Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 15-17)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱسْتَفْتَحُواْ } أي وٱستنصروا أي أذِن للرسل في الاستفتاح على قومهم ، والدعاء بهلاكهم قاله ابن عباس وغيره ، وقد مضى في « البقرة » . ومنه الحديث : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين ، أي يستنصر . وقال ابن زيد : استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية . وروي عن ابن عباس . وقيل قال الرسول : « إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحاً » وقالت الأمم : إن كان هؤلاء صادقين فعذّبنا ، عن ابن عباس أيضاً نظيره { ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [ العنكبوت : 29 ] { ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 77 ] . { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً هكذا هو عند أهل اللغة ، ذكره النحاس . والعنيد المعاند للحق والمجانب له ، عن ٱبن عباس وغيره يقال : عَنَد عن قومه أي تباعد عنهم . وقيل : هو من العَنَد ، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية مُعْرِضاً قال الشاعر : @ إذا نزلتُ فٱجعلوني وَسَطَا إنّي كبيرٌ لا أُطِيقُ الْعُنَّدَا @@ وقال الهَرَويّ قوله تعالى : { جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي جائر عن القصد وهو العَنُود والعَنِيد والعانِد وفي حديث ٱبن عباس وسئِل عن المستحاضة فقال : إنه عِرْقٌ عانِدٌ . قال أبو عبيد : هو الذي عَنَد وبَغَى كالإنسان يعانِد فهذا العِرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته . وقال شَمِر : العاند الذي لا يرقأ . وقال عمر يذكر سِيرته : أَضُمُّ العَنُود قال الليث : العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبداً أراد من هَمَّ بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفتُ به إليها . وقال مقاتل : العنِيد المتكبر . وقال ابن كَيْسان : هو الشامخ بأنفه . وقيل : العَنُود والعَنِيد الذي يتكبر على الرسل ويذهب عن طريق الحق فلا يسلكها تقول العرب : شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق . وقيل : العنيد العاصي . وقال قتادة : العنيد الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله . قلت : والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد ، وإن كان اللفظ مختلفاً ، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر . وقيل : إن المراد به في الآية أبو جهل ذكره المهدويّ . وحكى الماورديّ في كتاب « أدب الدنيا والدين » أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوماً في المصحف فخرج له قوله عز وجل : { وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } فمزق المصحف وأنشأ يقول : @ أتُوعِدُ كلَّ جَبَّارٍ عَنِيدِ فها أنا ذاكَ جبَّارٌ عَنِيدُ إذا ما جِئتَ ربَّكَ يوم حَشْرٍ فَقُلْ يا رَبِّ مَزَّقنيِ الوليِدُ @@ فلم يلبث إلا أياماً حتى قُتل شرّ قِتلةٍ ، وصُلِب رأسه على قصره ، ثم على سُور بلده . قوله تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } أي من وراء ذلك الكافر جهنم ، أي من بعد هلاكه . ووراء بمعنى بعدُ قال النابغة : @ حَلَفتُ فلم أتركْ لِنفسكَ رِيبةً وليس وراءَ اللَّهِ للمرء مذهبُ @@ أي بعد الله جلّ جلالُه ، وكذلك قوله تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي من بعده ، وقوله تعالى : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } [ البقرة : 91 ] أي بما سواه قاله الفراء . وقال أبو عبيد : بما بعده . وقيل : « مِنْ وَرَائِهِ » أي من أمامه ، ومنه قول الشاعر : @ ومِنْ ورائِكَ يومٌ أنتَ بالِغُه لا حاضرٌ مُعِجزٌ عنه ولا بادِي @@ وقال آخر : @ أَتَرْجُو بنو مروانَ سمعِي وطاعتِي وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا @@ وقال لبيد : @ أليس ورائِي إنْ تَراختْ منِيَّتيِ لُزومُ العَصَا تُحنَى عليها الأصابعُ @@ يريد أمامي . وفي التنزيل : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } [ الكهف : 79 ] أي أمامهم وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو عليّ قُطُرب وغيرهما . وقال الأخفش : هو كما يقال هذا الأمر من ورائك ، أي سوف يأتيك ، وأنا من وراء فلان أي في طلبه وسأصل إليه . وقال النحاس : في قوله « مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ » أي من أمامه ، وليس من الأضداد ولكنه من توارى أي ٱستتر . وقال الأزهري : إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد ، وقاله أبو عبيدة أيضاً ، واشتقاقهما مما توارى واستتر ، فجهنم تَوَارَى ولا تظهر ، فصارت من وراء لأنها لا ترى حكاه ابن الأنباري وهو حسن . قوله تعالى : { وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } أي من ماء مثل الصديد ، كما يقال للرجل الشجاع أسد ، أي مثل الأسد ، وهو تمثيل وتشبيه . وقيل : هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم . وقال محمد بن كعب القُرَظيّ والربيع بن أنَس : هو غسَالة أهل النار ، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني . وقيل : هو من ماء كرهته تَصدّ عنه ، فيكون الصديد مأخوذاً من الصدّ . وذكر ابن المبارك ، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عُبيد الله بن بُسْر عن أبي أُمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } قال : " يُقرَّب إلى فِيهِ فيكرهه فإذا أدني منه شَوَى وجهه ووقعت فَرْوة رأسه فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله : { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [ محمد : 15 ] ويقول الله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ } [ الكهف : 29 ] " خرجه الترمذي ، وقال : حديث غريب ، وعُبيد الله بن بُسْر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبد الله بن بُسْر . { يَتَجَرَّعُهُ } أي يَتَحَسَّاه جُرَعاً لا مرة واحدة لمرارته وحرارته . { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي يبتلعه يقال : جرع الماء وٱجترعه وتجرعه بمعنى . وساغ الشَّرابُ في الحلق يسوغ سوغاً إذا كان سَلِساً سهلاً ، وأساغه اللَّهُ إساغةً . و « يَكَادُ » صلة أي يسيغه بعد إبطاء ، قال الله تعالى : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] أي فعلوا بعد إبطاء ولهذا قال : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُود } [ الحج : 20 ] فهذا يدلّ على الإساغة . وقال ابن عباس : يجيزه ولا يمر به . { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } قال ابن عباس : أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله ، ومن فوقه وتحته ومن قدّامه وخلفه ، كقوله : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] . وقال إبراهيم التيمي : يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره للآلام التي في كل مكان من جسده . وقال الضحّاك : إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه . وقال الأخفش : يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتاً ، وهي من أعظم الموت . وقيل : إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكِّل به نوع من العذاب لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة إما حية تَنهشه ، أو عقرب تَلسبه ، أو نار تَسفعه ، أو قيد برجليه ، أو غُلّ في عنقه ، أو سلسلة يقرن بها ، أو تابوت يكون فيه ، أو زقّوم أو حميم ، أو غير ذلك من العذاب . وقال محمد بن كعب : إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتاتٍ ، فإذا دنا منه مات موتاتٍ ، فإذا شرب منه مات موتاتٍ فذلك قوله : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } . قال الضحّاك : لا يموت فيستريح . وقال ابن جريج : تعلق رُوحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة ونظيره قوله : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } [ طه : 74 ] . وقيل : يخلق الله في جسده آلاماً كل واحد منها كألم الموت . وقيل : « وَمَا هُوَ بِميِّتٍ » لتطاول شدائد الموت به ، وٱمتداد سكراته عليه ليكون ذلك زيادة في عذابه . قلت : ويظهر من هذا أنه يموت ، وليس كذلك لقوله تعالى : { لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] وبذلك وردت السنة فأحوال الكفار أحوال من ٱستولى عليه سكرات الموت دائماً ، والله أعلم . { وَمِن وَرَآئِهِ } أي من أمامه . { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي شديد متواصل الآلام من غير فتور ومنه قوله : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة } [ التوبة : 123 ] أي شدة وقوة . وقال فُضَيل بن عِياض في قول الله تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } قال : حبس الأنفاس .