآخرة ، وأخذ الزاد ، ينبغي التنبيه عليها : الفائدة الأولىٰ الإشارة إلى كيفية إرسال الرسل وإنزال الكتب وبيانه : أن سعادة الإنسان منوطة بأمرين : أحدهما : الاطلاع على الحقائق والمعقولات بالعلوم الكلية . وثانيهما : الاتصاف بالصفات المحسّنات ، والتنزه عن القيود والمضائق السفليات بالآراء العلمية . وهذه الكمالات ، مما يخلو الإنسان منها في أول الحدوث ، لكونه ضعيف الخلقة ، كما أشار إليه بقوله : { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] . بل فائضة عليه من الله تعالى بتوسط الملائكة العلوية ، وليس كل واحد من الناس مما تيسر له التفطن بالكمالات ، والاتصال بعالم العلويات إلاَّ مَن أيّد بروح قدسي يتصل بفيض علوي ، ويعلم الأشياء بإلهام غيبي ومدد سماوي ، وهذا الإنسان هو " النبي " أو " الولي " ، وما يقبله بحسب صفاء باطنه وإشراق روحه عن الملك الملقي إليه المعارف ، هو " الوحي " للأنبياء ، أو " الإلهام " للأولياء . وستعلم الفرق بينهما . فلا بد لهداية الخلق وإرشادهم إلى طريق النجاة ، وإيصالهم إلى المعادن ، من وجود متوسط بينهم وبين الله يأخذ منه العلوم والكمالات من غير تعليم بشري ، ويوصله إليهم : { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الجمعة : 2 ] ، كيف ولو أخذ كل إنسان علمه من إنسان آخر - من غير أن ينتهي إلى الوحي والإلهام - ، لأدّى ذلك إلى غير النهاية ، فلا بد من الانتهاء إلى من يأخذ العلوم والكمالات من معدن اللاهوت بلا تعلّم أو تقليد . ولا يُتَوَهَّمَنَّ أن النبي يأخذ العلوم عن الملك الموحى إليه على سبيل التقليد ، - هيهات - ، العلم التقليدي ليس علماً في الحقيقة ، إذ العلم هو اليقين ، وهو لا يحصل إلاَّ مع الظفر بالمبادئ والأسباب بسبب اتصال النفس القدسية بالملائكة ، وأخذها العلوم منهم ، فإن الغير المنطبع لولا احتجابه بالبدن وقواه ، وتعلقه بالدنيا ، واخلاده إلى الأرض ، يتصل بالمبادئ العالمية والملائكة المقرّبين ، وخصوصاً بما يقرب الينا ويؤثر في عالمنا هذا ، وهو المسمى بـ " روح القدس " المعلم للأنبياء ، و " جبرائيل " على لغة السريانيين ، فلو اتصلت به لتلألات فيه النقوش العلمية والصفات الكمالية التي فيها ، إذ لا مباينة بين المجرّدات إلاَّ المادة ، ولا منع ولا تقصير ولا بخل في الجود والإفاضة ، لأن هذه الأشياء من خواص عالم الأجسام لتضايقها وتمانعها ، فلدى الارتفاع عن ذلك يطالع المغيبات . ومن جرّب من نفسه صحة المنامات - والنوم إنما هو انحباس الروح عن الظاهر في الباطن - ، لا يستبعد من أن يكون نفس شديدة الارتفاع عن هذا العالم ، قويّة الاتصال بالملكوت الأعلى تتلقى منه المعارف الكلية والحقائق العقلية ، كما تتلقى أكثر النفوس في بعض الأحايين من الملكوت الأوسط شيئاً من المغيّبات الزمانية المادية . ومنبع المكاشفات العقلية المعنوية ، عالم العقول والملائكة العقلية ، ومعدن المكاشفات الصورية الحسية ، عالم النفوس الفلكية والملائكة العملية . فالمكاشفة العقلية أحد أجزاء النبوة ، وهو جزء مشترك بين الأنبياء والأولياء ، وللنبوة جزءان مختصان : أحدهما : أن يكون النبي مأموراً من السماء بإصلاح النوع . والثاني : طاعة الهيولى العنصرية له ، بل طاعة هيولى الأفلاك بالشق والرم بسيدهم وخاتمهم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لظهور المعجزات وخوارق العادات . وتحقيق ذلك ؛ أن الإنسان ملتئم من أجزاء ثلاثة ، من عوالم ثلاثة ، هي مبادئ إدراكات ثلاثة : التعقل ، والتخيّل والإحساس . فبكل من هذه القوى يتصرف في عالم من العوالم الثلاثة : الدنيا ، والآخرة ، وما هو فوقهما - أي عالم الوحدة - ، وقد ثبت أن كل إدراك هو ضرب من الوجود ، فكمال كل واحد من هذه القوى يوجب التصرف في عالم من تلك العوالم ، والنبي هو الإنسان الذي تقوى فيه وتكمل وتشتد جميع هذه القوى الثلاث ، فبالقوة العاقلة يتصل بالقدسيين ، ويجاوز المقرّبين ، وينخرط في سلكهم - بل يفوق عليهم عند اتصاله بالحق وفنائه عن الخلق واندكاك جبل إنّيته ، كما أخبر عن نفسه بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : " لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل " . وبالقوة المصورة ، يشاهد الأشباح المثالية والأشخاص الغيبية ، ويتلقى الأخبار الجزئية منهم ، ويطلع بهم على الحوادث الآتية والماضية . وبالقوة الحساسة - المساوقة للقوة المحركة - يتسلط على أفراد البشرية ، وتنفعل عنه المواد ، وتخضع له القوى والطبائع الجرمانية تسلّط العالي على السافل ، وخضوع السافل للعالي . فالدرجة الكاملة من الإنسان بحسب نشأته الجامعة لجميع العوالم ، هي التي يكون الإنسان بها معظّماً عند الله ، مؤيّداً منه بتأييد تام ، وإلهام غيبي ، وإمداد ملكي ، واعانة فلكية يكون بحسبها قويّ القوى الثلاث كلها ، ليستحق بها خلافة الله ورئاسة الخلق من قِبَله . فعُلِم مما ذكرنا ، أن أصول المعجزات والكرامات ، هي كمالات ثلاثة تختص بقوى ثلاث : الخاصية الأولى : كمال القوى العاقلة ، وهي أن يصوف عقل الإنسان صفاء يكون شديد الشبه بالملائكة المقرّبين - المسماة عند بعضهم بالعقول الفعّالة - ليتصل بهم من غير كثير تفكّر وتعمّل ، حتى يفيض عليه العلوم اللدنية من غير توسط تعليم بشري ، بل تكاد أرض نفسه الناطقة تشرق بنور ربها ، وزيت عقله المنفعل يضيء لغاية الاستعداد بنور العقل الفعّال ، الذي ليس هو بخارج عن كمال ذاته وان لم تمسسه نار التعليم البشري ، لكن عند تميز ذاته القابلة للمعقول عن ذات المقبول من العقول ، صارت نوراً على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء . الخاصية الثانية : كمال القوة المصّورة ، وهو كونها في الشدة والقوة بحيث يشاهد في اليقظة عالم الغيب - كما قد يشاهد النائم في نومه - ، وذلك لأن قوى النفس وان كانت متجاذبة متنازعة ، كلما انجذبت النفس إلى بعضها - كالظواهر - انقطعت عن الأخرى - كالبواطن - ، لكن إذا لم يكن ضعيفة منفعلة عن الجوانب ، بل كانت قوية غير منفعلة عنها وسيعة للجانبين تحفظ الجميع ، فعند استعمال الحواس الظاهرة تستعمل الباطنة ، وتشاهد المغيّبات في اليقظة ، فتدرك المعقولات والكليات عن الوسائط العقلية ، وتشاهد الصور الجميلة والأصوات الحسنة المنظومة على الوجه الجزئي في مقام هو رقليا ، أو في غيرها من العوالم المتوسطة البرزخية الباطنية . وليعلم أن العوالم متطابقة متحاكية ، فكل ما يدرك هذا الإنسان من عالم العقل ، يقع له حكاية منه في عالم الأشباح الباطنية ، فذات العقل المفيض مطابقة البدن للروح ، واللفظ للمعنى ، فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف العقلي هي الملك الذي يراه النبي والولي ، أما النبي بما هو نبي ، فعلى طريق الحكاية والصورة ، وأما الوي بما هو ولي ، فعلى طريق التجرد الصرف ، وهذا أفضل أجزاء النبوة . لكن النبي - لكمال قوته البدنية والعقلية - جميعاً - ، يدرك الملك الموحي على الوجهين - بخلاف غيره من الأولياء - ، وكذا الحكم في المعارف التي تصل إلى النبي معنى وحكاية ، وإلى الولي معنى فقط ، فالشخص الملقي للمعارف على الوجه المذكور ، هو الملك الموحي بإذن الله ، والكلام النازل منه في غاية الفصاحة هو كلام الله والوحي . فعُلِمَ ممّا ذُكر ، أن للملائكة ذواتاً حقيقة أمريّة ، وذواتاً بحسب القياس الينا من جهة القوة المصورة التي شأنها حكاية المعقولات ، حكاية صحيحة طبيعية ، وكذا للقرآن حقيقة معقولة لا يطلع عليها أحد إلاَّ من شاء الله تعالى ، وحقيقة بالقياس إلى مداركنا وحواسنا ، كما أن للحق تعالى ذاتاً أحدية لا يكتنهها أحد غيره ، وذاتاً متصفة بالإضافات والاستواء على العرش . فلينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه ، وفي إيصال كلامه إلى أفهام خلقه ، وانظر كيف يجبل لهم إياه في حروف وأصوات - هي صفات البشر - ، ولو استتر كنه جمال كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع كلامه عرش ولا ثرى ، ولتلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره ، ولولا أن ثبّت الله موسى - على نبينا وعليه السلام - ، لما أطاق سماع كلامه ، كما لم يطق الجبل مبادئ تجليه حيث صار دَكاً دكّاً . وقد عبّر بعض العارفين عن هذا وقال : إن كل حرف من كلام الله في اللوح أعظم من جبل قاف ، وان الملائكة لو اجتمعت على الحرف الواحد أن ينقلوه لما أطاقوه ، حتى يأتي إسرافيل - وهو ملك اللوح - ، فيرفعه فينقله بإذن الله لا بقوته وطاقته ، ولكن الله طوقه ذلك واستعمله به . فقوله : " كل حرف من كلام الله أعظم من كذا . … " ، المراد منه أن كل معنى من المعاني العقلية بحيث لا يمكن حمله بقوة جسمانية - لما ثبت من أن المعنى العقلي لا يحمله المحل الجسماني - ، والملائكة الذين لا يطيقون حمل المعاني العقلية الكلية ، هم الملائكة الجسمانيون ، فحق أن المعاني القرآنية ما لم تنزل بكسوة التعينات الجزئية والأصوات والألفاظ ، لا تحملها الطبائع الجسمانية والمدارك الخيالية الانطباعية . والمراد بإسرافيل ، إما الملك العقلاني المفيض لفلك الشمس التي هي بمنزلة قلب العالم - كما مر - ، أو الملك النفساني المدبَّر لها . وظاهر أن العقول المجردة لا تحمل المعاني الكلية إلاَّ بافاضة الله تعالى عليها . الخاصية الثالثة : قوة في النفس الإنساني من جهة جزئها العملي وقواها التحريكية لتؤثر في هيولى العالم بازالة صورة ونزعها عن المواد ، وبإيجادها وكسوتها إياها ، فتؤثر في استحالة الهواء إلى الغيم ، وحدوث الأمطار ، وحصول الطوفانات ، وإهلاك أمة فجرت وَعَتَتْ عن أمر ربها ورسله ، وشفاء المرضى ، وإرواء العطشى ، وخضوع الحيوانات . وهذا أيضاً غير مستحيل ، لما قد علمت ، أن الأجسام مطيعة للمجرّدات ، بل هي ظلال لها وعكوس عنها ، فكلما أزدادت النفس تجرداً وتشبّهاً بالمبادئ القصوى ، ازدادت قوة وتأثيراً في ما دونها ، وإذا صدّقت أن مجرد التصور والتوهم يحدث هذه التغيرات والانفعالات في هيولى البدن ، وليس ذلك لكون النفس ملاصقة بالبدن منطبعة فيه ، بل لتعلق قهري وارتباط عِلّي ( عقلي ) ، وعلاقة شوقية لها به ، فلا تتعجب من نفس شريفة قوية تؤثر في بدن الغير ، وفي هيولى العالم مثل هذا التأثير ، لأجل مزيد قوة شوقية ، واهتزاز علوي ، ومحبة الهية لها ، وشفقة لها على خلق الله شفقة الوالد على ولده والأم على ولدها ، فتؤثر نفسه في إصلاحها وإهلاك ما يضرها ، والمجاهدة لما يفسدها . وكما ان الخاصية الثانية توجد بوجه غير مرضي ولا محمود في نفوس الأشرار ، فكذا هذه الخاصية يوجد شيء منها في بعض النفوس القوية من غير تألّه ولا معرفة ، بل لشدة قوتها التأثيرية قد يتعدى تأثيرها في بدن آخر حتى يفسد الروح بالتوهم ، ويعبّر عن هذا بإصابة العَين . كما روي عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أنه قال : " العين تدخل الرجل القبر ، والجَمَلَ القِدر " وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيضاً : " العين حق " . فإذا كان هذا النحو من التأثير - أي بدون آلة جسمانية - ممكناً في حق الأشرار ، فما ظنك بنفوس عظيمة شديدة القوة شديدة البراءة عن المواد ، كيف لا يتعدى تأثيرها عن بدنها وعالمها الصغير إلى غيره فيؤثر في هيولى العالم تأثيرها في بدنه ، ومثل هذا يعبّر بالكرامة والمعجزة عند الناس . والخاصية الأولى أفضل أجزاء النبوة عند الخواصّ ، ولهذا كان أعظم معجزات نبينا ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) القرآن ، وهو كما ترى مشتمل على المعارف الإلهية . وحقائق المبدأ والمعاد ، وسلوك الطريق إلى الله تعالى ، وبيان أحوال الواصلين إليه تعالى على وجه عجز عن دَرْكه إلاَّ الأقلّون من الراسخين من أمته . وفيه الأخبار عن المغيبات والأفعال الخارقة للعادات ، مع أن نفسه أيضاً من المعجزات العقلية التي كلّت أذهان العقلاء عن دَرْكها ، وخرست ألسن الفصحاء عن وصفها . فهذا ما أوردناه من معنى إرسال الرسل وكيفية إنزال الكتب . الفائدة الثانية الإشارة إلى تكميل القوة النظرية وتعديل القوة العملية المستفادين من لفظي الكتاب والميزان والاقتران بينهما في الإنزال ، والتعليل لهما بقيام الناس بالقسط . وبيان ذلك : ان للإنسان هويّة مجردة عن الأحياز والأمكنة ، وهي لطيفة ملكوتية ، وكلمة روحانية مضافة إلى الحق ، فائضة بأمره من غير وساطة المواد واستعدادها إلاَّ بالعَرَض - كما حققناه في موضعه - ، وهي المشار إليه بقولنا : " أنا " ، وهي الجوهر الباقي منّا إلى يوم الحشر والحساب ، مع اضمحلال الأجزاء البدنية ، وهي المحشورة إلى ربها عند القيامة بالبدن الأخروي المماثل لهذا البدن ، بل عينه ، لأن هوية البدن وتشخّصه إنما هو بالنفس في مدة بقاء الكون ، وان تبدلت الأعضاء بالاستحالات الحاصلة من الحرارات الغريزية الطبيعية ، والغريبة الداخلة ، والمطيفة بالبدن الخارجة . وبالجملة ، حقيقة الإنسان ليست إلاَّ ذاته المجردة ، وكل ذات إنما يكون هلاكها في نقصها وضعفها وآفتها ، ومجاورة ضدها ، وبقاؤها في كمالها وقوتها وصحتها ومجاورة أشباهها ، ولكل شيء كمال خاص ، فكمال القوة الشهوية نيل المشتهيات واللذائذ الحسية ، وكمال القوة الغضبية الظفر بالانتقام ، وكمال القوة الحسية إدراك المحسوسات ، وكمال القوة المتخيلة تصوير المتمثلات ، وكمال الواهمة الظنون والرجاء . وللنفس الإنسانية في ذاتها كمال يخصها ، ولها قوتان : إحداهما عاقلة نظرية متوجهة إلى الحق ، والأخرى عاملة محركة للبدن متوجهة إليه ، فكمال النفس بحسب قوتها النظرية بمعرفة حقائق الأشياء وكلياتها ، والمبادئ القصوى في الوجود ، وبالجملة معرفة الحق الأول بما لَهُ من صفات جماله ، ونعوت جلاله ، وكيفية صدور أفعاله عنه ورجوعها إليه ، ومعرفة كونه غاية الأشياء الذي تتوجه إليه الموجودات في بقائها ، كما تبتدئ منه في حدوثها ، إلى غير ذلك من المعارف الحقّة التي كانت مستعدة لها أولاً عند كونها هيولانية الذات ، ثم تحصل لها بسبب حصول المقدمات صورها على نحو البرهان الدائم اليقيني ، ثم ستصير مشاهدة إياها فائضة من الحق الأول ، ثم تصير متصلة بها ، منخرطة في سلكها مستغرقة في شهود مبدئها ومعادها ، بحيث لا تلتفت إلى ذاتها العارفة به تعالى ، فضلاً عن غيرها ، بل الاضمحلال في المعروف يذهلها عن كل شيء حتى عن ذاتها وعن عرفانها لمبدئها . فاليقين الأول هو العلم ، والثاني هو العين ، والثالث هو الحق ، فهذا هو كمال النفس بحسب قوتها النظرية ، ولا شبهة في أنه لا يحصل هذا الكمال إلاَّ بسبق معرفة الحقائق والعلم بالمعقولات ، ولا شبهة في أن كتاب الله مشتمل على جلّها بل كلّها ، ولا شك في أن حصول المعارف والعلوم متوقف على وساطة الرسول ، ووساطته إنما تحصل بانزال القرآن ، فقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } [ الحديد : 25 ] ، إشارة إلى ما تستكمل به القوة النظرية . واما كمال النفس بحسب القوة العملية الذي يكون الميزان إشارة إليه فبيانه : أن النفس لما كانت في أول نشأتها ناقصة ضعيفة القوام بذاتها ، فتحتاج في استكمالها بالكمال الذي قد سبق ذكره ، إلى مادة بدنية تفيض وتستفيد بواسطة آلاته الجسمانية ، ومشاعره الإدراكية ، مبادئ إدراكاتها التصورية والتصديقية من الأوليات الحاصلة من المشاركات والمبائنات بين ما يقع الإحساس بها من المحسوسات الجسمانية ، فتكون النفس في أول الاستكمال محتاجة إلى البدن وقواه على الوجه المذكور ، ولذا قيل : " من فقد حساً فَقَدَ علماً " . ثم إن البدن جسم مركب من عناسر متضادة ، فله بحسب كل منها أضداد يجب الاحتراز عنها في مدة بقائها ، وهو في أول التكون قليل المقدار صغير الجسم ، لكون كل بدن حاصلاً من مثله في النوع بفضلة تحصل منه ، وفضلة الشيء لا يمكن أن تساويه ، فلهذا الوجه ولوجوه أُخر مذكورة في مظانّها ، لا بد أن يكون في أول الحداثة قليل المقدار غير تام الخلقة ، ويكون تمامه بورود الجسم الشبيه به - قليلاً قليلاً - في مدة حياته ، وهو الغذاء ، وطلبه إنما يكون بالشهوة ، والشهوة لا بدّ لها من إدراك سابق ، لأن كل جسم لا يصلح للتغذي ، إذ ربما يكون سُماً قاتلاً أو مُضِراً ، فيحتاج الإنسان إلى قوة ما يدرك المصلح من المفسد في الأجسام الغذائية ، ولا بد أن يكون مدركاً بادراك جزئي من الحواس الظاهرة - لاجل التمييز - ، والباطنة - لأجل الحفظ والذكر - ، إذ ربما لا يكون في كل جسم ما يشهد كونه ملائماً أو منافياً في كل وقت . فثبت أن استكمال النفس متوقف على بقاء البدن مدة ، وبقاء البدن متوقف على قوى ثلاث لأمور ثلاثة : قوة العلم للتمييز بين المصلح والمفسد ، وقوة الغضب لدفع المفسدة ، وقوة الشهوة لجلب المنفعة . ومباشرة النفس لهذه القوى الثلاث ، من باب الضرورة كما علمت ، وإلاَّ فكمالها في التجرد عنها ، ومن ابتلي بصحبة الأخسّاء من الأضداد ، فما دام اشتغاله بها وعدم الخلاص عنها ، فالتوسط بين الأضداد بمنزلة الخلو عنها ، فإن الماء الفاتر بمنزلة الخالي عن الحرارة والبرودة ، فكمال النفس - عند استقلالها بالقوى الثلاث واستعمالها إياها - ، توسطها بين الإفراط والتفريط فيها لئلاّ ينفعل عنها ولا يطاوعها في مآربها ، بل يستعملها على هيئة الاستعلاء عليها لا الانقهار بها ، وهي إنما تحصل بالتوسط فيها . أما قوة العلم - أي استعمال الحواس الظاهرة والباطنة في أمور الدنيا - ، فتوسطها واعتدالها يسمى " بالحكمة " ومعناها غير العلم العقلي بحقائق الأشياء بالقوة النظرية ، فإنها كلما كانت أوفر كانت أفضل : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] ، والإفراط في هذه القوة يسمى : " الجزبرة " وهي المكر والخديعة ، والتفريط بها هو " البلاهة " و " السفاهة " ، وكلا الطرفين مذمومان . وأما قوة الغضب : فتوسطها واعتدالها " الشجاعة " - وهي فضيلة كالجود - ، وكلا جانبيها - وهما " التهوّر " و " الجُبن " - رذيلتان ، كما أن طرفي الجود كالبخل والإسراف - مذمومان لقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] وقوله : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . واما قوة الشهوة فتوسطها واعتدالها هو " العفّة " ، وطرفاها - وهما " الشَرَه " و " الخمود " رذيلتان . ومن تركيب هذه القوى الثلاث ، وامتزاج أوساطها الثلاثة ، تحصل قوة أخرى لها توسط - هي الفضيلة - المعبر عنها " بالعدالة " . ولها طرفان مذمومان : طرف الإفراط وهو : " الظلم " وطرف التفريط وهو " الانظلام " . فهذه الصفات الأربع أصول الفضائل العلمية ، وأطرافها الثمانية هي الرذائل ، ومجموعها حُسْنُ الخُلُق إذا صارت مَلَكة يناط بها خلاص الإنسان من ذمائم الأخلاق الموجب لسخط الباري وغضب الخلاّق ، والتعذّب بالاحتراق بالجحيم لاجل الانحراف عن العدالة - المعبّر عنها بالصراط المستقيم - ، فخير الأمور في هذا العالم أوسطها ، فكما ان نفس الطريق المستقيم ليست مقصوداً ، بل جوازها يؤدي إلى المقصود ، فكذلك حُسْنُ الخُلُق ليس كمالاً ، بل الاتصاف به يورث الخلاص من الجحيم ، وإنما الكمال الحقيقي والمقصود الأصلي هو معرفة الحق الأول وما يليه من الصفات الجمالية والأفعال الإلهية التي تكمل بها النفس ، وتقر بمشاهدتها العين السليمة من الأمراض الباطنية . فالميزان الذي يقوم فيه الناس بالقسط ، وتعتدل به نفوسهم ويحسن خُلُقُهم ، هو إشارة إلى مجامع الأخلاق الحسنة . وقد روي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه قال : " أثقل ما يوزن في الميزان خلق حسن " . وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : " بُعِثْتُ لأتَمّم مكارم الأخلاق " . " وقيل : " ما الدين " ؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : " الخُلُق الحسن " " . وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : " حُسْنُ الخُلق خُلق الله " . وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيضاً : " إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " . وإليه الإشارة في قوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 7 - 10 ] . وكما ان للحُسن الظاهر أركاناً - كالعين ، والأنف ، والفم ، والخَدّ - ، ولا يوصف الظاهر بالحُسن ما لم يحسن جميعها ، فكذلك للنفس التي هي باطن الإنسان وجه إلى الخلق ، ووجه إلى الحق ، ووجهها الذي يلي الحق هو جهة وحدتها وبساطتها ، ووجهها الذي يلي الخلق جهة تركيبها من الأخلاق ، وللأخلاق أركان واصول ، فلا بد من حسن جميعها حتى يحسن الخلق ، ولهذا كان في الأدعية النبوية " اللهم حسن خُلُقي " لحسن الوجه العملي التدبيري ، و : " اللهم أرني الأشياء كما هي " لحسن الوجه العلمي الشهودي . والعدالة عبارة عن هيئة تحصل بها حسن وجه النفس ، وهي فضيلة متضمنة لجميع الفضائل الخُلُقية ، كما ان الحسن الظاهري فضيلة جسمانية متضمّنة لكمال سائر الفضائل الخُلْقية ، وتناسب جميع الهيآت البدنية ، والتخاليط والتشكيلات الجسمانية ، ويعبر عنها بالميزان ، لاشتراكها معه فيما يعرف به مقدار الشيء ، إذ يعبر ( يعرف - ن ) بها فقد الأخلاق - التي بها زينة جوهر الذات الإنسية - عن زيفها ، واستقامة الأعمال عن ميلها وحيفها ، وخلاصها عن غشّها . والموازين لا يجب أن تتساوى جميعاً في الذات والماهية ، بل في كونها ميزاناً ، وانها مما يعرف به حال الشيء كمية أو كيفية ، فإن الاسطرلاب ميزان والمسطرة ميزان ، والعروض ميزان ، والنحو ميزان ، والمنطق ميزان ، لاشتراك جميعها فيما به يسمى الميزان ميزاناً ، وإن اختلفت في الماهية ، لكن هذا الميزان الذي كلامنا فيه هو بعينه ما سيعود يوم القيامة بصورته المناسبة للنشأة الآخرة ، فيعرف به كل واحد من الناس مقدار عمله بمعيار صادق ، ثم يحاسبون على أقوالهم وافعالهم وضمائرهم ونيّاتهم مما أبدوه أو أخفَوه ، ثم يساقون إلى الصراط - وهو جسر ممدود بين منازل الأشقياء والسعداء أحَدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر ، يخف عليه من استوى في الدنيا على الصراط المستقيم ، الذي هو صورة العدالة ومثاله في الآخرة . وقد أشرنا إلى أن فضيلة العدالة ليست فضيلة حقيقية للإنسان وخيراً حقيقياً ، بل هي طريق مستقيم إلى الكمال والخير الحقيقيين ، فلا بد من جوازها حتى تصل النفس إلى كعبة المقصود ، وتتنعم بالنعيم ومجاورة المعبود . فهذا ما أردنا من بيان معنى الميزان الذي يقوم به الناس بالقسط . الفائدة الثالثة الإشارة إلى ترتيب سلسلة الموجودات وتقدم بعضها على بعض وتأخر بعضها عن بعض بحسب الشرف والكمال والحاجة والافتقار في النزول منه والصعود إليه : وبيان ذلك ؛ بأن أوائل الموجودات الصادرة عنه تعالى ، التي صدرت بمحض الجود والخير من غير استعداد وتركيب - وهي التي تسمى " بعالم الأمر " ، لوجودها عنه تعالى بمجرد أمره ، من غير توسط وجود قابل ، واستدعاء افتقار ثابت وتضرع بلسان استعداد لوجودها ، وصدورها عنه تعالى على هذا الوجه ، وهي عقول مفارقة - هي " الملائكة المقرّبون " ، وعالمها " عالم القضاء " . ثم نفوس مجرّدة هي " الملائكة المدبّرون " ، وعالمها " عالم التقدير والتدبير " . ثم أجرام سماوية ، وعالمها " عالم الأعمال والحركات " التي تنشأ منها العناصر الأربعة بتوسط هيولاتها المشتركة ، وهي نهاية تدبير الأمر المشار إليه في قوله تعالى : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ } [ السجدة : 5 ] . وأما الموجودات الفائضة عنه بتوسط المواد والقوابل والاستعداد ، فهي المركّبات على هذا الوجه : المعادن ، ثم النبات ، ثم الحيوان ، ثم أول درجة الإنسان ، وهو الذي في أوائل العقول ، ثم مرتبة أهل الإيمان ، ثم مرتبة العلماء ، ثم الأولياء والأنبياء . وعند الوصول إلى رتبة الأولياء والأنبياء ، وقع الوصول إلى الحق ، فرجعت سلسلة الموجودات في الصعود إلى الحق ثانياً عند ارتفاعها عن درجة النقصان والخسّة ، إلى حيث نزلت منه تعالى أولاً ، فهو تعالى مبدأ الأشياء وغايتها ، وهو الأول والآخر . وإذا تمهد هذا : فقوله : لقد أرسلنا - إشارة إلى عالم الملكوت المتوسطة بينه وبين الخلق ، وهو مشتمل على الملائكة والأنبياء ، ولا تتم النبوة إلاَّ بالمَلَك النفساني الذي يخبر بالحوادث الآتية والماضية ، ولا تنصلح أخباره للرسول إلاَّ بعد استعلامه من الملك العقلاني المتوسط بينه وبين الله ، الذي تستفاد منه حقائق الاعتقادات الكلّية ، فكما أن الأنبياء يُصلحون اعتقادات الخلائق ، فكذلك الملائكة يصلحون بعضهم بعضاً ، إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل قوام ، ومطلع كل حسن ونظام . وقوله : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } [ الحديد : 25 ] ، إشارة إلى الملك النازل على قلوب الأنبياء بالوحي ، وحكم الأنبياء عند اتصالهم بعالم الغيب ومشاهدتهم الملائكة ، هو بعينه حكم الملائكة في منزلتهم ومرتبتهم في الوجود ، وإن صَدَقَ عليهم حين نزولهم من عالم تقدّسهم إلى درجة أفهام الخلق قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ فصّلت : 6 ] . ثم إن الإرسال والإنزال أمران نسبيّان ، يدلاّن على المنزل والمهبط بالالتزام ، ومهبط نزول الرسل ( الوحي - ن ) والملائكة عالم الأجسام ، والهبوط لا بد فيه من المرور على المراتب المتوسطة بين عالم القدس وعالم الجرم الأرضي الذي هو أسفل السافلين ، فقد وقعت الإشارة إلى المراتب الكلّية لسلسلة النزول . واما الإشارة إلى سلسلة الصعود : فلفظ الميزان مما يحتمل أن يكون إشارة إلى التعادل في العناصر الذي يقال له المزاج ، المشار إليه بقوله : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 7 ] ، وهو الذي به تتهيّأ المواد العنصرية لأن تحصل منه المواليد الثلاثة ، فإن المانع عن قبول الحياة والشرف من الله تعالى في الأجسام السفلية هي التضادّ ، وإلاَّ فالجود مبذول والرحمة واسعة ، أَولاَ ترى أن الأجرام العلوية لخلّوها عن التضاد في الكيفيات ، حيّة مطيعة لله تعالى في أوامره ونواهيه ، لا كارهة كالأرضيات ، كما وقعت الإشارة في قوله تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [ فصّلت : 11 ] ، وقوله : { وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [ فصّلت : 12 ] . فكلما أوغلت العناصر عند الامتزاج في الاعتدال والتوسط بين أطراف الأضداد ، الذي هو بمنزلة الخلوّ عنها ، يستعد لافاضة كمال أشرف وحياة أرفع . فأول ما يحصل لها من التوسط والاعتدال ، هو ما تحصل منه المعادن على مراتبها ثم النبات كذلك ، ثم الحيوان على أنواعه ، ثم الإنسان على طبقاته في الشرف والبراءة من الأضداد ، وقد تقرر في العلوم الإلهية : ان الطبيعة ما لم تستوف النوع الأخسّ لم تتخطّ إلى النوع الأشرف ، فقوله : { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] إشارة إلى وجود صورة الإنسان بحسب القِسط والعدل في كيفيات عناصره وكمياتها ، وهو المزاج المعتدل الإنساني ، الذي هو أشرف الأمزجة المعبر عنه بالتسوية في قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] . وكون الميزان إشارة إلى الاعتدال في الكيفيات والصفات الجسمانية لأجزاء البدن ، لا ينافي كونه إشارة إلى العدالة في الأخلاق النفسانية ، أما علمت أن وجوه فهم القرآن لا تنحصر في واحد ، فإن للقرآن ظهراً وبطناً وحدّاً ومَطْلعاً - كما ورد في الحديث عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) - ، بل ذلك الوجه يلائم هذا الوجه ويطابقه تطابق الظاهر للباطن ، إذ العوالم متطابقة ، والنشآت متحاذية ، فالاعتدال في المزاج يستدعي أن تكون الصورة الإنسانية الفائضة عليه عدلاً في الصفات المعنوية ، واصول الأخلاق النفسانية ، التي هي بمنزلة صُوَر الكيفيات الجسمانية . وقوله : { وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ } [ الحديد : 25 ] ، إشارة إلى درجة المعادن ، وهي الدرجة النازلة من المواليد ، كما أن الدرجة الإنسانية من الحيوان - المشار إليها بقوله : { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] ، هي الدرجة العالية منها . وقوله : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] ، يومئ إلى درجة النباتات ، لأن الحديد آلة الحرث والغرس . على أن من الإشارة إلى الجماد والى نوع من الحيوان - وهما الطرفان النازل والعالي من المركّبات - ، لزمت الإشارة إلى النبات بالالتزام ، على ما مر من توقف النوع الأشرف على النوع الأخسّ في سلوك الطبيعة درجات الصعود إلى الحق ، كما يتوقف الأخسّ على الأشرف في النزول عنه ، والى الحيوان بالتضمن ، لأن الحيوان بما هو حيوان جزء من الإنسان ، ودلالة الشيء على جزئه بالتضمن . وأما قوله : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } ، إشارة إلى درجة أهل الإيمان والمعرفة ، لأنهم ينصرون دين الله بالمجاهدة مع الكفار ، وهم متفاوتون في الفضيلة ، وأفضلهم العلماء الذين ينصرون دينه تعالى بالاجتهاد والاستنباط بالفكر الصحيح . وقوله : { وَرُسُلَهُ } ، إشارة إلى درجة الأنبياء والأولياء ، الذين بهم ينتهي ارتقاء المكوّنات في توجههم شطر كعبة الحق وتلقاء مدينة الخير الحقيقي ، الذي لا يشوبه شَوْبُ قصور وزوال ، وهو الله العزيز المتعال ، القوي الشديد في الآثار والأفعال ، ولذلك وقع الانتهاء باسم ذاته تعالى صريحاً مع ذكر صفة كمالية إضافية ، واخرى جلالية سلبية ، كما وقع الابتداء به ضمناً ، وكذا وقع الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، لأن السلسلة الأولى شعورية ، والأخرى إشعارية ، فابتدأت الأولى بما يناسبها من الشعور دون الإشعار ، وانتهت الثانية أيضاً بما يناسبها من الإشعار ، ولأن أهل السلسلة الأولى أصحاب الجبر والاستغراق في الشهود والفناء والهيمان ، فلا التفات لهم إلى ذواتهم ، ولا إرادة لهم سوى إرادة الله ، وأهل السلسلة الثانية أصحاب الاختيار والإرادة المنفصلة عن إرادة الله ، وذلك لوجود الوهم والخيال فيهم ، وهو مناط التكليف ، لزعمهم أن لهم وجوداً مستقلاً بالذات ، فالإضمار والتكلم يناسب الأولى ، والإبراز والغيبة يناسب الثانية . الفائدة الرابعة الإشارة إلى علمه بالجزئيات الزمانية على الوجه الجزئي . وهو الذي حارت فيه أفهام الحكماء والفضلاء حيث ذكروا أن العلم بالشيء على سبيل التجدد والتعاقب يوجب التجسّم والتغير في ذات العالِم ، مع أن القرآن مشحون بذكر ما يدل على تجدد اختبار وابتلاء ، واستيناف نحو من أنحاء العلم ، كقوله تعالى في هذه الآية : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } [ الحديد : 25 ] ، وكقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] . ومن هذا القبيل ، كل آية وقعت فيها نسبة الابتلاء إليه تعالى ، وهذا أمر لا يعرفه النظّار بقوة البحث والنظر إلاَّ من أيّده الله بتوفيق خاص إلهي ، يصل به إلى إدراك الحق بأقدام العبودية والإخلاص في العلم والعمل ، وقد أومأنا إليه وإلى كشفه في مواضع متفرقة من الأسفار . الفائدة الخامسة الإشارة إلى الفرق بين معاني الغاية التي قد يقع بأزائها . حرف " اللاّم " فإن الغاية قد يراد بها : " السبب الغائي " ، وهو ما به يكون الفاعل فاعلاً تامّاً ، وقد يراد بها : " ما يؤدي إليه الفعل " من غير أن يكون مقصوداً للفاعل في فعله ، ويقال له : " الضروري " ، وقد يراد بها " ما ينتهي إليه الفعل " بحسب الذات والقصد جميعاً . والغاية بالمعنى الأول في أفعاله تعالى لا تكون إلاَّ ذاته ، لأنه تام الفاعلية والإيجاد ، وبالمعنى الثالث ، لو أريد به آخر ما ينتهي إليه الفعل ، فهو أيضاً ذاته ، وقد يكون غيره ، كما في الحديث القدسي عنه تعالى : " لولاك لما خلقت الأفلاك " . وأما المعنى الثاني ، فهو لا يكون إلاَّ غير ذاته . ومثال المعنى الأول : تصور السكنى في بناء البيت للباني ، بل تصور الراحة التي يتصورها عند السكنى . ومثال المعنى الثاني : المنفعة الحاصلة للأجير في بنائه . ومثال الثالث : وجود السكنى أو الراحة الذي ينتهي إليه الحركات البنائية . فقوله : - أرسلنا رسلنا - وما عطف عليه ، إشارة إلى العلة الغائية بالمعنى الأول ، لأن الإرسال والإنزال فعلان اختياريان ، لا بد فيهما من علة غائية ، وقوله : ليقوم الناس ، إشارة إلى الغاية بمعنى الضروري ، وقوله : وليعلم الله من ينصره - ، إشارة إلى الغاية الذاتية التي ينتهي إليها الفعل بالذات . الفائدة السادسة الإشارة إلى عنايته وحكمته في خلق الحديد وعجائبه وفوائده ، وكيفية حدوثه من الأدخنة والأبخرة المحتبسة في الجبال ، والمعادن ، مدة مديدة بإذن الله تعالى بتوسط الكبريت والنفط والقير وغيرها ، مما يتوسط في القوام بين رقة الأدخنة ولطافتها ، وغلظ الحديد وكثافته ، واطاعته للإنسان في قبول الذوبان واللين بالحرارة النارية ، وقبول الاستطراق تحت المطارق ، وبقاء لينه عند الطرق حتى تتخذ منه الآلات الصناعية على أي وجه أريد ، ثم رجوعه إلى جموده الأصلي عند التبرد لتبقى التشكّلات المقصودة منه في كل صنعة . فانظر إلى رحمة الله كيف هدى الناس إلى تحصيله من الجبال ، ثم إلى كيفية تليينه بالنار ، واتخاذ آلات الصنائع منها لجلب المنفعة ودفع المضرة ، الحاصلتين عند استعمالها بداعية العمال الشهوية والغضبية ، المنبعثتين عند استعمال النفس المدبرة إياها بإشارة العقل المكمّل الهادي إليها بإلهام الحق له ، وهو تعالى الأول في البداية ، والآخر في النهاية ، ومنه الإفاضة والجود في المبدأ والغاية .