Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 87, Ayat: 10-13)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وبيان ذلك : أنّ الخلق في كيفيّة قبول دعوة النبوّة وتبليغ الرسالة ، وإخراجهم بتعليم الهداية عن ورطة الضلالة ، ينقسمون إلى قسمين : منهم من ينتفع بتعليم الأنبياء ، ويتذكّر بتذكير المرسلين ، لأجل رقّة قلبه ، ولين طبعه ، وخوفه وخشيته من سوء العاقبة . ومنهم من لا ينتفع ولا يتذكّر . وذلك لغِلظة قلبه وجمود طبعه ، وغفلته عن عواقب الأمور ، ونسيانه أمر الآخرة وأمر النفس ، وكيفيّة عوده إلى النشأة الثانية . فالقسم الأوّل : هو المشار إليه بقوله : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } - فإنّ الخشية والتذكّر متلازمان ، كلّ منهما يوجب الآخرة فإنّ من سمع دعوة الأنبياء ثمّ خطر بباله أنّ هذه الدنيا واهية فانية ، داثرة فاسدة على كلّ حال ، فلو لم يشتغل بعمارة النشأة الآخرة ، فربما وقع في الهلاك السرمدي ، فقد حصل له الخوف ، فإذا حصلت له هذه الخشية ، تحمله على النظر في دعوة الأنبياء ، والتأمّل في أمور الآخرة ، ومراتب سعادة النفس وشقاوتها ، وما به نجاتها أو هلاكها ، وهذا التذكّر وهذا التذكير يبعثه على الاجتناب عن المعاصي والرذائل ، والاكتساب للطاعات والفضائل ، خوفاً من الهلاك والعذاب ، وطمعا للنجاة والراحة ، فهو الذي ينتفع بدعوة الأنبياء . وأمّا القسم الثاني : الذين لا ينتفعون بدعوتهم ، ولا تحملهم الخشية على تحصيل الدرجات ، وطلب التخلّص عن العقوبات ، فإليهم الإشارة بقوله تعالى : { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } . وذلك لأنّ من أعرض عن ذكر الآخرة لأجل تسلّط الشهوات الدنيويّة على قلبه ، واستيلاء الحرص في طلب المآرب الحيوانيّة من المال والجاه والنساء والبنين وغيرها على طبعه ، لا يكون بصدد استكمال النفس بالعلم والعمل ، ولا يشتغل بفعل الطاعات وترك المعاصي والشهوات ، فيتوغّل في الدنيا الدنيّة ، ويخلد إلى الأرض ، وتستحكم علاقته مع البدن والشهوات ، وتقوى محبّته لها ، وكلّ من اشتدّت محبّته وعلاقته لشيء ، فإن زال اشتدّت محنته ومصيبته عند مفارقته ومزايلته عنه ، فإذا مات الإنسان الذي تأكّدت علاقته الشوقيّة مع الدنيا ولذّاتها ، فقد فارق ما كان محبوباً ، وذهب إلى موضع ليس له به معرفة ولا له بأهل الآخرة انس ومعارفة ، فالبضرورة ، كان له أذى عظيم أعظم من احتراق هذه النار الدنيويّة التي هي النار الصغرى كلّ ذلك لأجل إعراضه عن الذكر في أمر آخرته عند رجوعه إلى بارئه ، كما في قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } [ طه : 124 ] وقد ظهر بالمشاهدة الروحانيّة للأنبياء ومن تبعهم حقّ المتابعة ، ظهوراً أوضح من المعاينة الحسيّة ، أنّ أصناف الآلام الأخرويّة المتعاقبة على روح من آثر الحياة الدنيا ، ثلاثة كلّها روحانيّة واقعة قبل مقاساة عذاب النار الجسمانيّة ، التي تكون في آخر الأمر ، وهي حرقة المشتهيات ، وخزي خجلة المفضّحات ، وحسرة فوت المحبوبات . وبيان كلّ منها يحتاج إلى بسط في الكلام لا يسعه هذا المقام . - وبالجملة - ، العذاب والألم ليس منحصراً في الإحراق بالنار ، والتجميد بالزمهرير اللذين مرجع التألّم فيهما إلى تفرّق الاتّصال في جوهر مباين لجوهر الروح التي لها نوع تعلّق جسمي ، وارتباط شوقيّ به وبأحواله ، بسبب ذلك ، يتألّم بفقد حالة من حالاته ، وبالحقيقة ، منشأ هذا التألّم الحاصل من النار الجسمانية ، الذي يكون أشدّ مراتب آلام الحسّية ، هو المحبّة والإلف بالبدن وهو جسم ، والأجسام خارجة عن حقيقة الروح . فإذا كان هذا حال الروح لأجل فقد الاتّصال أو الامتزاج بين أجزاء هذا المحبوب المباين عن ذات الروح ، فكيف يكون حالها عند وجدان الخلل والقصور والافتراق في جوهر ذاتها عند فقد آلات الوصول إلى مشتهياتها ومحبوباتها كلّها ، كما في قوله تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ54 ] . فهذه هي نار الله المعنويّة { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [ الهمزة : 6 - 7 ] ، التي نسبة إيلامها إلى إيلام هذه النار الجسمانيّة نسبة الروح إلى البدن في الوجود والإدراك ، وسائر الأشياء التي تتصّف بها الروح بالأصالة ، والذات والبدن بالتبعيّة والعَرَض ، فقوله سبحانه : { يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } - ، يمكن أن يكون إشارة إلى النار المعنويّة ، التي ملاكها عدم الإيمان مع الجحود والجهل المضادّ للعلم بالمعارف الحقّة الإلهيّة التي بها قوام الروح الإنسانيّة ووجودها الإستقلالي - كما برهن عليه في مقامه - ، مع اكتساب الرذائل في إيثار الدنيا على الآخرة ، وهي غير النار الجسمانيّة الصغرى التي ينضمّ إيلامها إلى إيلام الكبرى ، فإنّ ألم الكبرى يتعلّق بالروح لأجل ترك التذكّر لمعرفة الله بالجهل المركّب والرذائل النفسانيّة ، وألم الصغرى يتعلّق بالجسم لأّجل المعاصي البدنيّة والمظالم الحسيّة التي تشهد بها الجوارح والأعضاء . ويؤيّد ذلك ما قيل : الكبرى نار الآخرة ، والصغرى نار الدنيا . وقوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } - يرجّح ما ذكرناه وأشرنا إليه ، وبيانه بوجه إجمالي ؛ أنّ الحياة الأخرويّة وما به قوام الروح في النشأة الآخرة ، إنّما يكون بالمعرفة بأحوال المبدأ والمعاد ، وكيفيّة إنزال الكتب وإرسال الرسل ، والاعتقاد بحقيقة ما جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كما تدلّ عليه النصوص الشرعيّة والأحكام العقليّة ، وقد بسطنا القول فيه في بعض كتبنا الحكميّة الإلهيّة . وهذه الحياة الحاصلة للروح لأجل المعارف ، حياة روحانيّة ، وما به تزول هذه الحياة عنها - وهي الجهل المضادّ لها - ، هي نار معنويّة لا محالة ، فأقلّ مراتب الحية المستقرّة للروح الإنسانيّة عند الآخرة ، إنّما يحصل بتحصيل هذه المعارف الإيمانيّة على وجه يطمئنّ به القلب ، وإن لم يبلغ إلى درجة البرهان القطعي ، ولم يتجاوز عن الظنّ الغالب - كما في أكثر عوام أهل الإسلام - ، بشرط السلامة عن الهيآت الخبيثة الشديدة ، والرذائل الراسخة في القلوب ، وذلك أقلّ مراتب النجاة . ثمّ كلّما ازداد يقينا وانكشافا ، ازدادت حياته قوّة واستقرارا ، حتّى يلتذّ بلذّات النعيم الأخرويّ على وجه الكمال ، كإنسان تامّ الأعضاء ، صحيح المزاج ، قوي القوى الإدراكيّة . وأمّا فاقد أصل الإيمان أو العمل رأساً ، فهو بمنزلة إنسان مقطوع الأعضاء والأطراف ، الذي لا استقرار لحياته الجسمانيّة ، فكما أنّ من هذا حاله في الدنيا يقال : " إنّه متوسّط بين الحياة والموت في الدنيا " ، فكذلك حال الروح التي ليس لها معرفة حقيقيّة ولا اعتقاد حقّ ، حالها في الآخرة أنّها : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } . فقد ظهر أنّ الله تعالى - لسابق قضائه الأزلي - نظّم ترتيب العالم الأخرويّ على وفق نظام العالم الدنيوي ، فكما أنّ بعض الناس بحسب الحالة الدنيويّة سعيد وبعضهم شقيّ ، فهكذا في الآخرة ، بعضهم سُعداء أخيار ، وبعضهم أشقياء أشرار ، كلّ ذلك يدل على علمه بوجه النظام الأوفق . وقدرته على إيجاد كلّ مرتبة من الوجود واعطائه لكلّ شخص ما هو له أليق . وكما أنّ السعادة قسمان : دنيويّة وأخرويّة . والدنيويّة قسمان : داخليّة - كالصحّة والسلامة - ، وخارجيّة - كترتّب أسباب المعاش ، وحصول ما يحتاج إليه من المال والجاه - . والأخرويّة أيضا قسمان : علميّة - كالمعارف والحقائق - ، وعمليّة - كالطاعات والخيرات - ، فكذلك تتعدّد أقسام الشقاوة بإزائها ، لكنّ السعادة والشقاوة بحسب العلم والجهل ذاتيّتان أزلاً وأبدا ، مخلّدتان دائماً وسرمداً . وأمّا بحسب الأعمال الحسنة والسّيئة فتترتّب عليها المجازاة والمكافاة ، وتتقدر بحسبها المثوبات والعقوبات ، كقوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ التوبة : 82 ] فلا يكون أصحاب هذه الشقاوة مخلّدين إلاّ ما شاء الله ويتركّب بعضها مع بعض ويتفرّد ، إلاّ أنّ أكثر السيئّات وأكبرها يتبع الجهل المركّب ، وأغلب الحسنات وأعظمها يتبع العلم . ولهذا قد وقعت أوّلاً الإشارة إلى قسمة الخلق بالسعادة والشقاوة اللتين بحسب العلم والجهل - المعبّر عنهما بالتذكّر والتجنّب - إلى من يخشى بسبب تذكّره الأمور الآخرة ، والى من لا يخشى بجهله وغفتله عنها ، وبيّنت وخامة عاقبة الموصوف بشقاوة الجهل بأشدّ وجه ، حيث عبّر عنه بصيغة التفضيل ، المشعر بأنّ شقاوة الجهل أعظم من شقاوة المعاصي البدنيّة ، وأوعَد عليه بصِلّي النار الكبرى المعنويّة التي إيلامها أشدّ مراتب الإيلام . ثمّ أخبر بأنّه لا رتبة له في الوجود ، لكونه كسائر الأشياء الضعيفة القوام والوجود - كالهيولى والزمان والحركة التي لا قوام لها في أنفسها إلاّ بأمر خارج عن ذاتها كالمحلّ وغيره - ، وذلك لأن قوام الدار الآخرة بالمعارف ، فمَن لا معرفة له لا حياة له ولا موت أيضاً ، لأنّ الروح الإنسانيّة الناطقة لا تفسد بالكليّة - كما برهن عليه - ، فلها عند قصورها عن درجة التمام حالة متوسّطة بين الحياة المستقرّة والوجود الاستقلالي ، وبين الموت والعدم المحض . وأهمل بيان عاقبة الموصوف بسعادة العلم ، لعدم إمكان تفهّم الناس كيفيّة ما وعد للعرفان الإلهيّين - وأعدَّ لهم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - ، فبعد ذلك وقعت الإشارة منه إلى قسمة الناس بالسعادة والشقاوة بحسب العمل ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى .