Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 86, Ayat: 6-7)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
و " الدفق " : صبّ فيه دفع . ومعنى الدافِق : إمّا المدفوق ، كعيشة راضية - بمعنى مرضيّة - ، والغرض فيه الانتساب إلى الدفق الذي هو مصدر ؛ لا قيام المصدر به كالحدّاد والمشمَّس . وإمّا الإسناد المجازي ، لأنّ الدفق للمني كالقطع لصاحب السكّين ، قال الفرّاء : وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم ، نحو : سرٌّ كاتم ، و : هَمٌّ ناصب . و : ليلٌ نائم . وإنّما قيل : " مِنْ مَاءٍ " ولم يقل : من ماءين ، مع أنّ أصل المولود منهما جميعا ، لامتزاجهما واتّصالهما ماء واحداً في الرحم حين ابتداء الخلقة . وأمّا قول بعض الأطبّاء ، إنّ ماء المرأة هو الأصل كاللبن ، وماء الرجل للانعقاد كالأنْفِحة ، فهو قول مرجوح لا يُصار إليه ، على أنّ الدفق لا يلائمه ، بل الحمل على منيّ الرجل أوْلى ، لأنّه كالصورة للمركّب ، ومنّي المرأة كالمادّة له ، والشيء بالصورة هو بالفعل ، وبالمادّة هو بالقوّة ، أوَلاَ ترى أنّ نسبة المولود إلى الأب أوْكَدُ من نسبته إلى الأمّ . يَخْرُجُ - من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وهي عظام الصدر ، و " الصُلْب " فيه لغات أربع : بفتحتين ، وبضمّتين ، وبالضمّ والسكون ، وبصيغة الفاعل . وفي الكشّاف : قيل : العظم والعصب من الرجل ، واللحم والدم من المرأة . وهذا أيضاً مؤكّداً لما مرّ من كون منّي الرجل هو الأصل ، إذ قد ثبت أنّ مثل العظم والعصب من الأعضاء الأصليّة متكوّنة من المنيّ ، والزائدة كاللحم وغيره متكوّنة من الغذاء . فإن قلت : إنّ النطفة متكوّنة من فضلة الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتّى تستعدّ أن تتولّد منها تلك الأعضاء ، فلِم قال : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } التي هي عظام الصدر ؟ قلت : اختلف الحكماء والأطبّاء في انفصال المني عن جميع الأعضاء أو عن الأنثيين فقط ، وفي كون المني متشابه الأجزاء أو مختلف الأجزاء ، فأرسطو وشيعته ذهبوا إلى تشابه الأجزاء لانفصاله من الأنثيين ، وذهب أبقراط وشيعته إلى أنّه ليس متشابه الأجزاء ، لأنّه يخرج من كلّ البدن ، فيخرج من اللحم شبيه به ، ومن العظم شبيه به ، وهكذا في جميع الأجزاء ، فأجزاؤه غير متشابهة الحقيقة ، بل حقائقها متخالفة حسب اختلاف حقائق ما ينفصل عنها ، فهو غير متشابه الأمشاج ، بل متاشبه الامتزاج متّصل عند الحسّ . ولكلّ من الطرفين حجج كثيرة مسطورة في كتب الطبّ . أمّا ما تمسّك به أبقراط في تصحيح مذهبه . فمنها : عموم اللذّة لجميع البدن . ومنها : المشاكلة الكليّة ، فلولا أنّ كلّ عضو يرسل قسطاً لكانت المشاكلة بحسب عضو واحد . ومنها : مشاكلة عضو الولد لعضو ناقص من والديه ، أو عضو ذي شامة أو زيادة . وقدح أرسطو في هذا المذهب وأبطله بوجوه : أحدها : أن المشابهة تقع في الظفر والشعر وليس يخرج منهما شيء . ثانيها : أنّ المني لا ترسله الأعضاء الآليّة مع أنّ المشابهة تقع فيها . وثالثها : لزوم كون المولود في الرحم إنسانين . ورابعها : جواز تكوّن الولد من مني المرأة وحدها لانفصاله من جميع أعضائها . وخامسها : أنّ الحيوان قد يسفد سفاداً واحداً فيتولّد منه أكثر من واحد ، فلو لم يكن منيّة متشابه الأجزاء لم يتولّد منه إلاّ واحد . وسادسها : مشابهة الولد لجدّ بعيد ، لا لوالديه . وقد حكى أبو علي في حيوان الشفاء ، انّ واحدة ولدت من حبشيّ بنتاً بيضاء ، ثمّ هي ولدت بنتاً سوداء . وسابعها : كثير من الحيوانات يلد من غير جنسه . وثامنها : لزوم كون المني حيواناً صغيراً . فهذه حجج الفريقين ، وفي الكلّ نظر ، ذكره يؤدّي إلى التطويل ، وعلى أيّ المذهبين يتأتّى الجواب عمّا قلت . أمّا على مذهب أرسطو وتابعيه ، فلقُرب الموضعين من أوعية المني ، خُصّا بالذكر . وأمّا على مذهب الأخيرين ، فلورود هذه الفضلة من الأعضاء إلى الأنثيين بعد ورودها على هذه العظام صلب الرجل وترائب المرأة ، ولذلك ورد استحباب وضع اليد على ثدي المرأة عند إرادة المجامعة معها قبل الدخول لتشتدّ رغبتها بسبب تهيّج مادة الشهوة وتحريكها من ذلك الموضع . وفي الكشّاف : " الترائب " هي عظام الصدر حيث تكون القلادة ، وقيل الترائب : اليدان والرجلان والعينان - عن الضحّاك - ، وسئل عكرمة عن الترائب فقال : هذه - ووضع يده على صدره بين ثدييه - ، وقيل : ما بين المنكبين والصدر - عن مجاهد - ، وقيل : المشهور من كلام العرب أنّها عظام الصدر والنحر . شك وتحقيق كيف تتولد الأعضاء المختلفة من المني قيل : إنّ المني متشابه الأجزاء ، والقوة المولّدة لا شكّ أنّها قوّة عديمة الشعور والإدراك ، وعلى تقدير شعورها وإدراكها ، فسبيلها سبيل البسائط المؤثّرة على نهج واحد وسنّة متشابهة ، والتي هذا شأنها إذا فعلت في مادّة متشابهة الأجزاء وجب أن تفعل فيها فعلاً واحداً متشابهاً ، فكان يلزم أن يكون المولد من المني كرة واحدة لها طبع واحد ، والمشاهَد خلافه ، وهذا هو الحجّة في إثبات كرويّة البسائط . وهذا الشكّ مدفوع - لا بما ذكره صاحب التفسر الكبير - من أنّ اللازم المذكور - وهو كون المتولّد كرة - لازم على تقدير كون المني مختلف الأجزاء أيضاً ، لأنّا إذا فرضنا مركباً فلا بدّ وأن تكون الأجزاء البسيطة حاصلة فيه بالفعل ، ولكّل منها قوّة بسيطة تفعل في مادّة بسيطة ، فيجب أن تكون كلّ واحد منها كرة ، والمتولّد من المني كرات مضمومة بعضها ببعض ، فإنّه أيضا فاسد لأنّه جدليّ - كما لا يخفى - . بل ( لأنّه ) لا يلزم من اقتضاء القوّة البسيطة استدارة الجسم المتشابه الأجزاء المقداريّة التي لم تتألفّ من أجسام مختلفة الصور كالبسائط العنصريّة والفلكيّة ، اقتضاؤها لاستدارة الجسم المتشابه الأجزاء المقداريّة التي تألّفت من أجسام مختلفة الصور ، لظهور الفرق القادح ، فإنّ القوّة البسيطة يمتنع اختلاف تأثيرها في الأوّل دون الثاني لاختلاف المادّة المتصرّف فيها بتهيئة المغيّرة لكلّ غضو مادّة تليق به ، ثمّ بإفادة المصوّرة ما يحسن لها من التصوير والتشكيل . تذكرة : ولبعض الحكماء كلام في هذا الباب ليس ببعيد عن الصواب ، لا بأس بذكره ، وهو أنّ المادّة المنويّة تستعدّ لأمر واحد وهو النفس ، ولكنّ النفس لها آلات ولوازم وقوى متخالفة تتّحد نوعا من الاتّحاد ، فيجب أن يكون في المادّة استعدادات بالقوّة مختلفة متّحدة على ضرب من وجوه الوحدة ، وهي كيفيّة المزاج ، كاتّحاد أشياء بالانتساب إلى مبدأ واحد ، لأنّ اختلاف الاستعدادات في المادّة أمور بالفعل فكان أشياء فيها تركيب ، ثمّ كلّ قوّة يجب أن تكون قد تركّبت فيها هيآت هي لوازم لتلك القوى بها تصير فعّالة ، فبسبب هذه الآلات ينقسم عضو واحد إلى أعضاء كثيرة ، وبسبب اختلاف ترتيبات القوى تختلف أوضاع هذه الأعضاء ، كما أنّ بالعلوم والمعقولات التي وجدت للأوّل والعقول وجد ما بعده ، وكما تنتقش في العقول تلك الصور على سبيل اللزوم من دون شركة المادّة واستعداداتها ، فكذلك تنتقش في القوّة المصوّرة من النفس هيآت تنبعث منها صورة شكل الإنسان بشركة المادّة لوجود هذه القوّة في المادّة . تتمة القلب رئيس أعضاء الحيوان يجب للمتفكّر أن يعلم أنّ النفس إذا تعلّقت بأوّل عضو كالقلب ، صار البدن نفسانيّا ، فالنفس تحيي الحيوان بالقلب ، وإن فرض مجرّداً عن باقي الأعضاء ما دام صلوحه للتعلّق ، وهو كونه ذا بخار لطيف في تجويفه ، ولكن إنّما يتمّ مزاج الروح الذي يصلح لحمل قوى الحسّ والحركة في الدماغ لحصول الاعتدال هناك على وجه الكمال ، كما أنّ قوى التغذية يتمّ فعلها بالكبد وينشأ حاملها من القلب ، فجميع هذه القوى أوّلاً تنفذ من القلب إلى غيره ، كما أنّ عند مخالف هذا القول يكون مبدأ الحسّ في الدماغ ، لكنّ أفعال الحسّ لا تتمّ به بل بأعضاء أخرى . وإنّما وقع هؤلاء فيما وقعوا لغفلتهم عن أنّ القلب هو بالحقيقة العضو الرئيس الذي به يصير الجسم حيواناً ذا نفس ، وما سواه خدّام له . والكلام في تفصيل الآلات والقوى النفسانيّة وكيفيّة ظهورها ، وكيفيّة تكوّن الجنين ، خروج عن ظهور هذا المقام - والله وليّ الإنعام - .