Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 86, Ayat: 4-4)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا جواب القسم ، سواء كانت " إنْ " نافية ، وذلك في قراءة " لمّا " مشدّدة ، بمعنى " إلاّ " ، أو كانت مخفّفة من الثقلية - وذلك في قراءتها مخفّفة - على أنّ " مَا " صلة ، إذ على أيّ التقديرين ، وأيّة القراءتين هي مما يتلقّى به القسم ، أي : ما كلّ نفس إلاّ عليها حافظ مهيمن عليها رقيب ، أو أنّ كلّ نفس لَعَلَيْها قائم مقيت . وإنّما أدخل سور الموجبة الكليّة في الشقّ الأوّل على النفس ، ليعمّ جميع النفوس من المفارقات والفلكيّات والعنصريّات ، والحافظ الرقيب لها على وجه العموم ، هو الله سبحانه لقوله تعالى : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } [ الأحزاب : 52 ] . { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } [ النساء : 85 ] . ولكلّ نفس رقيب خاصّ ، وهو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ . روي عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " وُكّل بالمؤمن مائة وستّون مَلَكاً يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب ، ولو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " . وللنفوس الإنسانيّة رقيب واحد عقليّ يسمّى بـ " روح القدس " عند أهل الشرع ، وبـ " العقل الفعّال " عند الحكماء ، وبـ " روان بخش " عند الحكماء الفارسيّين - وسيأتي إيضاحه . فإن قيل : إذا حملت " إن " على إنْ المخفّفة ، كان ذلك صحيحاً ، وأمّا إن حملت على النافية فيكون المعنى : " ليس كلّ نفس " فيكون السور سور السلب الجزئي ، فلا يعمّ . فما وجه التوفيق بين القراءتين ؟ قلنا : نجيب عنه من وجهين : الأوّل : إنّ السور وأمثاله من المصطلحات المحدثة ، ولا يجب تطبيق كلام الله عليه ، واللفظ في جوهره يفيد العموم لأنّه نكرة وقعت في سياق النفي - على ما هو مبيّن في كتب الأصول والعربيّة - . والثاني : أنّه لمّا تبيّن بالدلالة العقليّة أنّ لكلّ نفس حافظاً ، وقد عبّرت عنه القراءة الأولى . فالقراءة الثانية وإن دلّت على السلب الجزئي ، فالأوْلى أن يحمل على العموم مجازاً ، ولصدق السلب الجزئي على السلب الكليّ صدق العامّ على الخاصّ ، وذلك إذا أُخِذَ لا بشرط شيء - كما تقرّر في علم الميزان - ليحصل التوافق بين القراءتين والجمع بين الدلالتين . هداية عقلية أدلة تجرّد النفس من تأمّل في حال النفوس الإنسانية ، لعَلِم يقيناً أنّ لها حافظاً عقليّا هو مَلَك من الملاكئة المقرّبين ، وله جنود وأعوان من جنس الملائكة الذين مرتبتهم دون مرتبة المقرّبين ، كما دلّ عليه الحديث المنقول آنفاً ، وذلك لأنّ النفس جوهر مجرّد ، أمّا جوهريّتها فلكونها محلّ الصفات المتعاقبة عليها مع بقائها ، وهو من خواصّ الجواهر ، وأمّا تجرّدها عن الموادّ فبأدلّة كثيرة : منها : أنّها تدرك المعقولات ، وهي معان مجرّدة عمّا سواها ، وكلّ إدراك فهو بحصول صورة المدرَك أو حضور ذاته عند المدرِك ، وكلّما يحصل في جسم فإنّه يؤثّر فيه ما يلزم الجسم في وجوده الإنفعالي ، وتشخّصه المادّي ، - مثل الشكل والمقدار والوضع وغيرها - ، فلو حصل معقول في جسم لكان يحصل له مقدار وشكل ووضع ، فكان يخرج عن أن يكون معقولا ، بل يكون محسوسا تنفعل عنه الحواسّ عند المصادفة . ومنها : أنّها تشعر بذاتها ، ولو كانت موجودة في جسم أو آلة لم تشعر بذاتها لعدم حضورها لذاتها ، بل لمادّة ذاتها . ولذلك أشار مقدّم الفلاسفة أرسطاطاليس الحكيم : كلّ راجع إلى نفسه فهو روحاني ، إذ لو كانت في آلة لا تدرك ذاتها إلاّ عند إدراك آلتها ، فكانت بينها وبين آلتها آلة ويتسلسل ، أوَ لاَ ترى أنّ البصر لا يدرك إلاّ ذاته ، ولا يدرك آلة ذاته إلاّ بآلة أخرى متوسّطة بينها وبين آلته ، والنفس تدرك بذاتها ، وتدرك آلاتها أيضاً بذاتها - لا بالآلات - بحضورها بذواتها حضوراً إشراقيّا عند النفس من غير حاجة إلى صورة أخرى . وبالجملة : فكلّ موجود في آلة فذاته لغيره ، وكلّ ما ينال ذاته فذاته له لا لغيره ، فيكون مجرّداً عن الأغيار . ومنها : أنّها تدرك الأضداد معاً ، بحيث يمتنع ان يوجد على ذلك الوجه في المادّة . ومنها : أنّ البدن في التحلّل والذوبان دائماً ، لاتيلاء الحرارات الغريزيّة والغريبة الداخلة والمطبقة عليه ، والنفس ذاتها غير متبدّلة ، لأنّك أنت الذي كنت صبيّا وشابّا بعينك ، فتعاليت عن الانطباع وأن تكون نفس المزاج . ومنها : أنّك تذهل عن كلّ عضو من أعضائك أحياناً - من قلب أو دماغ أو غيرهما - وعن البدن مجموعاً ، وخصوصاً وقت النوم أو السكر ، ولا تذهل عن ذاتك ، فأنت وراء ذلك كلّه ، فأنت أنت لا ببدنك ، ولا بجزء بدنك ، فاعرفها ولا تكونّن من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم . ولهذا المطلب وجوه كثيرة من البراهين والاقناعيّات لا نطوّل الكلام بذكرها ، وفيما ذكرناه كفاية لما نحن بصدده إن شاء الله تعالى . مراتب النفس : وإذا ثبت أنّها جوهر غير جرمي ، وهي قابلة لادراك العقليّات بالقوّة أوّلاً ، ثمّ بالفعل أخيراً ، فلها مراتب ، أوّلها الاستعداد المحض سمّيت به العقل الهيولاني . ثمّ استعداد آخر قريب عند حصول أوائل العلوم المهيّئة لإدراك الثواني ، إما بالفكر أو الحدس ، سميت به العقل بالمَلَكة . ثمّ يحصل لها بعد ذلك قوّة وكمال ، أمّا القوّة فهي أن يكون لها حالة عقيب الأنظار وتكرار المشاهدات ، بها تحضر المعقولات متى شاءت من غير طلب وتعمّل ، وهذا هو أقرب الاستعدادات ، وسمّيت به العقل بالفعل { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [ النور : 53 ] . وأمّا الكمال ، فهو أن تكون المعقولات لها حاصلة بالفعل ، مشاهدة سميّت به العقل المستفاد ، وعند ذلك شبّهت بالمبادي العالية ، صائرة عالماً عقليّا يضاهي العالم العيني في الصورة لا في الموادّ . مخرج النفس من القوة إلى الفعل وحافظها : فإذا علمت هذا ، فاعلم أنّ مُخرجَ النفس من القوّة إلى الفعل في كمالها العقلي ليس ذاتها ، إذ الشيء لا يخرج ذاته من النقص إلى الكمال ، وإلاّ لكان الشيء أشرف واكمل من ذاته ، ضرورة أنّ المعطي للكمال لا يقصر عنه ، ولأنّ جهة الفعل غير جهة الإنفعال ، وهي ليست جسما مركّبا من مادّة وصورة - حتّى تفعل باحداهما وتنفعل بالأخرى - ولا الجسم أيضاً هو مكملّ النفس ، لأنّ مرتبته دون مرتبتها ، ولا نفس أخرى من نوعها إذ لا أولويّة لبعض أفراد طبيعة واحدة بحسب ذاته النوعيّة ، ولأنّ النفس - بما هي نفس - لا تؤثّر إلاّ بمشاركة الجسم ووساطة الوضع ، وإلاّ لكانت عقلا محضاً ، وكم من نفس شريفة رامت إخراج نفس من القوّة إلى الفعل فسمعت من الحقّ : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] . فمخرجها إلى الكمال مَلَك كريم روحانيّ ، عنده صور الأشياء بالفعل ، وهو فعّال المعقولات ومفيضها على قلب من يشاء بإذن الله تعالى . وأيضاً : إنّ النفس إذا غابت عنها صورة عقليّة كانت أدركتها ، ولها الرجوع إليها متى شاءت دون كسب ، فلا بدّ لها من خزانة عقليّة تحفظ لها المعقولات عند ذهولها ، وليست الخزانة فيها أو في جسمها . أمّا الأوّل : فلعدم تجزّيها بجزءين ، بأحدهما تدرك وتتصرّف ، وبالآخر تحفظ وتخزن . وأمّا الثاني : فلما علمت من أنّ المعقولات تحلّ الجسم المنقسم بالمقادير الوضعيّة ، فإذن لها مكمّل وهو مَلَك مقرّب عقليّ لم تكن فيه جهة القوّة والاستعداد أصلا وإلاّ لكانت نفسا محتاجة إلى مخرج آخر ومكمّل لها ، فيتسلسل أو يدور - وكلاهما محال - ، أو ينتهي إلى أمر عقليّ بالفعل ، وهو مطلوبنا ، فكلّ نفس لها حافظ من جواهر الملائكة المقرّبين ، يحفظ لها وعليها كمالاتها ، إذا اتّصلنا به أيّدنا بالأنوار وكتب في قلوبنا الإيمان لأنّه قلم الحقّ الأوّل ، وإذا أعرضنا عنه بالتوجّه إلى المحسوسات ، انمحت الكتابة ، ونفوسنا كمرآة إذا أقبلت إليه عند نقائها عن الكدورات والمعاصي قبلت ، وإذا أعرضت أو احتجبت تخلت ، ونسبته إلى نفوسنا كنسبة الشمس إلى الأبصار . وليست المقدّمات بذاتها موجدة للنتيجة لأنّها أعراض ، والعَرَض لا يوجِدُ شيئا ، بل المقدّمات وغيرها معدّات ، والواهب غيرها . فان قلت : ما الحاجة إلى اثبات هذا المبدأ العقلي بعد اثبات الحقّ الأوّل ؟ قلت : النفوس كثيرة لا بدّ لها من مبدأ ذي جهات كثيرة في الفاعليّة ، والجهات الكثيرة مرتبتها منحطّة عن مرتبة الذات الأحديّة الصرفة بمراحل كثيرة ، فلا بدّ من وسائط بيننا وبينه لغاية مجده وعلوّه ، ونهاية عجزنا وقصورنا ، فلا نصل إلى جناية إلاّ بعد طيّ مراتب حجابه . وفي الحديث : " إنّ لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها أحرقت سبحات وجهه كلّ ما انتهى إليه نظره " . فإذا تحقّق ذلك ، فاعلم أنّ الله سبحانه خلق للإنسان جنوداً وحَفظَةً غائبة عن عالم الحواسّ ، تخدمه وتحفظه من الآفات ، وكتب عليه أعماله وتضبط له آجاله ، فبعض هذه الجنود مبادي الإدراكات والإنفعالات ، وبعضها مبادي التحريكات ، وبعضها كتبة الأعمال ، وبعضها حفَظة الأقوال ، ولكلّ صنف منها رؤساء ومرؤوسين وخُدّام ومخدومين . فمخدوم المبادىء الإدراكيّة مبدأ نظريّ شهيد عليها ، ثمّ بعده مخاديم عشرة مرتبتها دون مرتبته ، هو ينظر إليها ويستخدمها كما تستخدم هي غيرها من صور أشياء تكون من نوعها وجنسها ، ولبعضها جنود وأعوان لا يمكن إحصاؤها كثرة ، انبثّت في مملكة البدن ، ليس فيه موضع قدم يخلو منها . ومخدوم المبادي التحريكيّة - أيضاً - مبدأ شوقيّ مخدوم لها ، وله جندان خادمان له ، أحدهما يخدمه لجلب ما يشتهيه من الأشياء الكثيرة الملائكة لطبعه ، والآخر يخدمه لدفع ما يكرهه من المضارّ والمنافيات لطبعه ، ولهما جنود غير محصورة تخدمهما ، سبعة منها بمنزلة الدعائم والرؤساء للبواقي ، لكلّ منها اسم خاصّ عند الله ، وصفة خاصّة ، وفعل خاصّ ، ولكلّ منها محلّ خاصّ هو موضع سلطانها ، ومحلّ عام هو مواضع تصرّفاتها ، وقد مكّن الله جميها على التصرّف في موادّ الأجسام الحيوانيّة والنباتيّة وغيرها ممّا في الأرض بالجذب والدفع ، والقبض والبسط ، والحبس والإمساك ، والإحالة والتبديل ، والنضج والإلصاق ، والتصوير والتشكيل . كما أشار إليه بقوله : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] . كما قد مكّن الله جميع الصنف الأوّل على التصرّف في صور تلك الموادّ وغيرها بنزعها وإدخالها وإحضارها في صُقع النفس وعالمها ، وتقديمها وتأخيرها وتأليف بعضها ببعض ، وانتاجها - الى غير ذلك من أنحاء التصرّفات كالحفظ والاسترجاع - ، كلّ ذلك بأمر الله المطاع وعنايته بتعمير هذه النشأة الإنسانيّة في هذا العالم ، كما دلّ عليه الحديث المنقول آنفاً . فإنّ معنى قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " لو وكل العبد إلى نفسه لاختطفته الشياطين " أنّه لولا إفادة الله له هذه الجنود الباطنيّة الطبيعيّة والنفسانيّة ، حتّى يقيمه ويديمه مدّة في هذه الدنيا ليتزوَّد للآخرة بالأعمال الصالحة ، ويكتسب المعارف الحقيقيّة بتأييد المَلَك المفارق المكمل له ، لاختطفته شياطين هذا العالم ، من الجواهر الطبيعيّة النفسانيّة المستولية على الأجسام بالإفساد والقطع والتحليل والقتل والإهلاك ، فإنّ بدن الإنسان في معرض الآفات ، ومعدن البليّات ، كالحرق بالنار ، والغرق في الماء ، والتسخين والتبريد المفرطين من الهواء ، والخسف والزلازل من الأرض ، وشرب السموم والأدوية الضارّة الجماديّة والنباتيّة ، ومصادفة العدوّ الحيواني كالسبع الضاري ، والكلب العقور ، والأفاعي ، ومواجهة الخصماء من الإنس وغير ذلك . فكلّ هذه من توابع الشياطين بصدد اختطاف العبد في هذا العالم إن وكّل إلى نفسه ، ولم يحفظه الحفظَة بأمر الله . ولولا إفادة الله أيضاً لعباده المخلصين جنوداً أخرى يحفظونه ويذبّون عنه في طريق الآخرة عن اختطاف ضرب آخر من مردة الشياطين ، وهم الذي يريدون أن يَسَّمعوا إلى الملأ الأعلى ، فيُقذفون من كّل جانب ، دحوراً ولهم عذاب واصب ، إلاّ من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ويقول سفيههم على الله شططاً من إثبات الصاحبة والولد له سبحانه ، ويحكم على غير المحسوس ، وإلاّ على الخير وإراءَتهم الباطل على صورة الحقّ ، والحقّ على صورة الباطل - والله يَهْدي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ .