Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 86, Ayat: 9-9)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

منصوب بـ " رَجْعِه " ، اللهمّ إلاّ أن نصب من جعل الضمير في " رَجْعِهِ " للماء ، وفسّره برَجْعِه إلى مخرجه من الصلب والترائب ، أو الإحليل ، أو للإنسان ، وفسّره بردّه ماء ، أو بما فسّره مقاتل بمضمر الإبتلاء والاختبار . و " السرائر " : جمع " السريرة " ، وهي ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيّات ، أو في النفوس من الأخلاق والصفات . و " بلاؤها " : تعرّفها ، والتميز بين حقّها وباطلها ، وحُسْنها وقُبْحها ، وطيّبها وخبيثها . قال الشاعر : @ ستبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ودّ يوم تُبلى السرائر @@ وعن الحسن : إنّه سمع رجلا ينشد هذا البيت ، فقال : ما أغفله عمّا في : { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } [ الطارق : 1 ] . تبصرة العوالم الثلاثة وسير الإنسان فيها إعلم أنّ الله خلق الوجود ثلاث عوالم : دنياً وبرزَخاً وأخرى . ويعبّر عن كلّ منها بيوم ، فكلّ يوم من أيّام الدنيا مدّة دورة الفلك الأعظم ، وربما يطلق على زمان دورة القمر ، بل على زمان دورة الشمس أيضاً ، ومجموعها سبعة آلاف سنة ، وكلّ يوم من أيّام البرزخ ألف سنة ممّا تعدّون ، أو سبعة آلاف سنة ممّا تعدّون ، وكلّ يوم من أيام الآخرة - وهي أيّام الله - يكون خمسين ألف سنة لقوله تعالى : { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] . فخلق الله الجسم عن الدنيا ، والنفس عن البرزخ ، والروح عن الآخرة ، وجعل الوسائط الحاكمة الناقلة لتنوّعات عوالِم الإنسان ثلاثة : مَلَك الموت ، ونفخة الفَزَع ، ونفخة الصَعْق . فالموت للأّجسام ، والفزع للنفوس ، والصعق للأرواح ، فإذا كان الإنسان في هذا الدار ، كان الحكم فيها ظاهراً للجسم ، وهو المشهود بمَشاهد الحسّ ، والمباشر للأحكام والأفعال التي تناسبه وتليق به ، والنفس وأحوالها والروح وأسرارها مندرجتان في وجوده ، مختفيتان تحت حجابه وحجب صفاته وآثاره ، والإمدادات متّصلة بهما بواسطته . فإذا شاء الحقّ تعالى نقل النفس والروح إلى دار البرزخ ، أمات الجسم بواسطة مَلَك الموت وأعوانه ، ثمّ تنشأ النفس في البرزخ النشأة النفسانيّة الثانويّة وتكون في عالمها البرزخي ، وكانت هي المشهود بحواسّها ومشاعرها ، فإنّ للنفس في ذاتها سمعاً وبصراً وذوقاً وشمّاً ، وهذه الحواس الدنيويّة ظلال تلك الحواسّ وحجاباتها ، أوَلاَ ترى أنّها تنفتح وتعمل فعلها عند رقود هذه الحواسّ ، كما في المنام - والنوم أخ الموت - . وهي أيضاً هناك مباشرة للأحكام وقادرة على الأفعال بنفس تلك الحواسّ ، لأنّ مبادي الحواسّ ومبادي الأفاعيل هناك متّحدة ، والإمدادات يومئذ متصلة بالجسم والروح بواسطتها ، وصورتها في البرزخ على صورة ما غلب عليها من الأعمال والأخلاق والنيّات . فقوله تعالى : { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [ الطارق : 8 ] - أي : على رجع النفس ، والتذكير بتأويل أنّها عين الإنسان المذكور صريحاً ، أو المخلوق المذكور ضمناً . و " اليَوم " ، في قوله : { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } ، يوم البرزخ ، وهو القيامة الوسطى ، إذ فيه تختبر سرائر النفس ، لأنّه يوم عَلَنَت الضمائر النفسيّة وخفيت الظواهر الجسميّة ، وفيه يحشر الناس على صُور نيّاتهم - كما ورد في الحديث - . وورد أيضاً : " يُحشر بعض الناس على الصورة تحسن عندها القردة والخنازير " . وذلك لاستيلاء الصفات الشهويّة والغضبيّة على نفوسهم أكثر ممّا تستولي على نفوس تلك الحيوانات ، وفيه يتميّز الخبيث من الطِّيب المشار إليه في قوله تعالى : { حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } [ آل عمران : 179 ] - الآية - وفيه امتياز المجرمين عن المؤمنين ، كما في قوله تعالى { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] . فالبرزخ عالم مستقلّ بين عالَمي الدنيا والآخرة المحضة ، كالشفق والفجر بين الليل والنهار ، وهو مستقرّ الأنفس والأرواح المنتقلة عن هذه الدار من بدو الزمان إلى حين انقضائه لقيام الساعة الكبرى ، والقيامة العظمى ، وله آيات تشير إليه : قال الله تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] . وقال : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] يعني دار البرزخ . ونبَّه عن الدار الآخرة بقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ، لأنّ فرعون وآله كانوا من أهل الشقاوة العقليّة ، والحجاب السرمدي عن رؤية ربّهم ، كما أشير إليه في قوله : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] . وذلك لمكنة استعداداتهم ، وعلوّ فطرتهم بسبب مزاولتهم العلوم الجدليّة والمحاجّات السفسطيّة . وممّا يدلّ على عالم البرزخ أيضاً قوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ } [ هود : 106 ] - الآيتان - يعني - والله أعلم - : جنّة البرزخ وجحيمه ، لأنّ مدّة الخلود فيهما مقدر بدوام السموات والأرض ، فإذا انقضى حكمهما جسماً ونفساً بالتبديل الأخروي إلى عالم العقل والجبروت وموطن الأرواح العقليّة ، انقضت مدة الخلود فيهما ، فخلودهما لأمد وجوده بشرط غيره . وليس كذلك دوام أهل الآخرة الكبرى ، إذ لا أمد لها ، ولا وجودها مقدّر بوجود غيرها . وممّا يدلّ على البرزخ قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران " . وما وري أيضاً عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " إنّ أرواح المؤمنين في حواصل طير بيض ، وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر ، ترتع في الجنّة ، وتأوي إلى قناديل معلّقة بالعرش " . وهذه حالة الروح في جنّة البرزخ ، حين تصوّر النفس بالصُّوَر الإنسانيّة البرزخيّة ، فهي في هذه الحالة في عالَم بين العالَمين : عالَم الأجسام وعالم الأرواح . فإذا أراد الله تعالى نقل الأنفس من دار البرزخ حين كمل اليوم الدنيوي ، نقلت الأنفس من البرزخ بنفخة الفزع ، وتعاد إليها الأجساد الدنيويّة كما قال الله تعالى : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [ النمل : 87 ] . ثمّ بيّن أنّ نفخة الفزع مختصّة بنقل الأنفس من دار البرزخ بقوله تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] . وقال أيضاً مخبراً عن النشأة الأخرويّة الروحانيّة بقوله : { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } [ العنكبوت : 20 ] وهذه نشأة تكون بعد صعق الأرواح حين يقول سبحانه : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه فيقول : - { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] وذلك لأنّ المجيب قبل ذلك هو الروح السامعة المجيبة المقرّة الطائعة ، فلمّا اجريت عليها هذه الوفاة الممّيزة لها بصفة الحدوث ، المنزّهة لبارئها بصفة القِدم ، لم تُجبْ . وهذا الصعق هو نهاية الأجل المسمّى عنده ، المعبّر عنه بخمسين ألف سنة . ثم يحي من هذا الصَعق بالنفخة الثانية بمزيد اختصاص التجلّي الأكمل في المظهر الأعظم المظهر للأسماء الباطنيّة التي نبّه عليها بقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على ما روي عنه : " فأحمده بمحامد لا أعرفها الآن " . ففي هذه النشأة الأخرويّة الروحانيّة ، كانت الروح هي المشهودة المباشرة للأحكام الأخرويّة ، والنفس والجسم مندمجان فيها مختفيان تحتها . وفي قوله تعالى : { ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ الروم : 11 ] إشارة إلى هذه النشآت الثلاث ، والله أعلم بسرائر الأمور .