Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 86, Ayat: 5-5)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمّا قرّر سبحانه أنّ على كلّ نفس حافظاً ومُبقياً لوجوده ، وهو علّته الفاعليّة ، أراد أن يهديه سبيل معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله ، إذْ بها تتمّ حياته الكاملة في النشأة الدائمة ، وبدونها موت الجهالة وهلاك السرمد وعذاب الأبد ، وهي متوقّفة على معرفة النفس ، لأنّ النفس سُلّم المعارف كلّها والمرقاة إلى الحضرة الإلهيّة ، فمعرفتها منشأ معرفة الحقّ ذاتاً وصفة وفعلاً ، والشيء من ذوي الأسباب لا يمكن العلم به إلاّ من جهة العلم بأسبابه . والأسباب أربعة من المركّب : فاعل ، وغاية ، ومادّة ، وصورة ، وفي الأمر الصوري - كالنفس - ثلاثة : لأنّ صورته ذاته ، بخلاف المركّب فإنّ صورته ليست ذاته بل جزؤه وعلّة جزئه الآخر بمعنى آخر ، كما أنّ المادّة جزؤه الآخر - وهي أيضاً - علّة الصورة لا بهذا المعنى ، بل بمعنى آخر . فالإنسان صورته نفسه الناطقة ، ومادّته حاصلة من الطين اللازب ، ثمّ من المني المركّب من العناصر الحاصل منه الأخلاط الأربعة ، ومن لطافتها ودخانيّتها الأرواح البخاريّة ، ومن كثافتها ورماديّتها الأعضاء ، وتتوسّط بينهما الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين والعضلات ، ومجموعها البدن ، وهو المادّة القريبة للإنسان المأخوذ منها جنسه وفصله مأخوذ من النفس التي صورته وفاعله الملك المتصرّف فيه بأمر الله ، بإمداد ملائكة أخرى موكّلة على السموات والأرضين كما أشار إليه بقوله : عَلَيْهَا حَافِظُ . وغايته عبادة الله وطاعته ، كما أشار إليه بقوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . فلذلك أمَره ووصّاه بالنظر في أسباب مهيّته ووجوده في نشأته الأولى ، ليعلم ويستدلّ بها على قدرته تعالى على النشأة الثانية ، كما نبَّه عليه قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] أي : حال نشأتكم الثانية والنظر في ترتيب أمور معلومة للتأدّي إلى مجهول ، فمادّته خِلقة الإنسان ، وصورته من حيث هي صورته من هذه النشأة ، وأمّا فاعله وغايته فلهما النشأة الأخرى . والمادّة أقدم في الزمان ، فقدّمت معرفتها وسبيل النظر إليها والاستدلال بها على غيرها ، فقال : { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } أتى بـ ( ما ) الاستفهاميّة المستعملة لطلب تمام حقيقة الشيء ، أو شرح مهيّته ومرتبتها بأوّل الوجهين ، بعد " هل " البسيطة الطالبة للتصديق بوجوده وبالثاني قبلها ، إذ ما نعلم شرح اسم الشيء لا نطلب معرفة وجوده ، فأجاب : بقوله جلّ اسمه :